(هذه الدراسة مهداة إلى روح العقاد والرافعي والمازني وزكي مبارك ومحمود شاكر)
د.إبراهيم عوض
(4/4)
بقيَتْ في طريقة السرد كلمة لا أحب أن تفوتني لأهميتها، ألا وهي أن محمودا راوي الفصل الأخير قد مات في انفجار المعبد في نهاية الرواية. فمن يا ترى نقل لنا كلامه هذا؟ هذه نقطة ضعف شديدة في الرواية. ولقد أذكر أنني قد أخذت ذات المأخذ على رواية محمد كمال محمد: "الحب في أرض الشوك" في مقال لي كنت نشرته في منتصف الثمانينات من القرن البائد في صحيفة "الوفد"، إذ المنطق يقول: إن الموتى تندفن أسرارهم معهم!. لكنّ لبعض المؤلفين منطقا آخر، منطقا أعوج، فهم لا يتنبهون إلى تلك البديهية. والطريف أن مأمور سيوة يظل يروي ما حدث حتى وهو يفجّر المعبد، بل حتى وهو يموت. أمعقول هذا؟ لكن غير المعقول قد بات معقولا على يد كاتبنا. كيف؟ هذا ما لا أدريه! إن أحدا من الناس لم يكن يعلم شيئا عما انتواه البطل من تفجير المعبد، وكذلك لم يكن أحد معه وهو في الطريق إلى هناك، ولا كان هناك أحد حاضرا عملية التفجير... إلخ.
ولعله يكون من المفيد أن نلفت النظر أيضا إلى أن سرد كل راوٍ إنما يتعلق بما وقع له أو وقع منه أو شاهده أو سمعه قبيل سرده، فهو إنما يسرد ما يسرده أولا بأول. أي أنه لم ينتظر حتى تنتهي الرواية ثم يبدأ السرد، بل يسرد سردا طازجا في كل مرة، أو على أقل تقدير: في معظم الأحيان. وهذا يقودنا إلى السؤال التالي: على من كان السُّرّاد يَسْرُدون حكاياتهم؟ ومن الذي نظم الأمر بحيث يتتابعون على النحو الذي تتابعوا به في سردهم؟ وما فلسفة هذا كله؟ لكن للأسف لا جواب على شيء من هذه الأسئلة!
أما بالنسبة إلى لغة الكاتب فرغم ما سمعته منه في حلقتي التفاز المذكورتين عن تفوقه المبكر في مادة "اللغة العربية" وثناء أساتذته في المدرسة على كتاباته، ورغم ما في لغته من سلاسة وانسيابية وما هو واضح لديه من رغبة في التجويد والتجميل، ثَمّ أخطاء في الرواية لا أعرف السبب في وقوعه فيها، أو على الأقل: في عدم تنبهه لها بعد وقوعها منه، وإن لم تكن بالكثرة ولا بالشناعة التي نجدها عند آخرين.
وهذه مجرد أمثلة على ما أقول. وكنت قد كتبت قائمة بعدد من تلك الأخطاء في صفحة من صفحات الـ"وورد"، إلا أنها ضاعت وضاع أيضا معها كل ما كنت سجلته من ملاحظات فنية على الرواية. وعبثا حاولت على مدى ليلتين استرداد ما ضاع، ولا أدري أين ذهب هذا كله!؟. وكان عليَّ أن أعتمد على الذاكره ومراجعة الرواية من جديد في كل شيء أكتبه هنا. ومن ثم أكتفي الآن ببعض ما سقط فيه المؤلف من غلطات لغوية واضحة تمام الوضوح، مثل "لا بد وأني مبسوط" (ص10.
والصواب حذف حرف الواو بعد "لا بد")، "مُحْنِيًا رأسه" (ص18. والصواب: "حانيًا")، "مُوَلِّيًا وراء ظهري الخيمة والواحة المهجورة" (ص42. والصواب: "مُوَلِّيًا ظهري الخيمة والواحة المهجورة")، "أليس غريبا أن كل حديث عن ضريح الإسكندر في الإسكندرية والذي كان أشهر معالمها ومقصد زوارها قد انقطع فجأة بعد القرن الرابع؟" (بزيادة واو قبل "الذي"، بين النعت ومنعوته، وهو ما لا يصح. وأنا أسمي هذه الواو بـ"الواو اللعينة"/ ص102)، "كان النداء يستمر أيامًا وليالٍ بأكملها" (ص108. والصواب: "لياليَ" عطفا على ظرف الزمان: "أيامًا").
"غير أن نافورة الدم التي انبثقت من جرحه أمام عيني ولطختني أرجعت الإسكندر الذي بعثرته الخمر كثيرا من الناس والآلهة ليصبح إسكندر واحدا" (ص118. والصواب: "ليصبح إسكندرًا واحدا" بتنوين "إسكندر" تنوينَ التنكير، وهو التنوين الذي يدخل على أسماء الأعلام في مثل هذاالسياق ليدل على أن الإسكندر المذكور هو إسكندر مجهول غير محدد)، "أهي طلقة المدفع... أو هو سجن الشيخين؟" (باستخدام "أو" مع همزة الاستفهام، والصواب استخدام "أم" بدلا منها، أما "أو" فتختص بمصاحبة "هل"/ ص186)، "همستْ في أذني...: إن من الأفضل أن أصحب وصفي على العشاء حتى ترتاح فيونا" (والصواب: "أصطحب"، إذ المقصود أن يُحْضِر المأمور مرؤوسه وصفي ليتعشى في بيته/ ص191)..
أما قوله: "قتلوا المأمورين نفسيهما" (ص21) فلا أريد أن أخطئه استنادا إلى أن النحويين يقولون: إن الضمير المؤكِّد في حالة التثنية هنا لا يُثَنَّى بل يُجْمَع، فنقول: "قتلوا المأمورين أنفسهما"، لأن المؤلف، وإن خرج على القاعدة هنا، فقد خرج على قاعدة شبه مجهولة، ومن ثم كان له عذره، كما أنه بخروجه هذا قد رجع إلى الأصل. وهذا يذكّرني بردي على من خَطَّأَ أمامي قولنا مثلا: "الكتاب الواحد والعشرون" متحججا بأن الصواب هو "الحادي والعشرون"، إذ كان جوابي أن "الواحد" هي الأصل، أما "الحادي" فمنقلبة عن ذلك الأصل. وظللت أنقب في بطون الكتب المبسوطات حتى عرفت أيضا أن من العرب من كان يقول: "الرجل الواحدَ عَشَرَ"، بل كان هناك من يقول في العدد أيضا: "واحدَ عَشَرَ رجلاً".
ولست أقصد بهذا الإحصاء إلى التقليل من شأن أسلوب المؤلف، فليس هذا من غايتي، بل كل ما أريده أن تظل لغتنا محترمة يُعْمَل لها ألفُ حساب وحساب، وهذا لا يكون إلا بمثل تلك المراجعات التي أحتاجها أنا أيضا كما يحتاجها أي صاحب قلم. وكُلُّنا في هذه الحالة يكمّل كُلَّنا، إن صح هذا التعبير الذي افترعته الآن، والذي قد ينتشر، وهو ما أريده وأتمناه، وربما لا يجد طريقه إلى الشيوع. ولكي يتأكد القارئ من حسن نيتي أصرح له بأنني حين قرأت قول الكاتب على لسان كاثرين: "فأسرعتُ خطوتي" خطر لي للتو ما يغلب على الذهن من أن الفعل: "أسرع" فعل لازم، لا متعدٍّ كما استعمله الكاتب هنا.
لكني كعادتي قلت لنفسي: فلنفتح المعاجم لنتأكد من هذا. وفي "تاج العروس" وجدت الزبيدي يتعرض لهذه النقطة بعينها وكأنه كان معي على ميعاد، إذ كتب أن ابن جني كان يرى أنها تأتي متعدية مثلما تأتي لازمة. ثم ساق الزبيدي حديثا منسوبا للرسول عليه الصلاة والسلام استُعْمِل فيه هذا الفعل متعديا في سياق يكاد يكون هو السياق الذي نحن فيه. يقول الزبيدي: "واستعمَلَ ابنُ جِنِّي "أَسْرَعَ" مُتَعَدِّيًا، فقال (يعني العرب): فمنهم من يَخِفُّ ويُسْرِعُ قَبُولَ ما يَسْمَعُه. فهذا إمّا أن يكون يَتَعَدَّى بحرفٍ وبغيرِ حرفٍ، وإمّا أن يكونَ أرادَ إلى قَبُولِه، فَحَذَفَ وأَوْصَلَ. ومنه الحديثُ: إذا مَرَّ أحَدُكم بطِرْبالٍ مائلٍ، فليُسْرِعِ المَشْيَ". وإني لأشكر الكاتب أن أتاح لي باستعماله ذاك مراجعة هذه المعلومة وتحريرها. وبالمناسبة فـ"الطربال" هو الجدار العالي المائل أو القطعة المشرفة من الجبل وما أشبه.
وبالمناسبة أيضا أود أن أوضح للقارئ العزيز أنه قد غبر عليَّ وقت كنت أظن أن اللغـــة العربيـــة تتميز، فيما تتميز به عن الإنجليزيـــــة، بأن الأفعال التي تستعمل لازمة ومتعدية معا أفعال نادرة جدا عندنا على عكسها عند الإنجليز، مثل: "to meet, to change, to move, to pass, to sell, to drop..."، التي تعني على التوالي: "يقابل- يتقابل، يغيّر- يتغير، يحرك- يتحرك، يمر- يمرّر، يبيع- يباع، يَسْقُط- يُسْقِط..."، وكنت أتصور أنها لدينا لا تعدو فعلَيْ "زاد" و"نقص" تقريبا، لكن لما اتسعت معارفي اللغوية وازداد تنقيري عن أسرار اللغة تبين لي أن هذا الضرب من الأفعال أكثر مما تصورت في البداية، ومنه: "سكب" (أراق وانسكب)، و"عصم" (حمى واحتمى)، و"هلك" (هلك وأهلك)، و"رجع" (عاد وأعاد)، و"أعدم" (افتقر وأفقر)، و"دان" (أصبح مدينا لغيره وأدان غيره)..
وهناك من كتبوا عن الرواية فذكروا دورها في محاولة إقامة جسر من التفاهم بين الشرق والغرب على اعتبار أن كاثرين تمثل ذلك الغرب، فيما يمثل محمود الشرق. فأما محمود فهو زان عربيد يشرب الخمر، وإن مر عليه وقت كان يصلي فيه ويشارك في حلقات الذكر في شبابه، ولكنْ دون تدين قوي، بل مجاراة لما حوله فقط، مع نوبة صحو حادة بين الحين والحين الآن لدقائق قليلة يغتسل فيها وينخرط في الصلاة باكيا ثم ينجاب كل شيء. وهو على النقيض من كاثرين، التي لا تشرب الكحوليات، ولا تطيق زوجها حين يسكر، وتتعلق بالزواج وترى فيه واحتها التي تمدها بالظل والأمان. فأين الشرق في تجاليد شخصية كهذه؟ وأما كاثرين فأيرلندية، ومن ثم لا تتكبر ولا تفكر في استغلال الشرق ولا تكرهه، أو المفترض أنها كذلك.
وقد ذكرت الرواية هذا في البداية حين ظن محمود أنها إنجليزية فعاملها بجفاء، لكنها أفهمته أنها، وإن كانت بريطانية، ليست في الواقع إنجليزية بل أيرلندية مظلومة، لأن أيرلندا بلد تحتله جيوش الإنجليز مثل مصر. نعم ونعام عين!.. لكنها مع ذلك غربيّة في نهاية المطاف، وأيرلنديتها لا تَجُبّ غربيتها، بل تظل هذه الغربية كامنة تحت الرماد إلى أن توافيها اللحظة المناسبة فتتوهج وتتلظى وتحرق. وانظر إلى ما ذكرته هي نفسها عن أبيها، الذي علَّمها حب الشرق، فهي تقول: إن الشرق الذي كان يحبه إنما هو شرق الماضي، شرق التاريخ، أما الشرق الحي فينبغي تجنبه.
ومن هنا ما كان له أن يرضى عن زواجها من محمود كما أكدتْ: "لو كان (أبي) حيا الآن لرأى في كل ما يحدث لي مع محمود (تقصد بدواته ونزواته وصراحته معها فيما يتعلق بمن كان وما زال يعرفهن من نساءٍ غيرها بحجة أنه لا يستطيع الكذب، وأن المشكلة هي جسده الظامئ دوما للنساء، وتألمها منه بسبب ذلك) عقابا أستحقه. ما كان ليوافق أبدا على هذا الزواج من الأصل، وهو الكاثوليكي الغيور، مع أنه أول من علمني أن أحب الشرق وأعشق آثاره. نعم أثار فضولي بالذات إلى ما تركه اليونان والرومان من آثارٍ ما زالت مجهولة، ولكن بالطبع بشرط أن أبقى بعيدة عن ناس الشرق الأحياء. هم فقط مستودع التاريخ. يجب أن أتذكر دائما أنني أيرلندية وكاثوليكية". ليس ذلك فقط، بل إن أمها أيضا لتنفر من هذه الزيجة كنفور أبيها (ص22).
وعلى أية حال فإن الرواية لا تعطينا الأمل في قيام تفاهم بين الشرق والغرب، إذ قد خبا الحب المشتعل الذي كان يربط كاثرين بزوجها وتحوَّل كل شيء إلى ملل وضيق وتباعد في المشاعر وأحاسيس الجسد، ولم يعد للجنس، وهو الرمز الذي يعشقه الروائيون العرب في الكلام عن الغرب والشرق والصلة التي ينبغي أن تسود بينهما، ذلك السحر الذي كان له في البداية.
وتقلص التفاهم بينهما حتى لم تعد كاثرين تطيع زوجها في أي أمر مهما بدت فائدته المحققة، أو تنتهي عما ينهاها عنه ولو بدا خطره المحدق. وهذا يدل على أن الحب قد ولى، وولت معه نشوة الجسد في الفراش، وولى كذلك التفاهم المزعوم بين الشرق والغرب، وهذا هو الدليل. ومن الغريب أن يتلخص اهتمام كاثرين بمحمود في الممارسة الجنسية وكأنها كل شيء في حياتها مع أن في حياتها وفي الدنيا بوجه عام أشياء أخرى كثيرة لذيذة ومُبْهِجَة.
وشيء آخر، ألا وهو أن السبب الذي أوقع كاثرين في شراك الحب مع محمود ليس بالسبب الوجيه. ترى هل يكفي أن تسأل كاثرين محمود فوق سطح الباخرة التي كانت تستقلها متجهة إلى أسوان عن الوقت المتبقي من الرحلة حتى وصولهم إلى غايتهم فيجيبها بأنه لا يعرف، وأنه واحد من حرس الذهبية المرافقين لإحدى الشخصيات المهمة بالدولة، كي تسقط تلك في شراك حبه وتتوله به؟ تقول: إن كل الرجال المصريين الآخرين كانوا ينظرون إليها بعيون ذليلة تسيل بلعاب الشهوة كأنهم شحاذون، لتصورهم أنها إنجليزية، أي من السادة، على عكسه هو، إذ لم يتقدم نحوها لتحيتها حين سألته كما يصنع الضباط والرجال الآخرون جميعا: "ومن وقتها بقيتُ معه في الذهبية وعلى النيل وفي شوارع أسوان ومعابد الأقصر، ثم في القاهرة عندما عقدنا زواجنا.
ظل وقتا طويلا مترددا في الاقتراب مني وأنا التي أتكلم معظم الوقت. أظن أن الانقلاب أتى عندما عرف أني أيرلندية وأني أكره الإنجليز لأنهم يحتلون بلدي كما يحتلون بلده، وأشعر بجنسيتهم التي أحملها عارا سأتخلص منه يوم تستقل أيرلندا. بعدها انهار سد بيني وبينه. انتهت مقاومته التي كنت أراها مثلما أرى الحب في عينيه..." (ص17-18). أمن السهل أن تقع أوربية، حتى لو كانت أيرلندية ككاثرين، في غرام مثل ذلك المتردد الخجول الذي لا يعرف كيف يتكلم معها، بَلْهَ أن يكون وقوعها في حبه بهذا الشكل المتضرّم؟
إن مثل ذلك الغرام لأشبه بامرأة مصرية لم تَخْبُر الرجال، وتفتنها ملابس الضباط والشريط المقصب الذي يعلقونه على أكتافهم كما حدث لعائشة بنت السيد أحمد عبد الجواد في فِيلْم "بين القصرين" لنجيب محفوظ، تلك التي كانت أختها خديحة القبيحة ذات اللسان السليط والغيرة العنيفة تتهكم بها فتغني بصوتها الأجشّ الأخنّ نكاية بها: "يا أبو الشريط الأحمر يا اللي...". أما هنا فإني فأستبعده. زد على هذا أننا، مع كاثرين، إزاء امرأةٍ أوربية مخضرمة جربت عالم الرجال فتزوجت قبل ذلك، امرأة واسعة الخبرة راقية الثقافة، بل خبيرة في الآثار تتقن عددا من اللغات القديمة والحديثة وطافت ببلاد العالم، وليست فتاة أمية جاهلة ضيقة الأفق قعيدة البيت حبيسته كعائشة.
كما أني لا أتصور للحظة أنها كانت تتمسك أو تهتم بقيمة العفة وصيانة العِرْض والشرف. من ثم فإني لا أستطيع أن أقتنع بوقوعها هذا السريع في الغرام بمحمود المحدود الثقافة الذي لا يبدي أي اهتمام بشؤون الفكر، فضلا عن الآثار بالذات، علاوة على أن إنجليزيته عند معرفتها به كانت جِدَّ ركيكةٍ كما قالت هي نفسها.
ومما أبدأ المؤلف وأعاد القول فيه الكلامُ عن أزمة محمود عبد الظاهر، تلك الأزمة التي ذكرت الرواية أنها انتهت بإقدامه على تفجير المعبد والانتحار تحت أنقاضه المنهارة. ذلك أن محمود لم يكن بالشخص الذي يمكن أن يشعر بأزمة. إنه يعيش حياته كيفما اتفق: فهو متدين كأتباع الطرق الصوفية حين يجد نفسه بين هذا الصنف من الناس، وهو عربيد سِكّير متى أتيح له الجو، وهو يشترك في هوجة عرابي حين يجد نفسه في أتون المعركة التي كان الجيش المصري يخوضها ضد الجيش البريطاني، وإن لم يخل في الواحة من الشك في جدية تلك المشاركة، وهو يُظْهِر التنكر لمبادئ الثورة العرابية عندما يؤول أمرها إلى الإخفاق، مع إحساسه بأن هذا التنكر هو خيانة مخزية، وهو ما لا أجاريه عليه لأن ما صنعه وقتئذ هو أمر مشروع لا غبار عليه في ظل الملابسات التي كانت سائدة أوانذاك، فالمهم ما يجنه الضمير، وإلا عرض نفسه للهلاك دون أدنى طائل لا لنفسه ولا للحركة العرابية ومبادئها، إذ هو مجرد فرد لا يسمن ولا يغني من جوع، ومن الخير أن يكتم موقفه إلى أن تَتِيح فرصةٌ أفضلُ لخدمة مبادئ الثورة.
وقد وقع من بعض الصحابة أن ساير الكفارَ حين عذبوه تعذيبا مروِّعا يهدفون إلى إجباره على الكفر بالله وبالرسول، وهو ما لم يستطع الاستمرار في تحمله فقال لهم بلسانه ما أرادوه، ولما ذهب إلى الرسول فزعا مرتاعا ظنا منه أنه قد كفر فعلا طمأنه الرسول بأن إيمانه باقٍ لم يُمَسّ، وأذن له أن يعود إلى صنع ما صنع إن عاد الكفار إلى تعذيبه. ذلك أن الوقوف في وجههم في مثل تلك الظروف ليس سوى انتحار مؤكد، وهو ما لا يقبله الإسلام ولا العقل، ولا يتناسب والمعركة الطويلة الأنفاس. ولا أستطيع إذن أن أجد مسوغا لانتحار محمود، وبخاصة أن أمثاله ليسوا بالذين يمكن أن يقدموا هكذا على الانتحار. كما أن فتور العلاقة بينه وبين زوجته الأيرلندية لا يمكن أن يكون سببا من أسباب تلك الأزمة المزعومة، إذ كثيرا ما تفتر العلاقة بين الزوجين مثلما حدث لمحمود وكاثرين وأكثر دون أن تحدث لأي منهما أزمة. وكثيرا ما صارح محمود زوجته بأنه على علاقة بغيرها من النساء، مما يدل على أنه لم يكن ليعبأ بذلك الفتور، أو على الأقل: كان بمكنته أن يطلق كاثرين ويتزوج غيرها.
كذلك قد ركزت الرواية على تردده في الإقدام على إنقاذ الصبي الحمّار حين سقط من سقف المعبد حجر كبير كاد أن يسحقه وهو راقد في ظل نخلة قريبة في الوقت الذي سارع الأومباشي إبراهيم إلى هذا الإنقاذ الذي كلفه هو تهشيم ساقه بدلا من الصبي ولام نفسه بسببه. ذلك أن الوقت كان من الضيق بحيث لم يكن بمقدور كثير من الناس أن يبادروا إلى اتخاذ تلك الخطوة الشجاعة التي ليس هناك دين ولا خلق يوجب مع ذلك اتخاذها على الإنسان، بل إن الإنسان لا يكون مستعدا للقيام بها اللهم إلا في حالات دفاعه عن دينه أو وطنه مثلا، أو لدى تعرض فلذة كبده لخطر ماحق، وإن لم يمنع هذا أن نمجد الشخص الذي يقدم عليها بوصفه شخصا مثاليا، بل مفرطا في المثالية لا نظير له كثير بين الناس. ومع هذا فقد اتخذ محمود هذه الخطوة، ولكن بعد أن كان إبراهيم قد سبقه إليها.
وشيء آخر هو أن الصبي كان نائما في ظل نخلة كانت هناك، والنخلة لا يمكن أن تكون موجودة في حرم المعبد بل في خارجه، وعلى وجه التحديد مواجِهةً له بنص كلام الرواية، ومن ثم لا أدري كيف يمكن أن يسقط فوقه الحجر، اللهم إلا أن يكون السقف قد رماه في اتجاهه عمدا، حارفا بذلك مساره الذي لا يمكن أن يكون إلا عموديًّا فجعله بزاوية منفرجة، وهو ما لا يمكن بطبيعة الحال إلا إذا قلنا ذلك على سبيل التهكم ليس إلا! ليس ذلك فحسب، بل إن حادثة سقوط الحجر كلها لا دور لها في الرواية، إذ إن مسار الرواية بعدها لم يختلف عما كان قبلها، إلا إذا قلنا: إن المؤلف قد ضمنها روايته كي يرينا أن الطب الشعبي قد ينجح أحيانا حيث يفشل الطب العصري. ولكن هل هذا مسوّغٌ كافٍ لتضمين الرواية مثل تلك الحادثة؟ الحق أن حادثة الانتحار تمثل نقطة ضعف رهيبة في الرواية لأنها غير مسوَّغة على الإطلاق. كما أن المعبد لا ذنب له فيما وقع في الواحة من محمود أو من زوجته أو من أختها أو من اليوزباشي وصفي أو من الشيخ صابر أو من الشيخ يحيى حتى يفكر محمود في هدمه خروجا من الأزمة، إن صح تسمية الانتحار: خروجا من الأزمة، وليس إيغالا فيها.
ومن الواضح تماما أن المؤلف قد التوت عليه الرواية ولم يستطع أن يفك خيوطها المتشابكة فلم يجد حلا لتلك المشكلة إلا أن ينهي الرواية بأي سبيل، وهو ما خطر له معه أن إنهاءها بتفجير المعبد وانتحار البطل سبيل مقنع، لكن هيهات ثم هيهات!.. ذلك أن هذا الانتحار يترك كل شيء دون حل: فلا فيونا قد شُفِيَتْ من ربوها الذي بوغتنا بإصابتها به بما يدل على أن المؤلف قد اخترعه في آخر لحظة كي يأتي بفيونا إلى سيوة فلم يمهد له تمهيدا كافيا، ولا وصفي اليوزباشي الشركسي قد مُنِع عن تنفيذ ما جاء إلى الواحة لتنفيذه، ولا كاثرين قد وصلت إلى شيء في قضية قبر الإسكندر، ولا الشيخ صابر قد برئت نفسه من الدَّخَل الذي فيها واستقام على الطريقة، ولا الشيخ يحيى أطيب رجال الواحة وأصفاهم قلبا قد وجد السلام المنشود، ولا الأومباشي إبراهيم قد نال حقه من اليوزباشي وصفي، الذي صفعه دون أدنى داع على وجهه سوى أن يَفُشّ فيه غليله، فلجأ إلى محمود كي يعطيه حقه، فوعده بأن يأخذ له هذا الحق عاجلا، ثم تركه وانتحر دون أن ينتصف له، ولا نحن قد عرفنا على وجه القطع واليقين هل قَضَتْ مليكة قتلا أو انتحارا!؟.
ثم فوق هذا كله لقد بدا انتحار محمود وكأنه هروب من تبعة ما تفوَّه به في حق الخديو وكبراء البلد الذين شتمهم جميعا في حديثه مع وصفي الشركسى المتعاطف مع الخديو والإنجليز، ناعتا إياهم بالخيانة والحقارة، إذ خاف أن يبلِّغ وصفي ما سمعه إلى السلطات في القاهرة فتنكّل به. أو كأنه كان قد انتوى الانتحار قبل ذلك فقال في نفسه: ولم لا آخذ راحتي الآن وأسجل لنفسي بطولة لا يترتب عليها أية تبعة؟ ثم شتم الخديو ورجاله وهو ضامن أنه لن يناله أذى، إذ من المعروف أن الموتى لا يُؤْذَوْن. إن انتحار المأمور هو في الواقع "الهروب الكبير"، لكنه هروب لا يليق: لا بالمنتحر، ولا بالظروف التي انتحر فيها، ولا بالأشخاص الذين كان يتحرك بين أظهرهم، ولا بالرواية التي قيل في شأنها الكثير من المزاعم!..
كذلك قد اتهم بعض من كتبوا عن الرواية الزوجة كاثرين بأنها أنانية.. لماذا؟ لأنها كانت تصر دائما على زيارة المعابد كي تصل إلى شيء بخصوص نظريتها في أن قبر الإسكندر الأكبر إنما يوجد في سيوة، وهو إصرار كان من نتيجته أنْ أُرْهِق الصبي السيوي الذي كان يسحب رَكُوبتها فنام تحت النخلة قريبا من المعبد حيث سقطت من السقف بضعة أحجار بفعل زلزال خافت كاد أحدها أن يقتله لولا الأومباشي إبراهيم، الذي سارع إلى إنقاذه، فوقع الحجر على ساقه هو فهاضها وتقيحت حتى فكروا في بترها خوفا من تسمم الجسم كله لولا أن بعض أهل سيوة عالجوه بالطب الشعبي. ترى أين أنانية كاثرين هنا؟ إنها عالمة، ولها نظريتها التي تريد أن تثبتها، فهل ثم أنانية في شيء من هذا؟
وهل هي التي أمرت الصبي أن ينام في الموضع الذي نام فيه؟ وهذا إن كان ممكنا أن يخالف الحجر عن قانون السقوط فينحرف عن مساره وهو في طريقه إلى الأرض ويصيب الصبي الذي لم يكن نائما تحت السقف بل خارج المعبد، وهو ما بيَّنّا مناقضته لمنطق الأشياء. وعلى كلٍّ لقد عرضتْ قبلا على الصبي أن يعود أدراجه في ذلك الجو الحار المرهق، لكنه أصر على مصاحبتها هي وزوجها في تلك الرحلة والمشي بجوار الحمار. ثم هل هي مسؤولة عن الأقدار وتدابيرها؟ وغني عن الإيضاح أن كلامي هنا شيء، وحكمي على كاثرين بأنها، وإن كانت من إيرلندا، التي تخضع كمصر للاحتلال البريطاني، هي امرأة غربية في المقام الأول، وأنها تحت جلدها لا يمكن أن تتعاطف تعاطفا حقيقيا مع مصر والمصريين كما ألمعتُ إلى هذا في تضاعيف الدراسة، شيء آخر.
وبعد: فهل معنى هذا أن الرواية ليست لها أية ميزة؟ لقد سلف مني القول بأن في الفصل الخاص بالإسكندر شيئا من القوة والشاعرية. كذلك هناك تعريف الرواية لنا بواحة سيوة، وبعض عاداتها وتقاليدها وتاريخها وناسها، وطبيعة العلاقات التي كانت تربط بعضهم ببعض حتى إننى لأشعر شعورا قويا لا يخاله أدنى ريب في أن المؤلف قد اصطنع شخصياته اصطناعا، ورتب لها الأحداث ترتيبا من أجل تعريفنا بالواحة وناسها وما يسودها من علاقات اجتماعية، ولم تفرض تلك الشخصيات وتصرفاتها نفسها فرضا علينا وعليها. أي أنها لم تأت إتيانا طبيعيا، ولا نمت النمو المتوقع من أشباهها في مثل تلك الأحوال.
والواقع أن روايات "قطر الندى" للعريان، و"الثائر الأحمر" لباكثير، و"غادة رشيد" لعلي الجارم على سبيل التمثيل ليس إلَّا.. تبدو لي أفضل من روايتنا في ذلك الجانب وأكثر حيوية وإقناعا وإثارة لشوق القارئ رغم ما هو متوقع من أن يكون الخالف أقوى فنا وأكثر استيلاء على قلب القارئ من السالفين.
وإني لأدين للمؤلف بجميل لا أنساه، وهو تشويقه إياي لزيارة سيوة إلى الحد الذي وضعتُ معه هذه الزيارة موضع التنفيذ في التو واللحظة كما سلف القول في الدراسة الحاضرة. ثم إن لغته لأفضل إلى حد بعيد من لغة كتاب كثيرين هذه الأيام، وأخطاءه أقل كثيرا جدا من أخطائهم. وهذه فرصة لأشكر الكاتب أن أتاحت لي مراجعةُ روايته الفرصة لتحرير بعض مسائل اللغة والأسلوب تحريرا أرساني على بر الأمان فيما يخص تلك القضايا كما لاحظ القراء الكرام بكل تأكيد.
***
وكانت لجنة تحكيم الجائزة قد قالت عن بهاء طاهر وروايته: "إن بهاء طاهر قد أعطى في روايته "واحة الغروب" عملا روائيا نوعيا بالمعنى الجمالي والقيمي في آن، فاعتمادا على مجاز الرحلة التي ترصد الأزمة الروحية لإنسان مهزوم طرح جملة من القضايا الإنسانية الواسعة". وكان الصحفي العراقي صموئيل شمعون قد رأس لجنة التحكيم، الذي ضمت كذلك الكاتب المغربي محمد برادة، والشاعر المغربي محمد بنيس، والناقد الفلسطيني فيصل دراج، والمستعرب البريطاني بول ستاركي، والصحفية السورية غالية خوجة. كما قال أحد أصحاب المواقع المشباكية: "إن فوز بهاء طاهر بجائزة البوكر العربية في دورتها الأولى يمثل مكافأة مهمة للرواية العربية الحديثة التي تصوّر الوجع الإنساني من زاوية جمالية شفافة تنحو باتجاه ابتكار أدوات سردية تلائم بين ما هو محقق في اللغة المعاشة (الصواب: "المعيشة") وبين ما هو طوق لفضاءات وتقنيات أخرى". ولست أظن من الصعب على القارئ الآن، بعدما بينت له نقاط الضعف في الرواية، التنبه إلى ما في ذلك الكلام من إنشائية وعمومية لا يصلحان في مثل هذا الموقف. إنه كلام، والسلام!..
كذلك قرأتُ في موقع "منتديات البحرين" لعبد اللطيف الورواري عن ملابسات التصويت على الرواية التي فازت بالجائزة في دورتها الأولى ما يلي: "بعد كثير من الجدل الذي بلغ حدّ السِّباب والاتهامات والخلافات داخل اللجنة وخارجها لم يهدأ حتى الساعة خطفت رواية الكاتب والروائي المصري (بهاء طاهر): "واحة الغروب" جائزة بوكر للرّواية العربيّة من بين خمس روايات وصلت إلى التصفيات النّهائية هي: "مديح الكراهية" للسوري خالد خليفة، و"مطر حزيران" للبناني جبور الدويهي، و"تغريدة البجعة" للمصري مكاوي سعيد، و"أرض اليمبوس" للأردني إلياس فركوح، و"أنتعل الغبار وأمشي" للّبنانية مي منسي، التي اختيرت بدورها من أصل (131) رواية كتبها روائيون من جنسيات مختلفة".
***
ويبقى في النهاية أن أصارح قارئي العزيز بأنني كلما قرأت شيئا لأي روائي بعد نجيب محفوظ أجد أنني كنت على حق تام حين قلت في حوار صحفي أُجْرِيَ معي منذ عدة شهور: إن جميع التالين له هم أقزام بالقياس إلى قامته السامقة رغم أني لم أكن أوافق على كل ما كتب. لكن عندما يصل الأمر إلى المقارنة بينه وبين من جاؤوا بعده لا يسعنا إلا التحسر على خسراننا مثل ذلك الروائي العملاق رغم كل شيء!..