كلمة هادئة حول نجيب محفوظ وجائزة نوبل

العدد20

العدد 20

*( كتب هذا المقال في حياة نجيب محفوظ وننشره كما هو - التحرير)


      أترى يستطيع المرء بعد أن هدأت عاصفة التمجيد، وخفقت أصوات التهليل أن يقول كلمة هادئة منصفة في موضوع نجيب محفوظ وجائزة نوبل ؟!.

       وأبادر فأقول: إنني لم أفاجأ بمظاهر الفرح الذي عمّ كثيراً من المثقفين في العالم العربي، كما لم أفاجأ بما أنكره بعض الكتاب من مبالغة الفريق الأول مثيرين تلك المفارقة العجيبة بين هذا الموقف وبين موقف قريب، كان يستهجن الجائزة، ويتهم القائمين عليها بالخضوع للضغوط السياسية والانحياز المكشوف إلى الصهيونية .. ذلك أننا نحن العرب ما زلنا نغلّب العاطفة على كثير من مواقفنا وأقوالنا وتصرفاتنا .

      ولست أريد بما قلت أن أصادر الابتسامة من شفاه الذين غمرت الفرحة نفوسهم بنجاح القصاص الكبير، ونيله الجائزة بجدارة واستحقاق . أما احتجاج الفريق المعارض بما وراء هذه الجائزة من ظروف سياسية، أو استهجانهم للقائمين عليها، فإني أذهب إلى أنه لا ينبغي أن نرفض ما نعده حقاً لنا مهما كانت الدوافع التي دفعت غيرنا إلى الاعتراف بهذا الحق، وسواء كان ذلك إنصافاً منهم أم كان لغاية في أنفسهم .

       على أنني أتمنى أيضاً ألا يستخفنا الفرح كالعادة، فيحملنا على الانتقال المفاجئ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وإنما يجمل بنا أن نسلك سبيل الاعتدال والنصفة، وأن نحكِّم منهج الموضوعية في مواقفنا وأحكامنا التي نصدرها على الناس مهما كانت نظرتنا إليهم .

      ولعلّني لا أخرج عن الاعتدال حين أقول : إنه يحق للعرب أن يفرحوا بمنح جائزة نوبل لنجيب محفوظ لأنها تمثل رد اعتبار للأدب العربي الذي يملك من التراث الضخم عبر خمسة عشر قرناً ما لا تملكه أمة أخرى في العالم كله !.. بل لعل منح هذه الجائزة لكاتب عربي يعطي أدباء العربية جميعاً شعوراً بالاعتزاز والثقــة بالنفس بعـــد أن كثرت الشكوى من أن الأدب العربي لم يأخذ مكانه بجــانب الآداب العالمية الأخرى .

      وما من شك في أن منح الجائزة لنجيب محفوظ كان في الدرجة الأولى على ثلاثيته الرائعة ( بين القصرين وقصر الشوق والسكرية ) .. وقد سبق أن كتبت عن هذه الثلاثية منذ سنوات أنني لم أجد بين الروايات التي تناولت عالماً متداخلاً عبر أجيال متعددة ما يداني هذه الثلاثية إلا رواية الجذور لأليكس هيلي .. ولم أجد ما يداني ما فيها من الألوان المحلية إلا ما كتبته بيرل باك في رواية الأرض الطيبة التي حازت بها جائزة نوبل أيضاً . ولقد قرأت كلاً من هذه الروايات أكثر من مرة ليطالعني في كل منها شيء جديد لم أتعرفه من قبل، وهكذا شأن العمل الأدبي الرائع، لا يكاد يعطيك أسرار جماله الفني دفعة واحدة .

       وعلى كثرة ما كتب عن ثلاثية نجيب محفوظ فإن التساؤل عن سر روعتها ومبعث فرادتها ما يزال قائماً : أترى ذلك يعود إلى كونها شاهداً على عصر كامل، عاشت فيه مصر تحت نير الاستعمار صابرة مستكينة إلى أن تحرك المارد الذي كان حبيساً في القمقم ؟ أم تراه في التواقت الزمني حيث يسير الحدث القصصي موازياً للحدث التاريخي في تنسيق محكم ؟ أم ترى أنّ نجيب محفوظ قد استطاع أن يستهوينا بمزجه بعض المواقف الإبداعية ( الرومانتيكية ) التي كانت شعاراً للجيل السابق ( مثل تجربة كمال ومشاعره نحو عايدة التي تذكرنا بناتاشا في رواية الحرب والسلام لتولستوي ) مع الواقعية الغالبة التي تميز أعمال الجيل اللاحق ؟!.. أم تراه استحوذ على إعجابنا بنماذج الأبطال المتنوعين الذين أبدع تجسيمهم على كثرتهم، وأحسن انتزاعهم من صميم الحياة حتى لا يعدم القارئ أن يجد شخصية من شخصيات الثلاثية الرئيسة أو الثانوية، يتعاطف معها لأنها تحكي تجربة عاشها بنفسه أو عرفها فيمن حوله، على الرغم مما يؤخذ على نجيب محفوظ من الميل إلى اختيار شخصيات نمطية هابطة في معظم رواياته .

      ولكم كنت أتمنى أن يقف نجيب محفوظ عند الثلاثية، فلا ينحدر بعدها إلى العبثيــة الفـارغة التي رأيناها في رواية " القاهرة الجديدة " قبل الثلاثية، ولا إلى

 

الرمزية الغــامضة التــي تخفي كثيــراً من بذور الشــك تحت ستار النزعة الفلسفية التأملية، وتحت قناع من الحذر الشديد، كما في رواية " أولاد حارتنا "، ولا إلى الواقعية السوداء أو العدمية كما في قصة " الطريق "، ولا إلى القصة التسجيلية أو الاستهوائية التي ربما اندفع إليها كما اندفع إلى كتابة بعض الحوارات " السيناريو " استجابة لمغريات المخرجين السينمائيين كما في قصة " اللص والكلاب " وملحمة " الحرافيش " التي اقتبس منها أكثر من فيلم سينمائي .

     بل لكم كنت أتمنى أن لا يجاري نجيب محفوظ ما اندفعت إليه أجيال القصاصين في العالم تحت سياط المخطط الصهيوني المدمر من الوقوع في حمأة الجنس وتسويغ الرذيلة، وإن كان نجيب محفوظ يحتج باستخدامه للجنس اجتماعياً أو فنياً، فقد أنكر عليه ذلك كثير من النقاد وعلى رأسهم الأستاذ أنور المعداوي حين أخذ عليه استغراقه في " جو المغامرات الجنسية لطبقة العوالم المغنيات " في ثلاثيته، وحين يصف السقطة الأولى لرضوان بن ياسين أحد أبطال الثلاثية في وهدة الشذوذ الجنسي، فيسجل التفصيلات تسجيلاً حرفياً دون مسوِّغ فني . وهو يفعل الشيء ذاته كلما عمد إلى تصوير الجنس لا في الثلاثية وحدها بل في معظم قصصه، وهذا ما دفع أنور المعداوي إلى أن يتساءل: " لماذا يتعرض نجيب محفوظ للجنس، ويهدف عامداً إلى تشريح العلاقة الجنسية في أكثر أعماله ؟ هل يعمد إلى هذا بقصد إثارة القارئ كما يفعل غيره من الكتاب بغية الرواج، أم أن له اتجـاهـاً يتسـم بالمنهجيـة التـي يلتزمهــا كلـون من ألـوان التعبير عن وجوده العقلي ؟".

      وإذا كان المجال يضيق عن تقويم المضامين الفكرية لقصص نجيب محفوظ فإني لا أتردد بعد قراءة قصصه وقراءة ما قاله هو بنفسه في كثير من المقابلات التي نشر بعضها في كتب مستقلة مثل " نجيب محفوظ يتذكر: " ومثل " أتحدث إليكم " .. أقول: لا أتردد في الحكم بأن نجيب محفوظ كان دائماً يتأرجح بين اليسار الفكـري والحيـاد السيـاسي الذي يدفع إليه الحذر الشديد . ومن هنا كان عجبي ممن دفعتهم موجة الفرح بمنحه جائزة نوبل إلى حد الزعم بأن له دوراً إيجابياً من الإسلام ودوره في بناء حياتنا المعاصرة، وقد بنوا ذلك على تصريحاته الصحفية الأخيرة، إذ لا شك أن ثمة فرقاً كبيراً بين ما نراه في إنتاج الرجل عبر نصف قرن وبين تصريحات صحفية بلغ صاحبها السابعة والسبعين من عمره، وصار على حد قوله: " لا ينتظر إلا حسن الخاتمة"، مع أن هذه التصريحات لم تخل من تمجيد لرموز الحداثة واليسار مثل أدونيس والبياتي ونزار القباني وحنا مينة .

      ومع ذلك فإن علينا أن نرحب بما قاله نجيب محفوظ مؤخراً عن الإسلام وعن الصحوة الإسلامية آملين أن يكون وراء ذلك تغيُّر في فكر الكاتب الكبير، ومتمنِّين أن يطول به العمر ليعكس هذا التغيُّر في عطاء أدبي جديد .

 

 

تعليقات القراء
محمد عباس Nov 21, 2012
قراءة رائعة :نحن العرب ما زلنا نغلّب العاطفة على كثير من مواقفنا وأقوالنا وتصرفاتنا .،الحق قلت أستاذنا

علق برجاء التدقيق اللغوي لما يكتب