لقاء العدد..
حوار مع الشاعر الكبير محمد التهامي:
·رحب طه حسين بنقدي له، وأوصاني بقراءة الأدب.
· وعملت في الجامعة العربية أكثر من أربعين عاماً.
· عرفت أن الشعر: المرُّ فيه أكثر من الحلو، وخاصة أنني لا توجد قضية عربية إلا ولي فيها شعر.
· لاتزال الشتائم على النبي صلى الله عليه وسلم يحفظها التلاميذ في أوروبا ويمتحنون فيها.
· أقرأ الشعر العامي، ولكني أؤمن بالشعر العربي الفصيح لأنه يوحد بين العرب.
· أحفادي يتحدثون الإنجليزية لأن والدتهم مصرية أمريكية، وهذا دفعني لبناء مدرسة في قريتي أسميتها: العروبة. وسأضع فيها كل ما أملك.
حيثما يحل المستشار والشاعر الكبير محمد التهامي في أي بلد عربي يجد ترحابا منقطع النظير، لم لا وهو صاحب الكلمات التي ساندت الثورات العربية جميعها ضد الاحتلال منذ منتصف القرن العشرين وحتى اليوم ..
رحل صاحب شعار “أنا مسلم” الذي انطلق صوته من المخيم ينادي ليوقظ العرب لنصرة الأقصى.. ناجى الإله، وكتب الأشواق العربية كما غنى للعاشقين ..
وفي حوار أجراه مع “محيط” منذ أربع سنوات، يمنحنا الشاعر قطرات من رحيق العمر بدءا بارتباطه بسيرة عنترة، وذكرياته مع إسبانيا التي عمل فيها ضمن وفد الجامعة العربية، وحنينه للمحاماة، وسخريته من الهوان أمام كيان مثل إسرائيل .. لينتهي المطاف بالإنسان الذي أمضى رحلة طويلة يؤكد أنه كان يرى دائما حكمة الله فيها ..
* محيط: ما أبرز الأحداث التي ساهمت بتكوينك؟
- منذ ولدت يتصارع عنصران في أعماقي؛ العنصر المادي الحياتي الذي يقوم على الفكر، والعنصر الثاني هو موهبة الشعر .
ومنذ طفولتي وأنا أجد جميع المحيطين به يشهدون بذكائي ونبوغي الدراسي، أما الوالد فكان دائم قراءة القرآن، وكان رجلا يمتاز بالقوة البدنية والثراء، وكان يستخدم قوته للخير .
وكان أبي مغرما بسيرة الفارس العربي عنترة بن شداد؛ حتى إننا كنا نشاهد في دولاب الوالد بالقرية سيرة من عشرين جزءا لعنترة بن شداد، وبعد أن كبر الوالد وضعف بصره أصبح يطلب من ابنه – وهو أنا – أن أقرأ له هذه الأجزاء وأعيدها عليه، فترسبت في نفسي معاني العروبة والشعر، وصارت في أعماقي فكرة أن الإنسان له رسالة في الحياة يضحي في سبيلها دون انتظار مردود، كما كان عنترة يضحي من أجل تحرير العبيد، وبالتالي استطاع والدي من خلال سيرة عنترة أن يصوغ نفسية ابنه طيلة حياته دون أن يدري.
كانت المسافة بين بيتنا وبين المدرسة الابتدائية بكفر مصيلحة بالمنوفية حوالي 3 كيلو مترات، وكنت قد أصبحت مغرما بالقراءة بنهم، أقرأ وأنا أسير أو أجلس وفي أي مكان، وجاء ترتيبي الثاني على القطر المصري.
وأذكر أنه في 1939م كان الدكتور طه حسين قد نقل من الجامعة للوزارة، فأقام مسابقة في الأدب العربي لطلبة الثانوية جائزتها مجانية الجامعة، ولم تكن مجانية مثل الآن، وكنت أحد العشرة الأوائل الذين يمتحنهم طه حسين، وحصلت على الدرجات النهائية، ولكني لا أنسى أن طه حسين سألني إذا كنت قرأت “الأيام”!؟ فقلت: نعم، ولكنها لم تعجبني، لأن كاتبها وضع الحديث على لسان طفل، وبالتالي سيترك في القارئ أشياء سلبية، منها كراهية هذا الطفل، أو طه حسين لشيخه، لأنه كان يناديه بعاهته “يا أعمى!”، ومع ذلك رحب طه حسين بالنقد، وأوصاني بدراسة الآداب، فقلت: إنني أريد دراسة الحقوق – وكانت كلية مرموقة، يخرج منها معظم الوزراء- فقال: ويل للقضاء من محامٍ مثلك! .
تخرجت من جامعة فاروق 1947م، وهي جامعة الإسكندرية الآن، وحاولت ممارسة المحاماة، كما كنت منضما للحزب الوطني، وكان يتمتع باحترام وشعبية كبيرة حينذاك، وجئت للقاهرة فنصحني البعض بالعمل في الصحافة بدلا من المحاماة، وبالفعل عملت بصحيفة “الأساس” التابعة للحزب السعدي، وكان أنيس منصور يعمل فيها، يترجم قصصا بالصفحة الأدبية، وأنا كنت أتولى القسم القضائي بالجريدة.
ثم تعرفت بالزعيم الكبير عبدالرحمن عزام، واقترح علي العمل بالأمانة العامة للجامعة العربية بالقاهرة، وبالرغم من أني كنت قد رتبت نفسي للعمل بالنيابة، إلا أنني وافقت على الاقتراح، وعملت بها أكثر من أربعين عاماً.
ومن أفضل الأشياء التي أسعد حينما أتذكرها أنني كنت رئيس مكتب الإعلام بالجامعة العربية في مدريد بأسبانيا، وقد تمكنت بصلتي بالأسبان هناك من تحويل المكتب لبعثة دبلوماسية يرأسها سفير، ولولا توقيع السادات لمعاهدة كامب ديفيد وانهيار الجامعة العربية حينها كنت قد واصلت العمل هناك.
محيط: هل ندمت على ترك المحاماة والتفرغ للشعر؟
- ندمت في أحيان كثيرة بالفعل؛ فأنا لا أعتبر الشعر مهنة ولا ميزة، وكنت أحن للمحاماة ولكن أشياء كثيرة تحدث جعلتني أتأكد أن قدر الله اختارني لهذا الاتجاه ، ولكني عرفت أيضا أن الشعر: المر فيه أكثر من الحلو، وخاصة أنني لا توجد قضية عربية إلا ولي فيها شعر؛
فقد كتبت في فترة الثورة الجزائرية:
”ألقاك يا بطل الجزائر..
ألقاك مرفوع الجبين مخضب الجنبين هادر
ألقاك تقتل أو تموت وأنت في الحالين ظافر
إني وراءك يا أخي فاضرب فديتك لا تحاسر .
وفي السودان كتبت:
”عانقته.. وارتحت في أحضانه وسألته عنه وعن سودانه
فأجابني عنه بريق عيونه ثم انهمار الدمع من أجفانه
من يا أخي يرضى فراق حبيبه ولا يهتز فيه شعوره.
وفي أول ثورة لليمن كتبت:
”أسمتعمو ما هزني.. أسمعتمو إني سمعت سلاسلا تتحطم
ورأيت شعبا ماردا في قمقم يصحو فيُحطم في يديه القمقم
الناس والأرض الطليقة تحتهم نشوى وفوقهم تغني الأنجم
هذا انتصار الشعب إن شعوبنا مهما استمر كفاحها لا تهزم".
وكنت مجنونا بالعروبة والوحدة العربية، ولذلك أسعد أيام حياتي هي أيام الوحدة بين مصر وسوريا، وكتبت فيها أشعارا كثيرا.
ففي الذكرى الأولى للوحدة قلت قصيدة منها:
”تعالوا نذكر النصرا .. ونسعد مرة أخرى
ونذكر حينما ثرنا .. وأطلعنا لنا فجرا
وحين صحت لنا الدنيا .. فصرنا الدولة الكبرى."
محيط: بحكم عملك في أسبانيا.. كيف وجدت نظرتهم للعرب؟
- لا أنكر أن بعض الأسبان يحبون العرب جدا، والعرب لا يفهمون الأسبان، وحتى أنا كشاعر لم أجد نفسي متحمسا أبدا لكتابة أي شعر في الآثار العربية بأسبانيا مثل أشبيلية أو قصر الحمراء، لأنني أحكم عقلي في الموضوع، فكل من كتبوا عن الآثار العربية بأسبانيا من شوقي، لعزيز أباظة، لنزار قباني.. يتباكون على المجد الإسلامي الضائع هناك.
أما أنا فأشاهد أننا نفقد القدس وفلسطين كلها فعلا الآن، فلماذا أحزن على ضياع الأندلس، ولا أنفعل بهول ما يحدث في فلسطين.!؟
وحين كنت أعمل بمكتب الجامعة العربية بمدريد كان السفير متحمسا للعروبة، وكان القنصل المصري هوالمستشار أحمد هيكل الذي أصبح وزيرا للثقافة فيما بعد، وقد فكرنا في إعداد مؤتمر لحوار المسلمين والمسيحيين في “بلاط الشهداء” بإسبانيا الذي قيل: إن عدد الشهداء فيه في المعركة المسماة باسمه، والتي هزم فيها المسلمون وصل عشرة آلاف في 732م.
وبالفعل تم اللقاء وحضره مندوب البابا من روما، والبدر فرانكون مسؤول بالكنيسة هناك، وقال حديثا طويلا لتنقية شوائب العلاقة. وبالنسبة لي فقد قدمت دراسة لتنقية مناهج التدريس بالمدارس الأوروبية مما يسيء للإسلام، فلاتزال الشتائم على النبي صلى الله عليه وسلم يحفظها التلاميذ هناك ويمتحنون فيها، ويتهمون النبي بأنه مثلا “زير نساء أو تاجر رقيق!” وحاشاه!!، وحدثت وعود كثيرة بأن تتغير هذه التشوهات من المناهج ولم يحدث إلى الآن !!
ولهذا علينا أن نتصل بالحكومات الغربية وخاصة ألمانيا وإيطاليا، ونفهمهم أنه لابد من تغيير ما يشوه الحقائق.
* محيط: وما رأيك في أداء الجامعة العربية حاليا؟
- الأمر مؤسف بالطبع، والمؤسف أكثر أننا نفاوض الآن في الولايات المتحدة الأمريكية اليمين الإسرائيلي المتشدد بزعامة نتنياهو .
وحينما قبلت أن أعمل بالجامعة العربية كان عبدالرحمن عزام يراهنني أننا في عشر سنوات سنعمل دولة عربية واحدة من المحيط للخليج، هذا الحديث كان في 1948م، ثم ضمن وفد الجامعة العربية صعدنا فوق هضبة الجولان السورية، وأحضروا لنا مكبرات ننظر منها، ورأينا بحيرة طبرية وحولها سهل الحولة، وحينما نظرنا رأيناها مليئة بالإسرائيليين على شواطئ مقامة ومازالت إلى الآن، فاستنكرت ذلك، فرد عزام: قل لأمريكا: تعطينا ما تعطيه لإسرائيل، وسوف نحولها لأجمل من ذلك!.
تمر السنوات، ويأتي عبدالخالق حسونة ليقول لي: أتمنى ألا تنفك الجامعة العربية! والحقيقة أن العالم كله يحاربنا طالما نحارب إسرائيل، فبريطانيا أعطت اليهود وعد بلفور فوجدت إسرائيل، وفرنسا أعطتهم القنابل الذرية، وأمريكا هي ما تعطيهم كل شيء الآن .
ولي قصيدة أقول فيها للفلسطينيين:
"خلق الجبن لليهودي أصلا فاضربوه فقد عرفتم خصاله
إنهم ما أتوا بشيء جديد إنهم في يد المسير آلة" .
محيط: عرفت بالقصيدة القومية.. ماذا عن الكتابات الذاتية؟
- بالفعل اشتهرت بذلك، حتى هجاني عدد من الشعراء، ولكن الحقيقة أن لي أشعارا ذاتية وخاصة، ولكني لم أكن أهتم بها كثيرا، وقد جمعتها في ديواني العاشر ”أغاني العاشقين”، ومنها قصيدة أقول فيها لحبيبتي:
"والتقينا، لا تسلني كيف؟ لكنا التقينا
هي نفسي, هي ذاتي ما افترقنا منذ كنا"
مدّت الدنيا متاهات وأوهاما علينا .. وطوانا ظلها الخداع، حينا فانطوينا
ثم طاف الحب نورا وانطلاقاً فاهتدينا .. وطوينا الدهر، والدنيا .. وعدنا فالتقينا .
محيط: يثير بعض المثقفين جدل انتماء المصريين للفراعنة أو للعرب.. ما رأيك؟
- هناك من يقسم سكان مصر لأقباط ومسلمين، وهذا خطأ كبير، لأن الحقيقة أن مصر بها “مصريون”، فمنذ خمسة عشر قرنا جاء الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه بجيشه المكون من 3000 آلاف جندي لفتح مصر، وكانت الديانة السائدة للمصريين الأرثوذكسية، ويضطهدهم المسيحية الكاثوليكية التي دان بها الرومان الذين هجموا على مصر وعاصمتهم بالإسكندرية، وقد طرد الكاثوليك الأرثوذكس حتى الصحراء، وعمرو بن العاص حينما دخل الإسكندرية هزم الرومان، ولكنه جلب الأرثوذكس من الصحراء مجددا لأنه يعرف أنهم مواطنين.
وبعد أن عاش المسلمون في مصر أسلم كثير من سكانها، ثم هاجر إلى مصر كثير من القبائل العربية، وهؤلاء يتصاهرون ويتناسلون في مصر، إلى أن نتج عنهم المصريون الذين يعيشون حاليا، فلا تستطيع أن تعرف هل جدك الكبير مسيحي أم مسلم إلا نادرا.
وحاليا تثار هذه الدعاوى بسبب ضغوط أمريكا التي تفعل المستحيل لتقسيم العرب ومطالبات أقباط المهجر. وأؤكد لهم أنهم يجهلون التاريخ، ففي معركة العبور الشهيرة كان قائد الجيش الثاني عزيز غالي وهو مسيحي، وتحت إمرته أكثر من 100 ألف مسلم .
محيط: هل تقرأ الشعر العامي؟
- نعم، ولكني أؤمن بالشعر العربي الفصيح لأنه يوحد بين العرب، ولكن هذا لا يعني أن يكون هناك عراك بين الشعر الفصيح والعامي .
وأول برنامج في الإذاعة “على الناصية” وكان الإذاعي إسماعيل عبدالمجيد في الإسكندرية قد جمعني وشاعر آخر، وعمل جائزة لوصف فتاة عابرة، وقال: ارتجلوا قصيدة، فكتبنا كلمات عامية منها: ” الموج يشوف طيفها يغني .. وتغيب يئن ويتألم" .
محيط: ماذا عن أبنائك واهتماماتهم؟
- حياتي في أوروبا جاءت في وقت كان ابني وبنتي في سن التاسعة والعاشرة، وكان تعليم أبناء الجالية المصرية غير جيد، وغالبا لا يتعلمون بشكل حقيقي، لأن الآباء يعلمون أنهم لن يستمروا هناك طويلا، ولكني ألحقت أولادي بمدارس لغات متطورة،
وحينما سافرت لاحظت أن الأولاد من كثرة تحدثهم الإنجليزية والإسبانية بدؤوا يفقدون لسانهم، فهداني تفكيري لأن أعلمهم القرآن الكريم، فكنت أنقطع بهم فوق جبل وأحفظهم سور الكهف ويس والمؤمنون وغيرها، وللأسف فإن ذلك حفظ ألسنتهم ولم يحفظ قلوبهم، أي أنهم نشؤوا غير مرتبطين بالثقافة العربية .
وحينما عدت بالأولاد أكملوا في الجامعة الأمريكية، وابني رئيس منطقة الشرق الأوسط لدى شركة “آي بي إم:((IBM” فرعها بدبي، وللأسف أحفادي منه يتحدثون الإنجليزية لأن والدتهم مصرية أمريكية، ولعل ذلك هو ما دفعني لبناء مدرسة في قريتي أسميتها “العروبة”، وسأضع بها كل ما امتلكته .
ـــــــــــــــ
المصدر: المحيط
http://www.aleqtisady.com/egypt/69540.html