مفهوم الأدب في الإسلام:
الأصل في معنى الأدب عند العرب أنه الدعوة والجمع، يقال([1]): "أدَبَهُم علَيه، ونَدَبَهُم إلَيه، وأدَبَهَمُ على الأمر: جمعَهم عليه، يأدِبُهُم". ومن هذا المعنى اللغوي العامّ تلحظ الإشارة إلى شيء كريم محبَّب يُدعَى إليه الإنسان ويُجمع عليه الناس. ولأنّ الدعوة إلى طعام فيها إكرام وإحسان ومحبّة صار التعبير عن ذلك يقال له: أدَبٌ، وصارت الدعوة إلى الطعام يقال عنها: مأدُبة، والآدِبُ هو الداعي إلى ذلك. قال طرَفة بن العبد:([2])
نَـحـنُ فـي المَـشـتـاةِ نـدعُـو الجَـفَـلَـى لا تــرى الآدِبَ فِـيــنـــا يَـنــتَــقِـــرْ
وعندما نصحتْ في الجاهلية أُمٌّ ابنتهَا بما يجب من حُسن معاملة الزوج القادم قالت الفتاة: لَآخُذَنّه بأدبِ البَعْلِ. فثمة إذًا آداب تراعى في الحياة العربية.
وعن عبدِ الله بن مسعود رضي الله عنه: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ هذا القُرآنَ مأدُبةُ اللهِ. فتَعَلَّمُوا مِن مأدُبتِهِ ما استَطَعتُم". ومِن هذا ترى أنه أصبح للأدب في اللغة معنى إنساني اجتماعي أيضًا، هو التوجيه إلى الخير والصلاح والأخذ بمكارم الأخلاق، أي: ما يُحمد من القول والفعل والنيّة، فيشمل السلوك والعمل. إنه رياضة النفس بالتهذيب لإدراك مكارم الأخلاق في معاملة النفس والآخرين. وما أكثرَ الآدابَ في نصوص القرآن الكريم والسُّنّة المشرّفة!.
ثم إنّ الحديث الشريف المشهور([3]): "أدَّبَنِي رَبِّي، فأحسَنَ تأدِيبِي" معناه أنّ الله ـ تعالى ـ علّمني رياضة النفس ومَحاسن الأخلاق الظاهرة والباطنة، لأنّ الأدب هو ما يحصل للنفس من الأخلاق الحسنة والعلوم المُكتسَبة، فقد تفضّل الله عليّ بالعلوم الكسبية والوهبية بما لم يقع نظيره لأحد من البشر. قالت السيدة عائشة رضي الله عنها في وصفه النبويّ: "كانَ خُلُقُهُ القُرآنَ".([4])
ومن العلوم المُكتسَبة ما يفسِّر الجانبَ اللغوي المناسب لحياة النبوّة بين قبائل العرب. فقد رُوي أنّ أبا بكر رضي الله عنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: لقد طُفتُ في العرب وسمعتُ فُصحاءهم، فما سمعتُ الذي هو أفصحُ منك. فقالَ صلى الله عليه وسلم: ((أدَّبَنِي رَبِّي، فأحسَنَ تأدِيبِي)). وفي معنى هذا الحديث، رَوى العسكري عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: قدِمَ بنو فهد بن زيد على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: "أتيناكَ من غَور تِهامةَ"، وذَكرَ خُطبتهم وما أجابهم به الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال عليّ رضي الله عنه: فقلنا: نَبِيَّ اللهِ، نحنُ بنُو أبٍ واحِدِ، ونَشأنا في بَلَدٍ واحِدٍ، وإنَّكَ تُكلِّمُ العَرَبَ بلِسانٍ لا نَفهَمُ أكثَرَهُ، فقال: ((أدَّبَنِي رَبِّي، ونَشأتُ في بَنِي سَعدِ بنِ بَكرٍ)). ومِن هذا ترى في عُروبة اللسان ارتباط الأدب بالله واللغة والمجتمع والإنسان والخُلُق الكريم.
وعلى ذلك صار في المجتمع الإسلامي كتاتيب يعلّم فيها أبناءَ الأمّة طائفةٌ من المعلمين تُسمَّى بالمؤدِّبين، وهو معنى تعليمي ينشرون به العلوم الإسلامية، ثم كان لأولاد الخلفاء والأمراء مؤدّبون، يعلّمونهم مع ذلك ما تطمح إليه نفوس آبائهم فيهم من معرفة الثقافة العربية، فكانوا يلقّنونهم الشعر والخطب وأخبار العرب وأنسابهم وأيّامهم في الجاهلية والإسلام.([5])
ثم انتقل مفهومه عند العرب إلى العمل الفنّيّ، فقيل في تعريفه:([6]) "هو تعبير عن تجربة شعورية في صورة مُوحِية". وإنك لتتلمّس من هذا التعريف حصره في التجربة الشعورية للإنسان، وتستبعد ما يكون من عالم الغيب، وأدب الأنبياء والصِّدِّيقين والمؤمنين، ثم تطلقه من قيود المجتمع النبيل والخُلق الكريم، وتسوّغ له أن يكون مِعْولاً هدّامًا في مكارم الحياة.
ولهذا ظهر في بلاد المسلمين منذ قرنين ونيّف طابورٌ خامس من أدعياء الأدب،([7]) اتّخذوا لأنفسهم شعارَ حرّية الفنّ، وحرّية الأدب، وحرّية التعبير عن ثورة النفس المُشتهية المُستكلِبة. وقد استمدّوا عملهم من أمثال ذلك التعريف، فكان لديهم أنّ حرّية الفنّ يجب ألا تتقيّد بمَصلحة الجماعة، أي: أن يكون إنتاج هذا الطابور وقاحة بالتعبير عمّا يثور في أنفس أفراده من النزَعات المتفجّرة في أعصابهم بروح الشهوات الدنيئة.
وهكذا صار الأُدباء عامّة والشعراء خاصّة يرون أنّ أدبهم وشعرهم لا بد أن ينطوي كل منهما على تلك المعاني النفسية النازلة التي تَستَولِغ([8]) في دِماء الناس، وأعراضهم المَذبوحة بالآلات الحديدة الماضية، ثمّ ماذا يكون؟ ثمّ يأتي هؤلاء فيدفعون إلى المجتمع نِتاجًا مركَّبًا من الرذائل المَنهوكة المَخمورة، وتَتغلغل هذه المَساخِط كلّها في نفوس الشعب: في عقولهم وأخلاقهم وتوجّهاتهم من ميادين الحياة.
وإنك لتلمح من حصر الأدب في التعبير "عن تجربة شعورية" أنه قول به يريدون زرع المفاسد والامّحاق، وقد نُقل عنهم في حياتنا الأدبية دون تدبّر وانتباه. فهو إذًا بعيدٌ عن نصوص الخير والتوجيه والصلاح، نِتاجُ تجارب وأوهام شيطانية يحسّ بها الإنسان البهيمي، وينطلق في تقديمها بما لديه من الغرائز والشهوات والنزعات الهدّامة كما تصوّرها له نفسه الخبيثة ومقاصده المتعفّنة دون قيد أو حدٍّ أو معيار، حتى تشيع الفواحش بين المؤمنين، وتتحقّق في المجتمع والأمّة نهايات التهدّم والفناء.
وبكلّ أسف، لم أجد من حاول الخروجَ بنا من هذه المتاهات التي بُلينا بها. ولم يظهر فيهم من وضع لنا قواعد البناء القويم، وأكرمَنا بتقديم تعريف للأدب يليق بالعربية لغة القرآن الكريم والحديث الشريف، ويليق بالإسلام دين الله عز وجل.
ولو رجعتَ معي إلى العناصر المعنوية التي جمعها الأدب في لغتنا الحبيب، وتفكيرنا الأصيل من إكرام وإحسان ومحبّة وتعليم واهتمام بمكارم الأخلاق في معاملة النفس والعالَمِين، أي: ما يُحمد من القول والفعل والنيّة، لو رجعتَ إلى هذا كله تبيّن لك أن ذلك التعريف تجاهلَ صميم الروح الأدبية ومبادئها الأصيلة المكوّنة له. فالقرآن الكريم هو أدبٌ بل قمّةُ قِمَمِ الأدب، والحديث الشريف هو أدبٌ من تلك القِمَم، وقول العلماء الصالحين الأبرار وشعراء الإيمان هو أدبٌ من تلك القِمَم أيضًا، والتعريف الشائع بيننا يتجاهل هذا كله، لنهوي معه ومع أصحابه في جحيم الحُلفاء المتهوّدين.
ومن هذه أراد دُعاة وقاحة الأدب أن نتلقّى التوجيه والقيادة، زعموا لنا أنّ الأدب المجرّد من المعاني الروحية هو الذي يقود الشعوب في الحركات الإصلاحية والثورات|، وينهض بالهِمم لصناعة المعجزات. وبمثل هذا بشّر تلاميذهم فيما ألّفوا من تاريخ للأدب ودراسات للأُدباء وتطوّر المجتمعات. فلا غرو أن يتصدّر الأدباء المُشعبِذون مسيرة الحياة، ويعيش القرآن الكريم والحديث الشريف وأدب المصلحين في زوايا المآتم وحفلات الأناشيد للتغنّي والاستمتاع.
ذلك هو ما غُرس في عقولنا منذ عشرات السنين، ودُعّم بالأدلة المفتعلة والشواهد الملتوية، حتى نسينا أنّ أدب الجاهلية، على ما فيه من نضج وتألّق وإبداع، لم يستطع أن يحرّك العرب خطوة واحدة نحو الخير أو التفتّح والاستقلال عن سيطرة الروم والفرس وعملائهم الغساسنة والمناذرة|، ليكون خطاباً للجماعة بعيدًا عن الذاتية المُغرقة، بل كان يعيش في ركاب التبعية|للقيم الجاهلية السائدة، وهو ما نراه اليوم في كثير من وسائل الإعلام ونتاج الأدباء المستنفعين في العالم، وفي بلدان المسلمين والعرب خاصة. ا
تعريف الأدب الإسلاميتع:د
تعريف الأدب الإسلامي:
وإذا توجّهنا الآن معًا إلى الأدب بالمنظور الإسلامي من خلال ما بسطنا قبلُ كان هو "التعبير اللغوي المُوحِي عن الحقائق العليا والتجارب الإنسانية الكريمة مع الدعوةِ إلى مَكارم الأخلاق ومحبّة الخير، بالنسيج التركيبي البليغ المتألّق من التفكير والتصوير والتأثير والتجسيم والتشخيص والتخييل".
هذه هي ملامح الأدب وصورته الحقيقية في المنظور الإسلامي، ثم يكون للشعراء خاصّة أن يخرجوا على الصِّدق العِلمي، لينطلقوا في رحاب الصِّدق الفنّي، فتبدو لك حقيقة الطغيان للعنصر الوجداني في الأدب واستبداده به. فالشعراء يُهمّهم أن ينقلوا تجاربهم من خلال منظورهم العاطفي أكثر ممّا يحمله الواقع من حقائق, وإذا دخلوا ميدان الحماسة أو الغزل ازدادوا توتُّرًا واندفاعًا مع الرؤية الذاتية الوجدانية, فإذا بهم يَشغلهم تأجّج الانفعال وتوهّج الوجدان عن التزام الواقعية، ثم يحلّقون مع الخيال بأجنحته الخفّاقة في عالَم المجهول, فإذا النزعة الفنّية العاطفية طاغية على سائر العناصر الأُخرى من التفكير والتعبير والتصوير, حتى ليصبحُ الصِّدق الفنّي بين أيديهم بديلاً من الصِّدق الواقعي.([9])
وعلى هذا يكون العمل الأدبي ميدانًا, تتصارع فيه عواطف الشاعر المشبوبة وخيالاته المجنّحة, فيمثّل لنا الزوايا النفسية والانفعالات الإنسانية المبدعة من شخصيته الأدبية بعيدًا عن التجارب الواقعية. إنها صَبَوات وأشواق وتطلّعات للنفس، تتلمّس الصِّدق الفنّي بما يقتضيه من الإخلاص له والتفاني بين متطلّباته, وليس لها بالصِّدق العلمي أو العَملي صلة إلا من خلال شريط وهمي ماتع. كذلك هي التجارب الأدبية شعورية مصطنعة، مطيّتها هي الخيال، ورائدها هو الصِّدق الفني, ومادّتها هي التمثّل والإيحاء والإيهام, وحافزها هو روح التغنّي والتملّح والإبداع؛ خلافَ ما زعمه لنا أساتذتنا من الاتصال بالواقع.
إنّ الشعر|فيما يعرفه الجميع|هو رؤية لصاحبه وصبَوات وأشواق وتطلّعات، تُتيح له الانطلاق من الواقع ليصوغ إنتاجًا يملأ نفسه، ويحقّق له الإبداع واللذة وإيحاء الفاعلية والانفعال. فهو لا يَسأل عن الصِّدق الواقعي بقدر ما يتلمّس الصِّدق الفنّي للتعبير عن تجاربه المصطنعة|وأحلامه المتصوّرة|وعواطفه الذاتية المجنّحة وأشواقه وصبَواته لتوليد ما يُشعر بالإبداع والتفنّن.
أحمد شوقي
وها أنت ذا حين تستحضر زُهديات أبي العتاهية مثلاً مع حرصه الشديد على المال والجاه، وتتذكّر منطق أحمد شوقي الديني الخُلقي في شعره مع استهتاره في حياته، وتنطّعات أدب المقاومة([10]) في عصرنا هذا دون أن يخوضوا ميادين الجهاد، وأمثالَ ذلك من المفارقات بين الواقع والخيال، حين تقوم بذلك يتبيّن لك أنّ تلك القاعدة المزعومة للواقعية هشّة البنيان، غائرة الأساس والأركان، وأنّ ثمة أدباء لهم من القُدرات الفنّية ما يمكّنهم من التكلّم بلسانٍ غير لسان ضمائرهم، ومن الانسلاخ عن أحوالهم في الإنتاج الإبداعي. حتى إنهم ليصوغون ما لا يُحسنون، ويصفون ما لا يمارسون، ويزعمون ما لا يعرفون، ويقولون ما لا يفعلون؛ كما علّمنا الله ـ تعالى ـ في كتابه العزيز.
فأنت تخطئ خطأ كبيرًا إذا اتخذت ديوان عُمر بن أبي ربيعة مثلًا مرآة لشخصيته الواقعية. نعم.. قد تستطيع أن تستشفّ بعض ملامحه من خلال تلك الصور الصاخبة في مواقع المجون والعُذرية والعفّة. وإذا كان من شعره ما يمثّله حقًّا فإنه نظائر هذا البيت:
إنِّي امرُؤٌ مُولَعٌ بالحُسـنِ، أتبَعُـهُ تبَعُـهُ أتبَعُـهُ |
|
لا حَـظَّ لِي فِيـهِ إلا لـَذّةُ النَّـظَـرِ |
إنه شاعر مُغرم بمفاتن الجمال الفنّي، يتتبّعها ويتملَّى معالمها، ويتّخذها مقياس التوجّه في الشعر وميزانه في التعبير. وصدق الله العظيم: (والشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الغاوُونَ. ألَم تَرَ أنَّهُم في كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ، وأنَّهُم يَقُولُونَ ما لا يَفعَلُونَ)([11]) إنهم رُوّاد المجاهيل، يتسكّعون في جنباتها بأجنحة الخيال، وشُبوب العواطف، وبراعة التصوير والأداء والتعبير، وعلى جبين كلٍّ منهم وعلى صدره أنّه كذّاب. فهم ضالّون عابثون ومضلِّلون لِمن يتّخذهم مصدر علم وعرفان. والذين يبنون على مقولات الشعر معلوماتهم، ويزعمون فيها الحقائق الواقعية، هم الغاوون حقًّا أي: السفهاء الضالّون،([12]) أو بتعبير آخرَ هم شياطين الإنس والجانّ، يسيّرون الأمور على غير حقيقتها، ثم ينقلون ذلك بمختلف الأساليب من التوهيم والتهويل، فيوسوسون بالشرور والآثام، ويوجّهون الناس إلى الباطل والجهل والضلال، ويُفسدون الذوق الأدبي وتاريخ الأدب.
وفي هذا النهج القرآني كما ترى قلبٌ لمفاهيم العرب عن حقائق العمل الفنّي، إذ كانوا في الجاهلية يقولون: إنّ لكل شاعر شيطانًا، يُمِدّه بما يصنع، ويرعاه في ميدان عمله، ويوحي إليه بما يقدّمه للناس من فائق البيان والتفكير والتعبير والتصوير. وقد افتخر أبو النجم بتميّزه على جميع أقرانه لأنّ شيطانه أشدّ وأفظع من شياطينهم الضعيفة المهزولة، فقال:
إنّـي وكُـلَّ شــاعِــرٍ مِـنَ الـبَـشَــرْ شَـيـطـانُـهُ أُنْـثــَى، وشَـيـطــانِـي ذَكَـرْ
فلقد انقلبت الصورة المنهجية للشعراء في التعبير القرآني المبين، وأصبح الشياطين تابعين للشعراءِ غيرِ المؤمنين الصالحين، الذين يضلّلون بأقاويلهم من يتبعهم، ويقدّمون لهم باطل الأباطيل، ليبنوا عليها ما هو أبعد في الغيّ والضلال والإفساد. ولن تبعد أنتَ عن الحقيقة، إذا ربطتَ من وجه آخر بين اعتقاد الجاهليين ومضمون قول الله ـ سبحانه ـ هنا بحيث يكون لأولئك الشعراء الأفّاكين الآثمين شياطينهم تتنزّل عليهم([13]) فتؤزّهم أزًّا، وتوحي إليهم بزُخرف القول، وتثير فيهم ما يملؤون به حياة الناس من الشرور والآثام والفتن والفواحش والموبقات، ثم يأتي بعد ذلك أتباعهم ممن يصدّقون المزاعم والأباطيل والمآفك والآثام، فيكونون في درجة فائقة من الشيطنة والضلال والتضليل أي: شياطينَ شياطينِ الشياطينِ.
تلك هي سلسلة الإسناد الشعري عامّة، وهي خلاف ما يكون عليه الشاعر المؤمن الصالح من التزام للصدق الواقعي في توجّهاته الفنّية. ولذلك استثناهم الله ـ عزّ وجلّ ـ من زُمرة الأفّاقين بقوله تعالى: (والشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الغاوُونَ* ألَم تَرَ أنَّهُم في كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ* وأنَّهُم يَقُولُونَ ما لا يَفعَلُونَ* إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا وانتَصَرُوا مِن بَعدِ ما ظُلِمُوا وسَيَعلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا: أيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ).([14])
عناصر التكوين الأدبي:
إذا رجعنا معًا إلى التعريف الرائج بيننا للأدب، وهو "تعبير عن تجربة شعورية في صورة مُوحِية"؛ تبدَّى لك أنه فضفاض مهلهَل أيضًا، يدخل فيه كل فنّ معروف حتى العبثيّ الرقيع، كالمستويات الهابطة من الرياضة والرقص والرسم والنحت والتصوير والتمثيل والغناء والأناشيد والقصص الساقطة والمسرحيات والمسلسلات والأفلام الداعرة...، ففي كل من هذه المظاهر الإنسانية الرخيصة تعبيرٌ عن تجربة شعورية في صورة مُوحِية. ولا بدّ إذًا من حدود فاصلة بين الأدب وهذه الفنون المهلهلة، وهذا ما تجده فيما اقترحنا قبلُ من تعريف طيّب للأدب في المفهوم الإسلامي بأنه:
التعبير اللغوي المُوحِي. فالتعبير هنا هو لغوي غير مباشر في البيان كالكلام العادي، ويجب أن يكون بالعربية الفُصحَى لأن الفصيحة هي للعلماء، والصحيحة هي لعامّة ما عدا هؤلاء وأولئك. وعلى هذا يكون من الأدب الحقيقي قولُ الله تعالى([15]): (اللهُ نُورُ السَّماواتِ والأرضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشكاةٍ فِيها مِصباحٌ المِصباحُ في زُجاجةٍ الزُّجاجةُ كَأَنَّها كَوكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرةٍ مُبارَكةٍ زَيتُونةٍ لا شَرقِيّةٍ ولا غَربِيّةٍ يَكادُ زَيتُها يُضِيءُ ولَو لَم تَمسَسْهُ نارٌ نُورٌ علَى نُورٍ يَهدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشاءُ ويَضرِبُ اللهُ الأمثالَ لِلنّاسِ واللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ)، وقولُه تعالى([16]): ( ألَم تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ* إرَمَ ذاتِ العِمادِ* الَّتِي لَم يُخلَقْ مِثلُها في البِلادِ* وثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخرَ بِالوادِ* وفِرعَونَ ذِي الأوتادِ* الَّذِينَ طَغَوا في البِلادِ* فأكثَرُوا فِيها الفَسادَ* فصَبَّ علَيهِم رَبُّكَ سَوطَ عَذابٍ* إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرصادِ).
وقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:([17]) ((مَثَلُ المُؤمِنِ الَّذِي يَقرأُ القُرآنَ مَثَلُ الأُترُجّةِ رِيحُها طَيِّبٌ وطَعمُها طَيِّبٌ، ومَثَلُ المُؤمِنِ الَّذِي لا يَقرأُ القُرآنَ كَمَثَلِ التَّمْرةِ لا رِيحَ لَها وطَعمُها حُلْوٌ، ومَثلُ المُنافِقِ الَّذِي يَقرأُ القُرآنَ كَمَثَلِ الرَّيحانةِ رِيحُها طَيِّبٌ وطَعمُها مُرٌّ، ومَثَلُ المُنافِقِ الَّذِي لا يَقرأُ القُرآنَ كَمَثَلِ الحَنظَلةِ لَيسَ لَها رِيحٌ وطَعمُها مُرٌّ))، وقال أبو فراس الحمْداني وهو أسيرٌ عند الروم، وقد سمع حمامة تهتف على شجرة عالية، فضحك ممّا بينه وبينها من المفارقات:([18]).
أقُـولُ، وقَـد نـاحَـت بِقُـربِي حَمـامةٌ: أيـا جـارتـَى، هَـل تَشـعُرِيـنَ بِحالِي؟
مَعـاذ الهَـوَى! ما ذُقتِ طـارِقةَ النَّـوَى ولا خَـطَـرَت مِـنـكِ الهُـمُــوُم بِـبــالِ
أيَـحــمِـل مَـحـــزُونَ الـفُــؤادِ قَــوادِمٌ إلَى غُـصُـنٍ نـائـي المَـسـافـةِ عـالِي؟
أيا جارَتَـى، مـا أنصَفَ الدَّهـرُ بَيـنَنـا تَعـالِي، أُقـاسِمْـكِ الهُـمُـومَ، تَعـالِـي
تَـعالِي، تَـرَي رُوحـًا لَـدَيَّ ضَـعِـيفـةً تَـرَدَّدُ فِـي جِـسـمٍ، يُـعَـذَّبُ، بــالِــي
أيَضـحَـكُ مأسُـورٌ، وتَـبـكِـي طَـِليـقـةٌ ويَسـكُـتُ مَحـزُونٌ، ويَنـدُبُ سـالِي؟
لَقَد كُـنـتُ أولَـى مِنـكِ بِالـدَّمـعِ مُـقـلـةً ولـكِنَّ دَمـعِـي فـي الحَـوادِث غـالِـي
كذا يكون البيان الأدبي في الإيحاء بالمعاني. أمّا ما يرد بغير الفصحى من شعر أو نثر فهو مَهازل وفقاقيع يلهو بها الأغبياء، وتتصاعد في الفضاء برّاقة، ثم تتلاشى مع الهواء.
ويكون التعبير في الأدب أيضًا عن الحقائق والمعلومات القَيِّمة نحو قولِ النبي صلى الله عليه وسلم في وحدة الأمّة الإسلامية([19]): «مَثَلُ المُؤمِنِينَ في تَوادِّهِم وتَراحُمِهِم وتَعاطُفِهِم مَثَلُ الجَسَدِ، إذا اشتَكَى مِنهُ عُضْوًا تَداعَى لَهُ سائرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى»، وقولِه يخاطب الصحابة رضي الله علنهم([20]): «يُوشِكُ الاُمَمُ أنْ تَداعَى عَلَيكُم كَما تَداعَى الأكَلةُ إِلَى قَصعتِها»، فقالَ قائلٌ: ومِن قِلَّةٍ نَحنُ يَومَئِذٍ؟ قالَ: «بَل أنتُم يَومَئِذٍ كَثِيرٌ، ولكِنَّكُم غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيلِ. ولَيَنزَعَنَّ اللهُ مِن صُدُورِ عَدُوِّكُمُ المَهابةَ مِنكُم، ولَيَقْذِفَنَّ اللهُ في قُلُوبِكُمُ الوَهْنَ»، فقالَ قائلٌ: يا رَسُولَ اللهِ، وما الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنيا وكَراهِيةُ الْمَوتِ». أمّا ذِكر المعلومات المألوفة المبتذلة فيكون في الكلام بين الناس.
ويكون التعبير فيه كذلك عن التجارب الإنسانية بإثارةِ الفكر والحواسّ والعواطف والخيال كالذي تراه في وصف المتنبّي لمرض الحُمّى:([21])
وزائــرتِـــي كـأنَّ بـــهــــا حَـــيــــاءً فَــلـيــس تــزُورُ إلَّا فـي الــظَّــلامِ
بَـذَلــتُ لــهــا المَطــارِفَ والحَـشـايـا فعـافَـتهــا، وبـاتـَت فـي عِـظـامِي
كـأنَّ الـصُّبـحَ يَـطُـرُدُهــا، فـتَـجـري مَـدامِـعُــهـــا بـأربـَـعــةٍ سِــجــــامِ
أبِـنـتَ الـدَّهــر، عِـنـدِي كُــلُّ بِـنــتٍ فكيف خَلَـصـتِ أنـتِ مِنَ الزِّحامِ؟
جَرَحـتِ مُـجَــرَّحًــا، لَـم يَـبــقَ فِـيـهِ مَـكـــانٌ لِـلسُّــيُــوفِ ولا الـسِّـهــامِ
يَـقُـولُ لِـيَ الطَّـبِـيـبُ: أكَـلـتَ شَيـئًــا وداؤكَ فـي شَــرابِــك والـطَّــعــامِ
ومـــا فــي طِــــبِّــــه أنِّــــي جَـــوادٌ، أضَـرَّ بِجِـسـمِـهِ طــولُ الـجِــمــامِ
ويكون في النص الأدبي دعوةٌ إلى مَكارم الأخلاق وذمّ لِما يخالف ذلك أو يخرج عليه أو ينادي بجهله. ومن هذا ترى قول رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي([22]): «إنَّ اللهَ -عَزَّ وجَلَّ- يَقُولُ يَومَ القِيامةِ: يا ابنَ آدَمَ، مَرِضتُ فلَم تَعُدْنِي. قالَ: يا رَبِّ، كَيفَ أعُودُكَ، وأنتَ رَبُّ العالَمِينَ؟ قالَ: أما عَلِمتَ أنَّ عَبدِي فُلانًا مَرِضَ فلَم تَعُدْهُ؟ أما عَلِمتَ أنَّكَ لَو عُدتَهُ لَوَجَدتَنِي عِندَهُ؟ يا ابنَ آدَمَ، استَطعَمتُكَ فلَم تُطعِمْنِي. قالَ: يا رَبِّ، وكَيفَ أُطعِمُكَ، وأنتَ رَبُّ العالَمِينَ؟ قالَ: أما عَلِمتَ أنَّهُ استَطعَمَكَ عَبدِي فُلانٌ فلَم تُطعِمْهُ؟ أما عَلِمتَ أنَّكَ لَو أطعَمتَهُ لَوَجَدتَ ذلِكَ عِندِي؟ ابنَ آدَمَ، استَسقَيتُكَ فلَم تَسقِنِي. قالَ: يا رَبِّ، كَيفَ أسقِيكَ، وأنتَ رَبُّ العالَمِينَ؟ قالَ: استَسقاكَ عَبدِي فُلانٌ فلَم تَسقِهِ. أما إنَّكَ لَو سَقَيتَهُ لَوَجَدتَ ذلِكَ عِندِي».
مصطفى لطفي المنفلوطي
وهذا المنفلوطيُّ يخاطب المحاربين للحِجاب والزواج الداعين إلى البغي والبِغاء بقوله: "لقد كنّا وكانت العِفّة في سِقاءٍ من الحِجاب مَوكُوءٍ، فما زلتم تَثقبون في جوانبه كلَّ يوم ثَقبًا، والعِفّةُ تتسلَّل منه قَطرةً قَطرةً حتّى تقبَّض وتضاءَل، ثمّ لم يَكفِكم ذلك منه حتّى جئتمُ اليومَ تُريدون أن تَحُلُّوا وِكاءهُ، حتّى لا تبقى فيه قَطرةٌ واحدة.
هذِّبُوا رِجالَكم قبل أن تهذِّبوا نِساءكم. فإن عجَزتم عن الرِّجال فأنتم عن النِّساء أعجَزُ... أرُوني رجلاً واحدًا منكم يستطيع أن يزعم في نفسه أنه يَمتلك هَواه بين يدَيِ امرأةٍ يَرضاها، فأصدِّقَ أنّ امرأة تستطيع أن تَمتلك هَواها بين يدَي رجل تَرضاهُ... إنكم لا تَرْثُون لها بل تَرْثُون لِأنفُسكم، ولا تبكون عليها بل على أيّام قضيتُموها في ديار يسيل جوُّها تَبرُّجًا وسُفورًا، ويتدفّق خَلاعةً واستِهتارًا.
فقلتم لها: "إنّ الحُبَّ أساسُ الزَّواج"، فما زالت تقلّبُ عينيها في وُجوه الرجال مُصعِدة مُتحدِّرة، حتّى شغلها الحُبّ عن الزَّواج، وقلتم لها: "إنّ سعادة المرأة في حياتها أن يكون زوجُها عَشيقَها"، وما كانت تعرف إلا أنّ الزوج غيرُ العَشيق، فأصبحتْ تطلب في كلّ يوم زوجًا جديدًا، يُحيي من لَوعة الحُبّ ما أماتَ الزوجُ القديم، فلا قديمًا استبقَت، ولا جديدًا أفادَت.
مصطفى الرافعي
يا قومُ، إنّا نَضرَعُ إليكم أن تتركوا البقيّة الباقية في نساء الأُمّة آمناتٍ مطمئنّاتٍ في بيوتهنّ، ولا تُزعجوهنّ بأحلامكم وآمالكم كما أزعجتُم مَن قَبلَهنّ. فكلُّ جُرح من جُروح الأُمّة له دواءٌ، إلا جُرحَ الشَّرَف فلا دواءَ له".
وهذا مصطفى صادق الرافعي ينادي بالبذل لإنقاذ فلسطين من اليهود وأعوانهم قائلاً:
"أيُّها المُسلِمُونَ، كُلُّ قِرش يُدفَع لِفِلَسطِينَ يَذهب إلى هُناكَ، لِيَتكلَّم كَلِمةً تَرُدُّ إلى هؤلاء العقلَ. ابتَلَوهم باليهود يمرّون مُرور الدَّنانير بالرِّبا الفاحش في أيدي الفُقراء، كُلُّ مِئَةِ يهوديٍّ على مَذهب القَوم يَجب أن يكون في سنة واحدة مِئَةً وسبعينَ... حِسابٌ خَبيثٌ يبدأ بشيء من العقل، ولا ينتهي أبدًا وفيه شيء من العقل. والسِّياسة وراء اليهودِ، واليهودُ وراء خَيالِـهِمُ الدِّينيّ، وخَيالُـهُمُ الدِّينيّ هو طَردُ الحقيقةِ المُسلِمة.
لو سُئلتُ: ما الإسلامُ في معناه الاجتماعيّ؟ لسألتُ: كم عددُ المُسلِمِينَ؟ فإن قيل: "ثلاثُمِائَةِ مَليُونٍ"، قلتُ: فالإسلام هو الفِكرة([23]) التي يجب أن يكون لها ثلاثُمِئَةِ مَليُونِ قُوّةٍ. أيَجوع إخوانُكم - أيُّها المُسلِمُونَ- وتَشبعونَ؟ إنّ هذا الشِّبَعَ ذَنبٌ يُعاقِب اللهُ عليه. والغِنَى اليومَ في الأغنياء المُمسِكِينَ عن إخوانهم هو وصفُ الأغنياء باللُّؤم لا بالغِنَى. كلُّ ما يبذله المُسلِمُون لِفِلَسطِينَ يدلّ دلالاتٍ كثيرةً، أقلُّها سِياسةُ المُقاوَمة.
كان أسلافكم -أيُّها المُسلِمُونَ- يفتحون المَمالكَ. فافتحوا أنتم أيديَكم. كانوا يَرمون بأنفُسهم في سبيل الله غيرَ مُكترِثِين. فارموا أنتم في سبيل الحقّ بالدَّنانير والدَّراهم. لماذا كانت القِبلة في الإسلام إلا لتَعتاد الوُجوهُ كلُّها أن تتحوَّلَ إلى الجِهة الواحدة؟ لماذا ارتفعَتِ المآذنُ إلا ليَعتاد المُسلِمُونَ رفعَ الصّوت في الحقّ؟
أيُّها المُسلِمُونَ، كونوا هناكَ، كونوا هناكَ مع إخوانكم بمعنًى من المَعاني. أيُّها المُسلِمُونَ، هذا مَوطِنٌ يزيد فيه مَعنى المالِ المَبذولِ، فيكون شيئًا سَماويًّا. كُلُّ قِرش يَبذله المُسلِمُ لِفِلَسطِينَ يتكلَّم يومَ الحِساب يقول: يا رَبِّ، أنا إيمانُ فُلانٍ".([24])
وكذلك قولُ زُهير بن أبي سُلمى في المعلقة:([25])
سَـعَـى سـاعِيـا غَـيـظِ بـنِ مُـرّةَ بَـعـدَمــا تَـبَـزَّلَ مـا بَـيـنَ العَـشِـيـرةِ بِالـدَّمِ
فأقـسَـمـتُ بِالبَـيـتِ الَّـذي طـافَ حَـولَــهُ رِجالٌ، بَنَوهُ، مِـن قُرَيشٍ وجُرهُمِ
يَـمـيـنًـا، لَـنِـعــمَ السَّـيِّـدانِ وُجِــدتـُـمـــا علَى كُـلِّ حـالٍ مِن سَحِيلٍ ومُبرَمِ!
تَـدارَكــتُـمــا عَـبـسًا وذُبـيــانَ بَـعــدَمــا تَفـانَوا، ودَقُّـوا بَينَهُم عِطرَ مَنشَـمِ
وقَـد قُـلتُـمـا: إن نُـدرِكِ السِّـلــمَ واسِـعًــا بِـمـالٍ ومَعـرُوفٍ مِنَ الأمـرِ نَسلَمِ
فأصبَحـتُـمـا مِـنهــا علَـى خَيـرِ مَوطِــنٍ بَعيِــدَيـنِ فيهــا مِن عُقُــوقٍ ومأثَـمِ
عَـظِيـمَيـنِ في عُـلـيــا مَعَــدٍّ، هُـدِيتُـمـا ومَن يَستَبحْ كَنـزًاً مِنَ المَجـدِ يَعظُمِ
ومَـن يـكُ ذا فَضـلٍ، ويَبـخَـلْ بفـضلِـهِ على قَومِـهِ، يُستَغْــنَ عَـنـهُ ويُـذمَـمِ
ومَن يَجعَل المعرُوفَ مِن دُونِ عِرضِهِ يَـفِـرْهُ، ومَن لا يـَتَّـقِ الشَّتـمَ يُشـتَـمِ
ومَـن لا يَـذُدْ عَــن حَـوضِـهِ بـسِـلاحِــهِ يُهَـدَّمْ، ومَـن لا يَظلِـمِ النّـاسَ يُظلَمِ
ومَن يُـوفِ لا يُـذْمَم، ومَن يُفْـضِ قَـلـبُـهُ إلَى مُـطـمـئـنِّ الـبِـرِّ لا يَـتَجَـمجَـمِ
ومَن يَغـتَـرِبْ يَحـسِبْ عَـدُوًّا صَـدِيـقَـهُ ومَـن لا يُـكَـرِّمْ نـَفــسَــهُ لا يُـكَــرَّمِ
ومَهـمـا تَكُـنْ عِـندَ امرِئٍ مِـن خَلِيـقَـةٍ، ولَو خـالَها تَخفَى علَى النّاسِ، تُعلَمِ
ومَن لا يَـزَلْ يَستحمِـلُ النّاسَ نَـفْـسَـهُ ولا يُغـنِهـا يَومًا مِنَ الدَّهـرٍ، يُـسْـأمِ
وقولُ أحمد شوقي، يفصّل تجاربه في الحياة الدنيا وما يعانيه من الخير والشر، منتهيًا في الخلاصة إلى قمّة الحصائل بما يلي:
ولِـي بَينَ الضُّلُـوعِ دَمٌ ولَـحـمٌ |
|
هُمـا الواهِي الَّذِي ثَكِلَ الشَّبـابـا |
تَسَرَّبَ في الدُّمُوعِ، فقُلتُ: وَلَّى |
|
وصَفَّقَ في الضُّلُوعِ، فقُلتُ: ثابـا |
ولَو خُلِقَـت قُلُـوبٌ مِـن حَـدِيـدٍ |
|
لَـمـا حَمَـلَـت كَما حَـمَـلَ العَـذابـا |
أخا الدُّنيـا، أرَى دُنيـاكَ أفعَـى |
|
تُــبَـدِّلُ، كُــلَّ آوِنِـةٍ، إهـــابــــا |
ومِن عَجَبٍ تُشَـيِّـبُ عاشِقِيـهــا |
|
وتُفنِيـهِـم، ومـا بَـرِحَـت كَعـابـا |
فـمَـن يَـغــتَـرَّ بالـدُّنـيـا فـإنِّـي |
|
لَـبِـســتُ بِـهـا، فـأَبـلَيـتُ الثِّيـابـا |
جَنَيتُ بِرَوضِها وَردًا وشَوكًا، |
|
وذُقـتُ بِكـأسِـهـا شَهـدًا وصابــا |
فلَـم أرَ غَيـرَ حُكـمِ اللهِ حُـكمًـا |
|
ولَـم أرَ غَــيــرَ بـاب اللهِ بــابـــا |
ولا عَـظَّمـتُ في الأشيـاءِ إلَّا |
|
صَحِيـحَ العِـلـمِ، والأدَبَ اللُّبـابـا |