الدراسات
العدد 125
الرسالة التاسعة: في الفرق بين التشبيه والاستعارة
إذا كان التشبيه يعترف للواقع بحضوره وذلك من خلال ذكر الطرفين المشبه والمشبه به فإذا قلنا (زيد أسد) و(محمد نور) فإننا نجد في هذين القولين حضورًا للخيال لكن هذا الحضور لا يلغي منطق الواقع؛ فمازال محمد موجودًا؛ بوصفه كيانًا مستقلًا ومازال النور موجودًا بوصفه شيئًا مختلفًا، لكننا في سلم البلاغة والخيال قد نصعد أكثر فأكثر عندما يزول هذا الفصل بين المشبه والمشبه به فنرى الاثنين شيئًا واحدًا؛ إننا إذًا في عالم الاستعارة، وكما هو واضح من الكلمة فإنها تعبر عن لفظ يتم إخراجه من معناه الحقيقي ليعبر عن معنى آخر غير الذي وضع له في الأصل، هذه هي الاستعارة؛ فإذا كان الشاعر العربي القديم يقول:
إنما مصعب شهاب من الله ** تجلت عن وجهه الظماء
فإن علينا أن نلحظ أن عبيد الله بن قيس الرقيات يمدح مصعب بن الزبير مستخدمًا أسلوب التشبيه البليغ الذي يتكون من طرفين مشبه (مصعب) ومشبه به (شهاب)، تلك هي الدرجة الأولى في سلم الخيال.
أما الدرجة الأعلى فإننا نجدها على سبيل المثال في قول ربنا في القرآن الكريم في إشارته إلى طبيعة الدور الإيجابي لنبيه – صلى الله عليه وسلم - يقول تعالى " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين " إننا بالبحث المتأمل داخل هذا النص القرآني نجد أن المشبه قد غاب وتمت الإشارة إليه بإحدى لوازمه؛ ألا وهي المشبه؛ فإذا كنا في التشبيه نقول (محمد نور)، فإننا في هذه الاية نجد أن محمدا والنور صارا شيئًا واحدًا، وتلك هي بلاغة الاستعارة، إن نبينا – صلى الله عليه وسلم – قد جاء هداية للعالمين؛ ليرشد الناس إلى الصرط المستقيم الذي فيه صلاح حياتهم في الدنيا ونجاتهم أمام الله في الآخرة، هذا المعنى تم التعبير عنه ببناء استعاري عندما عبر الله عن هذا القول في قوله: "لتخرج الناس من الظلمات إلى النور". إننا في التشبيه نقول الكفر ظلام أو الكفر كالظلام، لكننا في الاستعارة حذفنا أحد الطرفين وجعلناه مع الطرف الآخر سواء؛ لقد أضحى الكفر هو هو الظلمات، ونلاحظ أننا هنا أمام ظلمات ونور واحد، إننا بالنظر إلى واقعنا المعيش نلاحظ أن للكفر أشكالا عدة يظهر من خلالها فما بين عابد للنار وعابد لشمس وعابد لتمثال صخري وغير ذلك؛ إننا أمام ظلمات يأتي في مواجهتها كتاب واحد ونور واحد (الإسلام) وهذا يفسر لنا قوله تعالى: "إن الدين عند الله الإسلام".
نلخص مما سبق أن الفرق بين التشبية والاستعارة يكمن في أن التشبيه أيا كان نوعه يقيم عماد الطرفين أمام القاريء المتأمل: المشبه والمشبه به، أما الاستعارة فتعني تذويب هذا الفارق تمامًا، وإذا أردنا أن نتعرف على أنواعها فلندخل مع عدد من الأمثلة التطبيقية. فهذا النابغة الزبياني يقول:
كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطئ الكواكب
تطاول حتى قيل ليس بمنقضٍ وليس الذي يرعى النجوم بآيب
نستطيع أن نضع خطًا تحت (وليس الذي يرعى النجوم بآيب) إننا أمام مشهد قد تم رسمه بحروف اللغة الشاعرة، هذا المشهد يعكس حالة نفسية شديدة المأساوية يعانيها الشاعر وهو في تعبيره عنها مثل كثير من الشعراء القدامى، إن ليل الشاعر هاهنا طويل لا ينتهي، هذا الطول قد استعان في رسمه عبر حروف اللغة الشاعرة بكواكب السماء التي لا تتحرك في البيت الأول، وفي البيت الثاني جاءت الاستعارة لتصل بكلمات الشاعر إلى قمة البلاغة؛ إننا هنا أمام نوع من الاستعارة، هي الاستعارة المكنية، التي تعني حذف المشبه به والتكنية عنه أو الإشارة إليه بأحد لوازمه؛ ألا وهو المشبه.
إن الذي يتم رعيه في سياق الواقع الصحراوي المتعارف عليه هو الأغنام، لكن الشاعر قد حذف كلمة أغنام ووضع مكانها كلمة نجوم، وسر الجمال في هذه الاستعارة – كما يقول القدماء – هو التوضيح، عندما أشبه شيئًا ماديًا بآخر مادي غير عاقل يكون سر الجمال هو التوضيح، إن مهنة الراعي تكشف عن طبيعة البيئة الصحراوية التي أفرز فيها هذا الشاعر نصه، وقد وظفها في أسلوب بليغ هو الاستعارة؛ لكي يكشف من خلالها وبدقة طبيعة الحالة النفسية التي يكابدها، إن الأغنام تتحرك في بيئة العربية الصحراوية، لكن نجوم ليل الشاعر في السموات لا تتحرك، هذا يعني أن زمنه قد توقف عند لحظتة الحزينة التي مازالت تهيمن علي كيانه.
إذا نظرنا مثلًا إلى جملة (اللغة العربية تنعي حظها بين أهلها/عنوان قصيدة للشاعر المصري الكلاسيكي حافظ إبراهيم) نجد أنفسنا أمام فعل يصرح بطبيعة المحذوف؛ إن حافظ إبراهيم قد وضع في بدايات القرن العشرين قصيدته هذه ليعبر عن أزمة الهوية العربية في ظل احتلال أجنبي يسعى إلى فرض صوته وثقافته على الأمة التي يحتلها، هنا جعل حافظ إبراهيم من هذا الكيان غير الإنساني ألا وهو اللغة العربية إنسانا يصرخ ويتألم ويحتاج إلى من يسمع صوته، وبداخله نجد هذه المرأة المتألمة (اللغة) تقول:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
لقد بدأ حافظ إبراهيم هذا البيت معتمدا آلية الانتقال التدريجي من التشبيه إلى الاستعارة عموما؛ فاللغة العربية بحر كما يقول الشاعر، إذن نحن أمام مشبه ومشبه به لكن هذا البحر تحول إلى جسد آدمي له أحشاؤه فعلونا درجة في سلم الخيال، بالدخول في عالم الاستعارة المكنية الي جعلت من هذا البحر المليء بالكنوز إنسانا ذا أحشاء وسر الجمال هاهنا التشخيص.
وها نحن أولاء مع شاعر رومانسي قد ظهر في عصرنا الحديث هو خليل مطران الذي عبر عن حالته مثل القدماء باستخدام بناء استعاري له سر جمال خاص. يقول في قصيدته المساء:
شاكٍ إلى البحر اضطراب خواطري ** فيجيبني برياحه الهوجاء
إن أهم ما يميز الرومانسية حوار أهلها لمفردات الطبيعة وإضفاء الطابع الإنساني على جزئياتها، هنا تأتي البلاغة لتكشف لنا عن هذا التوجه؛ إن شاعرنا هنا يتحدث مع البحر، والبحر مخلوق غير إنساني، هنا تتحقق دلالة كلمة الاستعارة، إننا أخذنا لفظة البحر من معناها المعجمي المتعارف عليه وأعطيناها دلالة إنسانية ليست لها في الأصل، هنا على الفور يبدو أن سر الجمال في هذه الاستعارة التشخيص.
وإذا قلنا مثلا: النور أمامي الآن في قاعة الدرس. فإننا ساعتها نجد أنفسنا أمام نوع استعاري يسمى بـ (الاستعارة التصريحية أو الاستعارة التمثيلية). والفرق بينها وبين نظيرتها المكنية أننا في المكنية نحذف المشبه به ونكني ونفصح عنه بأحد لوازمه؛ ألا وهو المشبه، كما هو الشأن في تعبير يرعى النجوم في استهلال قصيدة النابغة الذبياني، أما التصريحية فالعكس هو المعبر عن جوهرها؛ إننا نحذف المشبه ونصرح بالمشبه به؛ كما هو الحال في قوله تعالى: " الر. كتابٌ أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور"؛ فنحن بصدد مشبه غير موجود تقديره الكفر بالنسبة إلى الظلمات، وتقديره الإيمان والتوحيد بالنسبة إلى النور؛ فكأننا أمام تشبيه تمت ترقيته إلى استعارة، فالكفر كالظلمات، والإيمان والتوحيد كالنور. تمت الترقية التي تزيد المعنى قوة وتأثيرًا في نفس المتلقي؛ لتصير كما عبر عنها ربنا في محكم آياته: "لتخرج الناس من الظلمات إلى النور".
وامتدادًا لهذا المشهد الاستعاري المؤسس على التصريح أو التمثيل بالمشبه به وإقصاء المشبه من المشهد نجد أنفسنا أمام نمط استعاري يتصل بفن المثل، وتحديدًا بمضرب المثل؛ فعندما نستعير مركبًا لغويًا قيل في موقف معين إلى موقف يشابهه فإن هذه العملية تعد جزءًا بارزًا في فضاء الاستعارة. وعلى سبيل الاستشهاد نتوقف أمام هذه المقولة للعربي القديم التي صارت مثلًا: " الصيف ضيعت اللبن " لأن امراة قد خاصمت وفارقت زوجها الثري بسبب عيوب وجدتها فيه وذهبت إلى فقير لشدة رغبتها فيه؛ فقال لها من رغبته: لا أستطيع ليس عندي ما تبغين، فأرادت الرجوع إلى زوجها الأول نادمة فأبى؛ فقيل عنها هذا المثل، إنه يضرب في المواقف التي نجد فيها إنسانًا يفرط فيما يمكنه أن يحصل عليه بسهولة ثم هو يأتي بعد فوات الأوان وتغير الظروف ليحاول أن يدركه ثانيةً، بعد أن أصبح هذا مستحيلًا، وهو ما نطلق عليه في كلامنا اليومي لقد فات الأوان، لقد ضيع الفرصة، أو بالعامية المصرية الدارجة (بعد خراب مالطا) ؛ إن استدعاء المثل العربي القديم هذا في سياقات ومواقف مشابهة للسياق الأول الذي خرج فيه، يعد لونًا من ألوان الاستعارة، وهكذا الشأن بالنسبة إلى كل عملية كلامية نضرب فيها مثلًا؛ أي نستدعي فيه مثلًا للحكم أو الوصف أو إبداء الرأي في حال معين واقع أمامنا.
وهناك نوع في الاستعارة يطلق عليه الاستعارة التهكمية أو الاستعارة الساخرة، ولكي نفهم معنى هذه الاستعارة يمكننا الوقوف أمام قول ربنا " ذق إنك أنت العزيز الكريم " إن علينا أن نحيط بالسياق الذي تقال فيه، إننا في هذه الآية أمام الكفار الذين ادعوا لأنفسهم شرفًا ومجدًا وعلو مكان في الدنيا جعلهم يعترضون ويعزفون عن الإيمان بدعوة الأنبياء بحجة أن من يسيرون وراء الأنبياء هم من الضعفاء والفقراء، فكيف للغني والعظيم أن يكون مع هذا الفقير والضعيف في مكان واحد؛ لذا يأتي قول ربنا ليتهكم وليسخر من هؤلاء.
ويتضح هذا المعنى أكثر مع آية قرآنية أخرى هي قوله تعالى:" فبشرهم بعذاب أليم "، هنا تبدو العلاقة الضدية جلية بين البشرى والعذاب؛ إن كلمة بشرى يناسبها لفظ الجنة مثلًا، وكلمة العذاب يناسبها قول التهديد أو الوعيد، لكن القول القرآني قد ركب بين الضدين لغرض يريده؛ ألا وهو إظهار مدى الذل والاختقار والهوان لهذه الفئة في الآخرة، التي وضعت نفسها في مكانة أعلى من النبي ومن آمنوا برسالته، وانطلاقًا من هذا المنهج الأثير الذي وضعه لنا الإمام الرازي، صاحب التفسير الكبير أو مفاتح الغيب وغيره من المفسرين للقرآن الكريم المتمثل في مقولة: إن القرآن يفسر بعضه بعضا يتضح أننا بالإمكان أن نقيم وصلًا دلاليًا بين هذه السخرية من القوم الكافرين وقوله تعالى: "وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا " إن هذه الآية تفسر لنا العناد ومن ثم فإن قوله تعالى: "فبشرهم بعذاب آليم" هو سخرية إلهية من هذا الموقف الفكري الذي هيمن على سلوك تلك الفئة ومن سار على دربها في الدنيا، ومن الواضح أن مصطلح (المفارقة) الذي ظهر فيما بعد في حقل النقد الحديث قد استلهم من هذا اللون الاستعاري خطاه وهو يتشكل ويتبلور؛ ليكون مرتكزا لانطلاق رافدين في المعنى: الأول يسير في سياق فكري ونفسي له دلالته، والثاني يسير في سياق على النقيض؛ فالقارئ على سبيل المثال لرواية الأديب المصري رشاد بلال الحاملة عنوان: (كله تمام يا افندم) يجدها على مستوى التفاصيل متعارضه تمامًا مع ما يحتضنه فضاء العنوان من معانٍ؛ إن صاحبها يتناول فترة الستينيات في مصر، التي شهدت مدا اشتراكيا وحلما بوحدة تجمع الشعوب العربية في إطار قومية واحدة منطلقة من اللغة والثقافة التي يلتقي عندها أبناؤها، لكن كل ذلك قد تكسر مع هزيمة العام 1967 لمساوئ كثيرة شابت نظام الحكم وكان لها دورها المؤثر فيما أفضت إليه مجريات الأحداث على المستوى المرجعي؛ لذا تأتي الصياغة الأسلوبية للكاتب حاملة في طياتها سخرية وتهكمًا من خلال توظيف هذا التعبير المنطلق من القاموس اللغوي الدارج بين المصريين (كله تمام يا افندم) وتكمن المفارقة هاهنا في أن قارئه ينتقل به من دلالته الحرفية المباشرة إلى دلالة عكسية مغايرة تماما، عندما يتابع الحركة الدرامية الهابطة للبطل من الداخل، بموازة قراءته لهذه المرحلة التاريخية الدقيقة في حياة المجتمع المصري والمنطقة.
إن البلاغة إذًا تعد بمثابة شخصية المانح للناقد الذي يجد لقراءته الموظفة للمصطلح في حقل النقد جذورا في بلاغتنا العربية، ليس فقط بالنسبة إلى الاستعارة التهكمية، إنما التورية أيضًا في مبحث البديع تمثل منطلقا مفيدًا في قراءة هذه النوعية من النصوص المبنية على منطق السخرية.
وفي الختام نقول: إن العلاقة بين التشبيه والاستعارة هي علاقة بين الأعلى والأدنى في سلم الخيال، فأول درجات الخيال التشبيه ثم نعلو أكثر وأكثر إلى الاستعارة التي تقوم على تماهي الطرفين في شيء واحد بأن نجعل المشبه عين المشبه به أو أن نجعل المشبه به عين المشبه؛ فيصيرا شيئًا واحدًا.
الرسالة العاشرة: في المجاز المرسل
المجاز المرسل: استخدام الكلمة في غير معناها الأصلي لعلاقة بين الاثنين غير علاقة التشبيه، وذلك هو الفرق بين الاستعارة والمجاز المرسل. ونفهم من ذلك أن للمجاز المرسل أشكالًا عدة تمنح النص بلاغته؛ أول هذه الأشكال:
- المجاز المرسل ذو العلاقة الجزئية: عندما نقول: نشر العدو عيونه بين الناس؛ إن المقصود هاهنا أن يركز المتلقي على الدور المؤثر الذي تؤديه الشخصية من خلال أحد أعضائها؛ ألا وهو العين، ولا شك في أن المتكلم لا يقصد المعنى الحرفي للكلام، لكنه يريد أن يقول نشر جواسيسه بين الناس، إننا هاهنا أطلقنا الجزء/ العين وأردنا الكل؛ ألا وهو الشخص كاملًا، لكن لماذا ؟ إننا هنا أمام نوعية من البشر تمارس أدوارها في التقاط الأخبار والمعلومات، ونقلها إلى طرف آخر من خلال جزء محوري فيها متمثلًا في العين، وهذا ربنا عندما تحدث عن كفارة اليمين قال: "فإطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة". إننا في هذا النص لا نقصد الرقاب بالمعنى المادي بما قد يطرأ على الذهن للوهلة الأولى، لكننا نقصد الأشخاص الذين يشغلون في المجتمع رتبة اجتماعية معينة أراد الله إنصافها، إنها رتبة العبيد والإماء؛ فالرقاب هاهنا مجاز مرسل علاقته الجزئية؛ لقد أرسلنا أو لنقل أطلقنا الجزء (الرقاب) وأردنا الكل وهم العبيد، وهنا يدخل سؤال الفليسوف: لماذا الرقبة بالتحديد التي اختارها الله؟ إن الإنسان الذي لا يحصل على إرادته كاملة تصير حريته ومن ثم إنسانيته منقوصة؛ فيصير أقرب إلى الحيوان الذي يمتلك صاحبه ناصيته (رقبته)؛ ومن ثم فإن التحرير هاهنا يعني إزالة هذه القيود التي تحد من حرية الإنسان وتنقص من الكرامة التي بها ارتفع على سائر خلق الله؛ ومن ثم يصير التحرير في النص القرآني مرادفا لحياة جديدة تعلن عن ميلاد جديد لهذا الإنسان.
- المجاز المرسل ذو العلاقة الكلية: إن هذا النوع على عكس الأول تمامًا؛ ففيه نطلق الكل ونريد الجزء، ومنه قول الحق تبارك وتعالى: " ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين" إن أصحاب الحجر في هذ النص هم قوم ثمود، فنحن نعلم جيدًا أن هؤلاء القوم الكافرين قد كذبوا نبيهم صالح – عليه السلام - لكن لماذا قال ربنا " المرسلين " بصيغة الجمع؟ إن صالح – عليه السلام – قد كلف بدعوة التوحيد الداعية إلى الإيمان بالله وحده؛ ومن ثم فإن تكذيبه هو في الحقيقة تكذيب لكل الأنبياء؛ لأنهم جميعًا قد أتوا برسالة التوحيد؛ ومن ثم يصبح هذا النص القرآني مفتاحًا لتفسير قوله تعالى " إن الدين عند الله الإسلام " فالإسلام هاهنا هو الدين الذي حمل مبادئه كل الأنبياء من آدم حتى خاتم الأنبياء محمد – صلى الله عليه وسلم - لقد أطلقنا الكل المرسلين وأردنا الجزء (صالح عليه السلام)، كما يصبح هذا النص مفتاحًا لتفسير حديث النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – " الأنبياء أخوة لعلات دينهم واحد وأمهاتهم شتى " إن المقصود بأخوة لعلات في اللغة العربية الأبناء لأب واحد مع اختلاف الأمهات، هنا يقول نبينا – صلى الله عليه وسلم – إن الأب الذي ننتهي إليه جميعًا هو رسالة التوحيد، لكن الشرائع تختلف باختلاف الأحوال والأزمان (الأمهات).
نستطيع من خلال دراستنا للمجاز المرسل ذي العلاقة الكلية أن نقف بدقة محللين للنمط الذي يميز بعض وسائل الإعلام على اختلاف أشكالها في الترويج لقضية معينة أو تكوين رأي عام مع أو ضد أمر معين داخل المجتمع أو تحويل انتباه الجمهور إلى حادث بعينه من خلال توظيف هذه النوعية من المجاز وليس أدل على ذلك من كثير من العناوين التي تأتي متصدرة واجهة صحفنا اليومية، على سبيل المثال: مصر تعج بالمهرجانات في فصل الصيف، والمتتبع يجد أن القاهرة فقط وبعض مناطق الساحل الشمالي هي التي تحتضن هذه الفعاليات. مثال ثانٍ: الفيضانات تجتاح العالم وفي الواقع نجد أنها مركزة في مناطق بعينها هنا وهناك وليس كل العالم بالطبع.
إننا إذًا أمام سمة من سمات الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب تميل ناحية الإثارة والتهويل بغرض شد الانتباه وتحقيق معدلات متابعة ومشاهدة عليها، نلمح ذلك جليا في مبالغات أصحاب القنوات الخاصة على يوتيوب على سبيل المثال إنها بتوظيف هذه النوعية من المجاز المرسل الذي يطلق الكل أو يرسله لكنه في الحقيقة يريد الجزء.
- المجاز المرسل ذو العلاقة السببية: في هذه النوعية من المجاز نجدنا نستخدم كلمة في غير معناها الأصلي لكونها سببًا في حدوث معنى آخر، عندما أقول (قد نزل السحاب ليروي أرضنا) إن السحاب في الحقيقة لا ينزل لكن لأنه المتسبب في نزول ماء المطر فقد استخدمناه.
نلخص مما سبق أن المجاز المرسل صورة بلاغية تقوم على التجاور بين الأشياء وذلك باستخدام الألفاظ التي تدل على معانٍ محددة متعارف عليها لتنجز معاني أخرى، والفضل في ذلك للمتكلم الذي يخاطب من خلال المجاز المرسل عقل المستمع؛ فيحرك في مخيلته القدرة على تجاوز ظاهر الأشياء إلى ما وراءها.
ومن أنماط المجاز المرسل أيضًا:
- المجاز المرسل على اعتبار ما كان، والمجاز المرسل على اعتبار ما سيكون؛ في حياتنا المعيشة، وفي دفتر يومياتنا نجد أنفسنا نلجأ إلى هذين النوعين لأغراض ومقاصد يكشفها مقام الكلام أو السياق الخارجي المحيط بمنظومة الكلام؛ فقد يريد المتكلم الحكم على شخص أو النظر إليه باعتبار ما كان في حياته؛ كأن يقول لرجل بلغ من العمر مبلغه: كلامك أيها الغلام غير دقيق؛ إنه أشار إلى الرجل بلفظة غلام ربما بغرض الاحتقار أو التحريض على السخرية منه؛ إذ إن الغلام تشير إلى مرحلة في قد تم تجاوها إلى غيرها في رحلة العمر، أو قد تشير في سياقنا العربي الثقافي إلى وضعية اجتماعية معينة؛ ألا وهي وضعية العبد الذي يباع ويشترى؛ أقول فلان غلام فلان؛أي عبده الصغير السن الذي يمتلكه.
إلى جوار هذه الحال المجاز المرسل على اعتبار ما سيكون، الذي يتم توظيفه في سياق الأمنيات أو المديح؛ كأن نقول لصبي صغير أقبل أيها الأستاذ أو أيها العالم الكبير؛ إن الصبي لا يزال في مراحله العلمية الأولى، لكن المتكلم بغرض التشجيع والتحفيز قد يرتقي به إلى المأمول أو المرجو فيه ومنه. وقد يكون المنطوق نفسه إشارة إلى التهكم إذا كان هذا الصبي مقصرًا مهملًا لا يؤدي ما عليه على الوجه الأمثل؛ هنا يصير المنطوق الكلامي حاملًا وجهين بلاغيين؛ الأول: الاستعارة التهكمية، الثاني: المجاز المرسل على اعتبار أو على افتراض ما سيكون، والوجه الأول أدق وأقرب إلى مقاصد المتكلم من الثاني.
وامتدادًا للحديث عن المجاز المرسل على اعتبار ما سيكون يمكن القول: إن استخدامه يفتح أفق الدلالة على زمن مستقبلي متوقع الحصول، ولعل من الأمثلة التي تكشف ذلك، قول ربنا " إنني أراني أعصر خمرا)"، إن العصر هاهنا لا يكون إلا للثمر وليكن العنب على سبيل المثال لكن النص القرآني لم يقل (أعصر عنبا) لكنه أعطى هذه الثمرة في شكلها النهائي الذي ستئول إليه؛ فالخمر هو المنتج النهائي للعنب إذا تم تخزينه زمنًا طويلًا. وقال ربنا في آية فيها هذا النوع أيضًا: "وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرًا كفارا". إن النص هاهنا يأخذنا على الفور إلى حديث نبينا – صلى الله عليه وسلم – "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " إن قول نوح عليه السلام قد يأخذنا إلى المستقبل؛ فهو بحكم خبراته الكثيرة مع قومه والزمن الطويل الذي مكث فيه يدعوهم إلى الله، يعلم أن الأجيال الآتية ستكبر ويكون حالها كحال الآباء والأجداد؛ ألا وهو الكفر، ولذلك لجأ إلى هذا النص الذي يمكن أن ننعته بالاستباقي؛ لأن نوح – عليه السلام – في لحظتة الحاضرة يرسم مشهدًا للمستقبل الذي لم يحدث بعد.
- المجاز المرسل ذو العلاقة المحلية
نلاحظ في هذا النوع من المجاز أننا أمام تركيب أو كلمة البعد المكاني غالب عليها؛ إنها تشكل وعاءً لشيء آخر هو المقصود، فهذا قول متمم بن نويرة في رثاء أخيه مالك الذي قتل على يد خالد بن الوليد رضي الله عنه في حروب الردة يقول:
وقالوا أتبكي كل قبر رأيته لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
إن متمم هاهنا لا يبكي القبر ولكن يبكي من بداخله؛ ألا وهو أخوه مالك، إذن يتضح أن العلاقة التي تجمع كلمة القبر بالمعنى المقصود من وراء استخدام هذا التركيب هو علاقة المحلية؛ فالقبر محله الشخص المدفون المقصود بالبكاء، وهذا ذو الرمة الشاعر الأموي ذو الإحساس المرهف الذي ملأ الدنيا شعرًا في التشبيب في حبيبته مي نجده في أواخر حياته بعد أن نفرت منه راحلته في الصحراء يقول بيتًا في الشعر قارئه للوهلة الأولى يفهم منه أن هذا الرجل قاسي القلب، لكن دارس البلاغة العربية العارف بالأبعاد الزمانية والمكانية والثقافية المحيطة بإنتاج النص حتمًا سيخرج من ورائه بمعنى آخر، ماذا يقول هذا البيت؟
ألا أبلغ الفتيان عني رسالة ** أهينوا المطايا هن أهل هوان
إن القاري العادي ربما يقول مستنكرًا: هل يعقل أن نقول عن هذا الشاعر إنه صاحب إحساس مرهف وهو يطالبنا بأن نهين المطايا التي سخرها الله لنا لتحملنا في معاشنا؟! إن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي الذهاب إلى ما أطلق عليه عبد القاهر الجرجاني في نظرية النظم بالمعنى الثاني أو معنى المعنى؛ فظاهر النص يطالبنا بالإهانة لكن باطنه يقول لنا: إننا أمام شاعر يرتب أولويات حياته بين أمرين: الأول المنافع العاجلة من طعام وشراب وكساء ومال وغيره، الثاني المنافع الآجلة: التي تمنح الإنسان أثرًا طيبًا في الدنيا وذكرا صالحًا بعد الموت، إن هذه المطية كان عليها طعامه وشرابه ومتاعه، لكنه عند الموت لم يطلب من يغيثه بشربة ماء، لم يكن ذلك مهمًا في المقام الأول المهم عنده أن يعطي وصية وأن يقول الشعر، إن المطايا في هذا البيت مجاز مرسل علاقته المحلية؛ فالمطية هي محل أو مكان لما عليها من طعام وشراب وهدايا حصل عليها من أحد الخلفاء، إن الشاعر هاهنا يعلي الصوت ليقول في وصيته قبل أن يموت، يا من تتلقى رسالتي ليكن همك في هذه الدنيا تحصيل ما يتيح لك البقاء بعد موتك؛ إننا أمام هذا المجاز المرسل نشعر كأننا أمام تقديم وتأخير بلغة النحو العربي.
إذا فإن الدراية بطبيعة السياق الثقافي المحيط بعملية إنتاج النص المبدع تؤدي دورًا لا غنى عنه في التعامل التأويلي معه، ولا شك في أن عملية الترجمة من لغة إلى أخرى التي تتغيا لنفسها دقة وأمانة عليها مراعاة ذلك؛ وهو ما يمكن أن نطلق عليه بالنظر إلى هذا النص على سبيل المثال مسمى (الترجمة الثقافية للنص) التي تتجاوز حرفيته وما يفرغة من حمولة دلالية مباشرة تعرض نفسها على وعي القراءة وصولا إلى ما وراءها وهو ما يمكن أن نسميه (ما وراء الدلالة/Metameaning).
وقبل أن ننهي حديثنا عن المجاز المرسل لابد أن نعرف أن هناك ما يسمى بالمجاز العقلي، هو نوع من الخيال يتم معرفته بالعقل وسر الجمال فيه هو أنه يختزل مساحة الكلام البادية على الورق أو عند النطق؛ فعندما نقول: لقد حجزت تذكرة للسفر إلى الخارج هذا مجاز عقلي لأن الذي حجز في الحقيقة هو موظف التذاكر المسؤول عن ذلك، لكن الحقيقة تعني القول: لقد ذهبت إلى مكتب التذاكر وقام أحد الموظفين بحجز تذكرة لي للسفر إلى الخارج. ومن المجاز العقلي قولنا: لقد هزم صلاح الدين جيش الصليبيين في حطين؛ هذا مجاز عقلي؛ إن صلاح الدين ليس هو المقصود وحده بل جيش المسلمين، هذه الآلاف المسلمة التي خرجت للقتال؛ فلا يمكن أن ينتصر فرد على هذا المجموع، وما ذكره إلا لمكانه في موقع القيادة.
الرسالة الحادية عشرة: في الكناية
من صور المجاز في اللغة العربية الكناية ومعناها لغةً: لفظ يطلق ويراد غيره، وفي لغتنا هناك ما يسمى بالكنية عندما أقول: أبو حفص وأبو القاسم؛ إنني اطلق اللفظ وأريد صاحبه فأبو القاسم هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وأبو حفص هو عمر بن الخطاب ومن بعده عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
أما الكناية اصطلاحًا: لفظ يطلقه المتكلم ويريد معنى ملازمًا له، العربي القديم يقول: هذا البيت لا توقد فيه نار؛ إن المعنى الذي يلزم إيقاد النار عند العربي هو طهو الطعام، والنفي هاهنا يجعل من التركيب كله كناية عن البخل أو كناية عن الفقر، وهذا يستدعي إلينا قول السيدة عائشة –رضي الله عنها– "إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدتْ في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار".
ويشد الانتباه قولنا كناية عن الفقر أو عن البخل، هذه الاإحتمالية تجعلنا نعود إلى السياق المحيط بالنص لنفهم أي الوجهيين يقصده المتكلم، هناك تعبير آخر على النقيض منه عندما قال العربي ليمدح الكرم والجود (هذا الشخص كثير الرماد) كناية عن الكرم والجود؛ إن الرماد هاهنا تعبير عن آثار الوقود الذي كان مشتعلًا وكثرته تلزم الطعام الكثير، الذي كان يتم طهوه ليقدم إلى المستحق، تعبير آخر (هذا الإنسان يسمع دبيب النمل) إننا في واقع الأمر بالكاد نرى هذه المخلوقات الصغيرة بأبصارنا المجردة؛ فكيف لمن يسمع صوتها؟! هنا يأتي مقصود العربي القديم ليقول: إنه شخص شديد الإنصات؛ كناية عن حدة السمع، وهذه الحدة وراءها معنيان أحدهما إيجابي والآخر سلبي؛ فالأول دلالة على الإنصات والتركيز واحترام المتكلم وما يقول، والثاني يأخذ إلى هذه النوعية من البشر التي تقحم نفسها في خصوصيات الآخرين وقد قال ربنا " ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا" هنا يدخل التفسير السياقي المرتبط بالبيئة الزمانية والمكانية ليحدد مقصود المتكلم.
***
بعد هذه الرحلة القصيرة مع علم البيان نجد أنفسنا في تعاملنا مع العالم بما فيه من بشر وأشياء، والنص اللغوي الذي يعبر عن هذا العالم أمام ثنائية أثيرة هي ثنائية (الحقيقة والخيال)؛ وللخيال أدوار عدة: هي تعبير وتفسير وتجسيد للموقف النفسي والذهني للشخصية التي ترى هذا العالم وتحول هذه الرؤية إلى لغة إما منطوقة وإما مكتوبة. ومن هذا التحويل يمكننا الوقوف على سؤال الآلية الذي لا غني عنه في قراءة ذاتنا الجمعية وذات الآخر المختلف عنا وتجمعنا به علاقات تواصل: كيف يفكر الشخص؟ وكيف يفكر المجتمع؟ إن طريقة الذات في التفكير التي تفرزها علاقتها بالعالم الممتد المحيط بها نطلق عليها هذه الكلمة الشائعة (الثقافة) التي تتخذ في تجليها مظاهر شتى ومتنوعة، وأحد مفاتيح الولوج إلى هذه الثقافة هو النص الأدبي بلا ريب الذي يعد مرآة عاكسة للنسق السلوكي للفرد والجماعة في إطار زماني ومكاني محدد.
الرسالة الثانية عشرة: في علم البديع
البديع لغةً هو: الإنشاء والإيجاد، عندما أوجد شيئًا على غير مثال سابق، ومن أخوات هذه الكلمة في المعنى: أبدع أي اخترع.
أما البديع اصطلاحًا فهو العلم الذي يعرف به الوجوه والمزايا التي تزيد الكلام حسنًا وطلاوة. ومن أشهر ما يتبادر إلى الذهن ونحن نتحدث عن البديع:
- الطباق: الذي يعني العلاقة الضدية التي تجمع بين لفظتين في الكلام (الليل والنهار)، (النجوم، والكواكب)، (السماء والأرض)، (الخير، والشر) هذه العلاقة الضدية تسهم في تحسين الكلام عندما تزيده وضوحًا كما قال الشاعر العربي وبضدها تتميز الأشياء، والحديث عن الطباق يأخذنا حديثا إلى فكرة الثنائيات أي الجمع بين طرفين نقضين، هذه الفكرة تشكل محورًا مهممًا من محاور ما نسميه الآن بالنقد الثقافي الذيي يعتمد في تحليله للنصوص على مسألة الثنائيات بدرجة كبيرة، ولا شك في أن مصطلح الطباق يمكن توظيفه بدرجة لا بأس بها في تحليل النصوص اللغوية، عندما نجد داخل النص السردي على سبيل المثال شخصيتين بينهما صراع وهذا الصراع سببه أن إحداهما تأتي على النقيض من الأخرى، ولننظر مثلًا إلى ثنائية سليم البدري وسليمان غانم في رائعة أسامة أنور عكاشة ليالي الحلمية ومن ثم يمثل مصطلح الطباق في علم البلاغة مدخلًا مهمًا في دراسة فكرة الصراع داخل النص السردي والنص المسرحي، وتقودنا فكرة الطباق إلى فكرة المقابلة عندما نجد أنفسنا بين نص جملة أو أكثر على النقيض من نص آخر، هنا نجد أن المقابلة تتركز على المعنى، ولعلنا ونحن نقرأ بعض المشاهد الحياتية المعيشة وبعض النصوص السردية، نجد فكرة الأحزاب والجماعات المختلفة تطرح نفسها على الوعي؛ فالفكرة تمثلها شخصية أو عدة شخصيات داخل النص، في المقابل يأتي حزب أو فريق آخر له شخصياته التي تمثله وتعبر عنه.
- الجناس: يعني المواءمة والانسجام، هذه المواءمة قد تكون كلية عندئذ نستخدم الجناس التام: وهو توافق الكلمتين في الحروف مع اختلافهما في المعنى مثل قولنا: صليت المغرب في بلاد المغرب، ومثل قوله تعالى: "ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة" إن هذا الاتفاق اللفظي/الظاهري والاحتلاف المعنوي قد نجده في الواقع المعيش وفي عالم الفن الحكائي أيضًا، إن الأخوين يولدان من أب واحد وأم واحدة ويتربيان تربية واحدة لكن كل واحد منهما قد يسلك في حياته طريقًا بعيدًا عن طريق الآخر تمامًا؛ ومن ثم نجد أن فكرة الاتفاق واحدة في جانب لكن الاختلاف على مستوى الطبيعة والدور الذي يمارسه كل واحد منهما واضح في الجانب الآخر، وإلى جانب الجناس التام هناك الجناس الناقص، وهو اتفاق الكلمتين في عدد من الحروف واختلافهما في البعض الآخر. ولا شك في أن هذه الصيغة لا نجدها فقط في النص الذي ننعته بالبلاغة؛ ولكن نجدها في سياقنا الحياتي كذلك، فما يسمى بالصداقه التي تقيم جسورًا للصلة بين للناس يتحقق فيها بشكل جلي هذا النوع؛ فالأصدقاء يتفقون في أشياء تبدو للعيون الرائية ويختلفون في أخرى، إننا لا نستطيع أن نجد صديقًا متماثلًا مئة بالمئة مع صديقه.
- الطي والنشر: أن يذكر متعدد ثم يذكر ما لكل واحد من أفراده من متعلقات مثل: "ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله " فمن الواضح في هذا النص أن المتكلم وهو في هذه الآية الذات الإلهية لم يحدد بأدوات لغوية كل لفظ وما يتعلق به اعتمادًا على أن ذهن السامع سوف يدرك ذلك دون التباس أو إيهام.
- الجمع: وهو أن يجمع المتكلم بين متعدد على مستوى اللفظ والمعنى تحت حكم واحد مثل قوله تعالى: "المال والبنون زينة الحياة الدنيا"؛ فالمال لفظ له معناه والبنون لفظ له معناه، لكن هذا التعبير يجمعه حكم واحد وهو أن الاثنين زينة الحياة الدنيا، ومثله أيضًا قوله تعالى: "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث"، ومثال الجمع أيضًا قوله تعالى: "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون".
- التفريق: على خلاف الجمع؛ هو أن يعمد المتكلم إلى شيئين من نوع واحد فيوقع بينهما تباينًا واختلافًا مع ذكر ما يفيد ذلك؛ مثل: " وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج "، ومثل: ما يستوي هذان الطالبان في قسم اللغة الإنجليزية هذا مترجم ماهر يملك أدواته، وهذا قليل العلم والمهارة.
- المشاكله: أن تذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في سياق المعنى المراد التعبير عنه، مثل قوله تعالى: " نسوا الله فنسيهم " فهناك نوع من الاتفاق الظاهري بحكم تكرار الفعل نفسه، لكن المعنى يختلف كلية؛ فنسيان العبد لربه يعني معصيته أو الكفر به، لكن نسيان الله يساوي عقابه وعذابه في الآخرة، وقوله تعالى: " وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون، الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون " هنا نسأل سؤالًا: هل استهزاء هؤلاء الكفرة المنافقين كاستهزاء الله؟ الإجابة لا، هنا يتضح مفهوم المشاكلة عندما نجد لكل كلمة حكمها ومعناها الخاص.
في نهاية القول يتضح أن علم البديع لا يركز فقط على الجانب السمعي في الكلام الذي يبدو من مصطلحات عديدة مثل الجناس والترصيع ومراعاة النظير مثلًا، لكن يكتسب حسنه من قدرته على توضيح المعنى الكامن في النص، وبذلك يمثل جزءًا مهمًا في منظومة علم الجمال العربي الذي يصل بالنص إلى درجة بالغة الارتفاع في التشكيل والبيان، هذه المنظومة التي تتشكل من حقول ثلاثة: المعاني، البيان، البديع.