كانَتْ النَّعامَةُ كَعادَتِها تَنْتَقِلُ منْ مَكانٍ إلَى آَخَرَ بَحْثاً عنْ الغِذاءِ معَ قَبيلَتِها الصَّغيرَةِ.
سارَتْ النَّعامَةُ ذاتَ مَرَّةٍ وَحْدَها، وقَدْ أَصابَها العَطَشُ، فَوجَدَتْ فيلاً جَميلاً، فسَأَلَتْهُ عنْ مَكانِ عَيْنٍ مائِيَّةٍ أوْ أَيِّ مَكانٍ يوجَدُ فيهِ ماءٌ.
قالَ لَها الفيلُ: وأَنا مِثْلُكِ أَبْحَثُ عن الماء، فقَدْ أَصابَنِيَ العَطَشُ الشَّديدُ، وقدْ أَخْبَرَني أَحَدُ الأَصْدِقاءِ أَنَّ هُناكَ عيْناً مائِيَةً قَريبَةً منْ هُنا.
اصْطَحَبَ الفيلُ النَّعامَةَ وسارا معًا حَتَّى مَرَّا بِعَيْنٍ مائِيَةٍ صافِيَةٍ جَميلَةٍ، لمْ تَسْتَطِعْ النَّعامَة أنْ تَشْرَبَ مِنْها، فَنَـزَلَ الفيلُ ومَلأ خُرْطومَهُ بِالماءِ وسَقاها.
وبَعْدَ أنْ سَقَى الفيلُ النَّعامَة، أُصيبَتْ النَّعامَةُ بالدُّوارِ من شِدَّةِ الحَرِّ، حَمَلَها الفيلُ علَى ظَهْرِه وعادَ بِها إلَى قِبيلَتِها، وأَصْبَحَتْ هُناكَ صَداقَةٌ قَوِيَّةٌ بَيْنَ الفيلِ والنَّعامَةِ.
مَرَّ الثَّعْلَبُ فرَأَى ما حَدَثَ فاغْتاظَ، وقالَ: كَيْفَ تَسيرُ النَّعامَةُ معَ الفيلِ؟ وكَيْفَ يَسْقيها الفيلُ من العيْنِ بِنَفْسِهِ؟ لا بدَّ أنْ أَقومَ بإِفْسادِ هَذهِ الصَّداقَةِ بَيْنَهُما.
ذَهَبَ الثَّعْلَبُ إلَى الفيلِ وقالَ لهُ: إنَّ النَّعامَة تَقولُ: إنَّ خُرْطومَكَ شَكْلُهُ قَبيحٌ، وإنَّكَ أَنانِيٌّ، وإنَّكَ قَدْ حَمَلْتَها علَي ظَهْرِكَ دونَ رَغْبَةٍ مِنْها لِتُظْهِرَ لِمَنْ في الغابَةِ أنَّكَ شَهْمٌ، وهِيَ لا تُحِبُّ السَيْرَ مَعَكَ، وَلَكِنَّكَ أَجْبَرْتَها علَى ذَلكَ.
غَضِبَ الفيلُ منْ هذَا الكَلامِ الذي قيلَ علَى لِسانِ الثَّعْلَبِ، ولمْ يكُنْ يعَلَمُ أنَّهُ افْتِراءٌ منه وكَذِبٌ.
قالَ الفيلُ: لا بُدَّ أنْ أُلَقِّنَ النَّعامَة دَرْساً لا تَنْساهُ لِلْأَبَدِ؛ لأَنَّها أَساءَتْ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْها، ولَمْ يَتَأَكَّدْ الفيلُ منْ صِدْقِ الكَلامِ الذي قالَهُ الثَّعْلَبُ لَهُ.
ذَهَبَ الفيلُ إلَى النَّعامَة، وطَلَبَ مِنْها مُصاحَبَتَهُ في زِيارَةِ أَحَدِ أَصْدِقائِهِ، فهُوَ يَحْتاجُ لِمَنْ يُؤنِسُهُ طَوالَ الطَّريقِ، لَبَّتِ النَّعامَةُ علَى الفَوْرِ نِداءَ صَديقِها الفيلَ.
وسارَتْ النَّعامَةُ مَعَ الفيلِ يَتَحَدَّثانِ ويَتَسامَرانِ، شَعَرَتِ النَّعامَةُ بِأَنَّ الفيلَ غاضِبٌ منْ شَيْءٍ ما، وحينَ سأَلَتْهُ قالَ لَها: لا شَيْءَ.
وبَعْدَ فَتْرَةٍ منَ السَّيْرِ ظَمِئَتِ النَّعامَة، وطَلَبَتْ منْ الفيلِ أنْ يَذْهَبا إلى أَقْرَبِ عَيْنٍ مائِيَةٍ لكَيْ تَشْرَبَ.
فَأَخَذَها الفيلُ إلَى نَفْسِ العَيْنِ التِّي شَرِبا منْها المَرَّةَ السَّابِقَةَ، فَشَرِبَ هُوَ وحْدَهُ، ثمَّ قامَ بتَعْكيرِ الماء، ولمْ يَمْلَأْ خُرْطومَهُ ويَسْقِها كَما فَعَلَ المَرَّةَ السابقة، وهُوَ يَعْلَمُ أنَّها لنْ تَسْتَطيعَ أنْ تَشْرَبَ بِنَفْسِها منْ هَذِه العَيْنِ فَهِي عَميقَةٌ جِدَّاً، ثمَّ ترَكَها الفيلُ وعادَ وَحْدَهُ.
تعجَّبَتِ النَّعامَة منْ ما حَدَثَ منَ الفيلِ، وبَكَتْ حُزْناً منْ مَوْقِفهِ العَجيبِ.
عادَتِ النَّعامَة إلَى قَبيلَتِها، وهِيَ في غايَةِ التَعَبِ، فَقَدْ عادَتْ وهيَ ظَمَآنةٌ حتَّى وَصَلَتْ إلَى قَبيلَتِها، فَشَرِبَتْ ثُمَّ ارْتاحَتْ، وقالَتْ: لمِاذَا فَعَلَ الفيلُ مَعي هَذا؟.
ثمَّ اشْتَكَتْ منْ ما حَدَثَ منَ الفيلِ إلَى صَديقَتِها البَقَرَةِ.
قالَتْ لَها البَقَرَةُ: لا تَقْلَقي يا عَزيزَتي النَّعامَة، لا بُدَّ أنَّ هُناكَ سَبباً لِذَلِكَ، فالأَمْرُ غَيْرُ طَبيعِيٍّ.
وظَلَّتْ البَقَرَةُ تَبحَثُ عنِ الأَسْبابِ؟ وسَأَلَتِ الأَصْدِقاءَ، حتَّي عَلِمَتْ منْ أَحَدِ أَقَارِبِ الفيلِ أنَّ الثَّعْلَبَ كانَ قدْ زارَ الفيلَ قَبْلَها بِيَوْمٍ واحِدٍ، وقَدْ سَمِعَ أَحَدُ الفِيَلَةِ الصِّغارُ ما دارَ بينهُ وبَيْنَ الفيلِ، وأَكَّدَ لَها أنَّ الثَّعْلَب قدْ قالَ كَلاماً علَى لِسَانِ النَّعامَة، لمْ تَقُلْهُ لكَيْ يُفْسِدَ العِلاقَةَ بَيْنَها وبينَ الفيلِ.
عَلِمَتِ النَّعامَة أنَّ الفيلَ لا ذَنْبَ لَهُ، ولَكِنَّ الثَّعْلَب كانَ هُوَ السَبَبَ.
وتاهَ ابْنُ الفيلِ ذاتَ يوْمٍ، فَظَلَّ الفيلُ يَبْحَثُ عَنْهُ هُوَ وقَبيلَتُهُ، ولَكِنْ لمْ يَسْتَدِلَّ أَحَدٌ إلَى مَكَانَهِ، ظَلَّ الفيلُ حَزيناً عَلَى فُقْدَانِ ابْنِهِ.
عَلِمَتْ النَّعامَة بما حَدَثَ لابنِ الفيلِ، فأَسْرَعَتْ بِالبَحْثِ عَنْهُ دونَ عِلْمِ الفيلِ، لأنَّ النَّعامَة أَخَفُّ وَزْناً، وأكْثَرُ سُرْعَةً منْ الفيلِ ،كَما أَنَّها طَلَبَتْ منْ أَصْدِقائِها منَ الطُّيورِ مُشارَكَتَها في البَحْثِ عنْ ابِن الفيلِ.
ولمْ يَمُرَّ وَقْتٌ طَويلُ حتَّى جاءَتْ به إلَى الفيلِ.
فَرِحَ الفيلُ بِعَودَتِهِ كثَيراً، وتَعَجَّبَ منْ مَوْقِفِها مَعَهُ خاصَّةً بَعْدَ مَوْقِفِهِ الأَخيرِ عند عين الماء.
قالَتْ النَّعامَة للْفيلِ: لقَدْ عَلِمَتُ سِرَّ غَضَبِك مِني، وأَنَّ السَّبَبَ هُو الثَّعْلَبُ الذي قالَ عَني كَلاماً لمْ أقُلْهُ، وإنَّ الثَّعْلَبَ كانَ يُريدُ الوَقيعَةَ بَيْنَهُما.
حزنَ الفيلُ ممَّا حَدثَ من الثَّعْلَبِ، وحَزِنَ أَيْضاً لِأَنَّه صَدَّقَهُ دونَ أَنْ يَتَأَكَّدَ منْ صِدْقِ كَلامِهِ.
وقالَ: لا بُدَّ أنْ أعَلِّمَهُ دَرْساً لا ينْساهُ أَبداً. واتَّفَقَ معَ النَّعامَة علَى حيلَةٍ لِتَأتي بِهِ إِلَيْهِ.
ذَهَبَتْ النَّعامَة إلَى الثَّعْلَب، وقالَتْ لَهُ: أَيُّها الثَّعْلَبُ، إنَّ الفيلَ مَرِضَ مَرَضاً شَديداً ولا يَسْتَطيعُ التَحَرُّكَ، وقالَ لي: أَحْضرِي الثَّعْلَبَ، فَهُوَ الصَديقُ المُخْلِصُ الوَحيدُ الذي أَثِقُ فيهِ، ويُريدُ أَنْ يهبَكَ هَدِيَّةً قَيِّمَةً. قالَ الثَّعْلَبُ: ألا يوجَدُ أَحَدٌ منْ إِخْوَتِهِ يَسْتَحِقُّ الهَدِيَّة بَدَلاً مِنِّي؟
قالَتْ النَّعامَة: إنَّهُ الحُبُّ والثِقَةُ، فَحُبُّهُ لكَ جَعَلَهُ يَخْتَارُكَ دونَ غَيْرِكَ بِهَذِه الهَدّيَةِ الثَّمينَةِ.
ذَهَبَت النَّعامَة بالثَّعْلَبِ إلَى الفيلِ.
قالَ الفيلُ لَهُ: لَقَدْ مَرِضْتُ مَرَضاً شَديداً، وقَدْ أَوْصَيْتُ بِأَنْ تَعيشَ بيْنَ قَبيلَتي مُعَزَّزاً مُكَرَّماً تَحْميكَ الفِيَلَةُ، فلَنْ يَتَجَرَّأَ أَحَدٌ عَلى إيذائِكَ، واذْهَبْ يا صِديقي الثَّعْلَبُ إلَى أعْلَى الهَضَبَةِ، فَسَتَجِدُ هناكَ صَيْداً ثَميناً قدْ تَرَكْتُهُ لكَ، وسوْفَ تفرَحُ بهِ كَثيراً، لأنَّهُ سَيَكْفيكَ أَنْتَ وأُسْرَتَكَ، قالَ الثَّعْلَبُ مُتَعَجِّباً: ولَكِنْ لِماذا تركْتَهُ بَعيداً هَكَذا؟!
قالَ الفيلُ: إنَّهُ صَيْدٌ ثمينٌ لَكَ، تعْلَمُ أننَّا نَحْنُ الفِيَلةُ منْ آكِلاتِ الأَعْشابِ، أمَّا اللُّحومُ فَلا نَأْكُلُها، ولَوْ جِئْتُ بِها هُنا لرَآها صديقي الأَسَدُ، وهُوَ جارٌ لَنا، ولَوْ طَلَبَ هَذا الصَّيْدَ فَلَنْ نَمْنَعَه عَنْهُ، فاذْهَبْ إِلَيْهِ، وسَتَجِدُ ابني الفيلَ الصَّغيرَ هُناكَ، وسيُساعِدُكَ في حَمْلِهِ إلَى مَسْكَنِكَ لِتَأْكُلَ أَنْتَ وَأَوْلادُكَ.
فَرِحَ الثَّعْلَبُ كَثيراً، وذَهَبَ إلَى أعْلَى الهَضَبَةِ فَوَجدَ الصَّيْدَ الثَمينَ، وَوَجَدَ الفيلَ ومَعَهُ صَديقٌ لَهُ.
قامَ الفيلُ الصَّغيرُ وصَديقُهُ بِضَرْبِ الثَّعْلَبِ ضَرْباً مُبْرِحاً، وقالا لَهُ: هَذا جَزاءُ سَعْيِكَ بالنَّميمَةِ بينَ الفيلِ والنَّعامَة.
عادَ الثَّعْلَب إلَى مَسْكَنِه يَزْحَفُ علَى الأَرْضِ منْ شِدَّةِ التَعَبِ، وظَلَّ أَيَّاماً في قَبيلَتِهِ دونَ حَرَكَة حتَّى الْتَأَمَ جُرْحُهُ.
وَمَرَّت الأيَّامُ، وشُفِيَ الثَّعْلَبُ، ولَكِنَّهُ قدْ تَعَلَّمَ دَرْساً قاسِياً، فَكانَ كُلَّما رَأى الفيلَ والنَّعامَة يَسيرانِ معاً يَنْظُرُ إِلَيْهِما ويَتَذَكَّرُ ما حَدَثَ مِنْهُ، وما حَدَثَ لَهُ.
أمَّا الصَّدَاقَةُ بينَ الفيلِ والنَّعامَةِ، فَقَدْ أَصْبَحَتْ عَميقَةً وقَوِيَّةً، ولَمْ يُؤَثِّرْ فيها شَيْءٌ بَعْدَ ذَلكَ.
وتَعَلَّم الفيلُ أنْ لا يُصَدِّقَ أَيَّ كَلامٍ يُقالُ لَهُ إِلَّا بَعْدَ أنْ يَتَأَكَّدَ مِنْهُ بِنَفْسِهِ.