قراءة في كتاب "أسماء خيل العرب وفرسانها" لابن الأعرابي
(إنسان، ولغة عربية، وناقة وحصان، وصحراء يساوي النواة للحضارة العربية بوجهها الثقافي والإبداعي المميز عبر التاريخ أمام غيرها من الثقافات الأخرى).
ما من شك في أن العربي منذ القدم قد عقد صداقة مع فعل اسمه الرحلة، القائمة على التنقل والترحال من مكان إلى آخر، ويأتي إطار المكان الكلي (شبه الجزيرة العربية) بمثابة عين شاهدة على ذلك النشاط، وقد اكتسبت هذه العين في الوقت نفسه هويتها من خلاله.
إن هذا المسافر العربي في حركته قد سطر في كتاب الحضارة رصيدًا معرفيا به يُعرف، ينبني هذا الرصيد -بدرجة كبيرة- على الكلمة التي طافت في الآفاق بما تحمله من قيم فكرية، وما تنطوي عليه من قيم جمالية منحتها فرصًا قوية للبقاء والتواصل مع أطر زمانية ومكانية متعاقبة.
هذه الكلمة يأتي في مقدمتها القرآن الكريم، ثم الحديث النبوي الشريف، ثم الأدب بوجهيه: الشعر والنثر، ثم تأتي حقول المعرفة الأخرى التي تم تسطيرها بلسان عربي أخذ مكانه في الرصيد العالمي للإنسانية.
وإذا نظرنا إلى عُدة هذا العربي الرحال فإننا نستطيع تلخيصها وتحديدها في هذه الرباعية:
- درعه وسيفه.
- حصانه وناقته.
- كلمته التي سكنت وعاء أدبيًّا اسمه القصيدة.
- هو؛ أي الرحال نفسه.
إننا إذًا بصدد حالة جمعية تعكسها هذه الأربعة، ومنها استطاع هذا الفاعل الراحل في الزمان وفي المكان وبين أفضية الكلمات أن ينجز شيئا يمكن وصفه بأنه تاريخ يتيح للآتين بعدُ مقدرة على قراءته؛ ومن ثم القدرة على الوقوف على مفردات هذا السياق الثقافي الذي منه خرج.
إن الحصان بالنسبة إلى العربي لم يكن فقط مجرد مطية أو أداة للحركة ووسيلة يتم الاعتماد عليها في الحروب؛ بل إنه يعد بمثابة صديق أو رفيق رأى فيه العربي ما يرتقي به فوق رتبته الحيوانية الطبيعية؛ فاختيار العربي لحصانه اسمًا يُعرف به، أو لو شئنا قلنا وصفًا يعكس نظرته إليه من جهة، ونظرته لواقعه المحيط من جهة ثانية يؤكد هذه الصداقة التي انعقدت بين هذا الراعي وحصانه في صحراء دفعته إلى أن يتحدى الموت والقساوة التي تنتشر بين ربوعها وفوق صخورها بسلوك مبدع عبقري يحدث توازنًا؛ إنه الحياة المتواصلة الطويلة في مواجهة بيداء (صحراء) قاتلة لم يعطها الفرصة لإفنائه كلية.
إن حديث الملك الضليل (امرؤ القيس) عن حصانه العبقري ذي القدرات الخارقة لم يكن مجرد كلمة جميلة أسكنها قصيدته، بل يأتي تعبيرًا عن واقع حضاري استطاع فيه الإنسان العربي أن يقيم صحبة مع مفردات العالم من حوله التي تمثل جيرانًا له، من جمادات وحيوانات وطيور ونجوم:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ معًا = كجلمود صخرٍ حطه السيل من علِ
وها نحن أولاء نجدنا برفقة مصنَّف عربي قديم نرحل معه ذهنيًا في داخل عالمه حيث تراثنا؛ إنه ابن الأعرابي المتوفى (231هـ) في كتابه "أسماء خيل العرب وفرسانها" الذي استهله بهذا المقول المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "ارتبطوا هذه الخيل؛ فإنها دعوة أبيكم إسماعيل، وكانت وحوشا فدعا ربه فسخرها له".. ثم يعرج بعد ذلك إلى هذا البيت من الشعر:
أبونا الذي لم تُرْكَبِ الخيلُ قبله = ولم يدر حيٌّ قبله كيف يُركَبُ
إن التدبر في لفظة (خيل) يدعو إلى السفر المعرفي في الجذر اللغوي الذي منه خرجت؛ إنها مادة: خَيَلَ؛ إنها وعاء حاضن لكلمتين يتشاركان معا في الحروف نفسها؛ إنهما (خَيَال)، و(خَيَّال)؛ إن المعنِي بالخيل ركوبًا واهتمامًا، يأتي جارًا في المعجم لهذه الكلمة التي هي ضد الواقع والحقيقة (خَيَال)، ومن هذه الثانية يأتي هذا العالم الفني الذي يأخذ موقعه في مقدمة كتاب الحضارة العربي؛ ألا وهو الشعر؛ لذا نجدنا مع ابن الأعرابي وغيره على سبيل المثال على موعد مع البيان جنبًا إلى جنب في هذه المعالجة التي تجعل من الخيل بطلاً تسلط عليه الضوء..
وقد كان له صلى الله عليه وسلم أفراس بأسماء: الظرب، ولزاز، والسكب، والمرتجز لحسن صهيله، وكان له عليه الصلاة والسلام اللحيف.. وكان لحمزة بن عبد المطلب فرس يقال له: الورد، قال فيه:
ليس عندي إلا سلاح وورد = قارحٌ من بنات ذي العقــــــــــــالِ
أتقي دونه الحروب بنفسي = وهو دوني يغشى صدور العوالي
وقيل: إن أول من ارتبط فرسًا في سبيل الله سعد بن أبي وقاص، وكان للزبير بن العوام فرس يقال له: اليعسوب، وفرس شهد عليه خيبر، يقال له: معروف، وفرس شهد عليه معركة الجمل يقال له: ذو الخمار..
وكان لأبي جهل: عمرو بن هشام فرس يقال له: مجاح، ولمسافع بن عبد العزى أحد بني عامر بن لؤي فرس يقال له: النعامة، قال فيه:
والله لا أنسى النعامة ليلة = ولا يومها حتى أوسد معصمي
إن معالجة أسماء الخيل وأنسابها بالنظر إلى أصحابها وقبائلهم عبر ابن الأعرابي تقدم لنا ما يمكن تسميته مفتاحًا ثقافيا يكشف عن واقع اجتماعي كان فيه لهذا الحيوان حضور في داخل هذا النظام الحيوي؛ بوصفه ليس فقط أداة للتنقل، ولكن بوصفه شاهدًا، أو لو شئنا قلنا: عينًا؛ نطل منها على هذه الظاهرة التي تحتل مكانًا لا يُنكر في دفتر يوميات العربي القديم.
إنها الحروب والصراعات التي لم تكد تفتر أو تتوقف حتى تعاود الاشتعال من جديد، وهذه الأخيرة تعد محطة ثقافية تأخذنا إلى هذا التنوع في نسيج الثوب العربي منذ جاهليته. وقد جاء الإسلام محاولا بجدية أن يجعله لونًا واحدًا، يتأسس على فضيلة الأخوة التي تنفي الاستعلاء، وتزيل العصبية وما تفرضه من عزلة وحواجز بين أبناء الجنس الإنساني، نقصد بذلك التعصب والانحياز غير الرشيد للقبيلة؛ لذا يمكن القول: إن حديث ابن الأعرابي عن الخيل يشكل منطلقا لقناعات فكرية عدة:
- الصداقة بين العربي والحصان؛ بحكم حياته القائمة على التنقل والسفر الدائمين.
- الحصان/الخيل/الخيال كلمات تأخذنا بشكل أو بآخر إلى هذا النظام الفني الذي يشغل موقعا في كتاب الحضارة العربي؛ ألا وهو الشعر المعتمد على هذا الخيال، الذي هو نقيض الحقيقة والواقع.
- حياة هذا العربي القلقة التي منحت للحرب والصراع والمواجهة المسلحة فرصة لإظهار قيم سلبية؛ مثل التعصب القبلي المبني على جاهلية لم تعط للحكمة وللتعقل مساحة في فكرها ولا في سلوكها إلا القليل. وفي صفحات الأدب العربي سطور كاشفة بجلاء عن هذه الحال السلبية، ولنا على سبيل المثال لا الحصر في معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي دليل على ذلك.
أ- حديث ابن الأعرابي عن الخيل مرتبطًا بقبائلها، يقف بنا عند قواسم مشتركة يلتقي عندها أبناء الجماعة العربية على ما بينهم من تنوع قبلي؛ فنظام الحياة في شبه جزيرة العرب يأتي تحت مظلة بيئة صحراوية تترك أثرها في الطبع وفي الفكر وفي السلوك؛ فالرحلة، والإصرار على الحياة في ظل ندرة الماء وقلة الطعام منطقة التقاء؛ ومن ثم فإن الحصان يعد بمثابة مشترك ثقافي قد وظفه العربي في: رحلته، وحربه، وقصيدته، ولنكمل مع ابن الأعرابي:
- من خيل بني أسد يذكر صاحب الكتاب: المنيحة، لدثار بن فقَعس الذي قال فيه:
قربا مربط المنيحة مني = شبت الحرب للصلاء سعارا
- ومن خيل بني ضبة الأحوى فرس قبيصة بن ضرار الضبي الذي قال فيه:
تقول بنو سليم إذا رأوني = على الأحوى تقرب في العنان
على مفاضة ومعي قناة = وعاملها وحسبك من سنـان
- ومن خيل غطفان بن أسد داحس والغبراء فرسا قيس بن زهير، وفيهما قيل:
بكفي ألقيت العصا واشتريتهم = بحي حلال يحبسون المحابسا
بحي بني سعد بن ذبيان إذ رأى = لدي بأنمار سرابا وداحســـا
وسراب هي الغبراء.
- ومن خيل بني قيس بن ثعلبة النعامة للحارث بن عباد، الذي قال منشدًا في حرب البسوس:
قربا مربط النعامة مني = لقحت حرب وائل عن حيال
- ومن خيل إياد بن نزار العرادة لأبي داود، وقال فيها:
قربا مربط العرادة إن الـ = حرب فيها بلابل وحـزومُ
- ومن خيل اليمن المعلى فرس ابن مالك الجعفي، وفيه يقول:
أريد دماء بني مازن = وراق المعلى بياض اللبــــن
إن اختيار العربي أسماء للحصان يؤكد حقيقةَ قدرة هذا العربي على الارتقاء بفكره من رتبة الفيزيقي المشاهد إلى ما وراءه؛ إنها هذه المنطقة المبنية على التخيل والإدراك المؤسس على درجة من الارتفاع فوق عالم طبيعي أصر العربي على أن يطوعه وفق متطلباته، في توظيف لمفردات اللغة، يجعلها بمثابة مرآة يمكننا أن نرى فيها، ونرسم ملامح ثقافة هذا العربي الرعوي من خلال أنجم بها نهتدي ونحن سائرون في صحراء شبه جزيرة العرب التي تعد الحاضنة الأم لهذا النظام الحضاري الكبير.
ومن بين هذه الأنجم التي ارتدت مع العربي ثيابا تنسجم وطاقته الخيالية العالية ترتقي بها فوق ما هو معروف عنها في سياق الواقع وفي عالم الطبيعة هذه الأسماء التي تتميز بكثرة وتنوع يأتي منطلقًا من حالات ذهنية وعاطفية هي بنت الموقف واللحظة التي مرت على هذا الرحال؛ فجاء من رحمها هذا الاسم الذي تطور في حضوره ليأخذ مكانًا له في سياق الجمال؛ إنه ديوان العربي؛ إنه الشعر.
ولاشك في أن هذا الحصان يعد عضوًا في قسم متطلبات أو لو شئنا قلنا: جزءًا من دائرة احتياجات هذه الجماعة في سبيل رغبتها وحرصها على العيش الذي ينشد الأمن المتكئ على قوة تحميه، وتضمن له استمرار البقاء؛ يعكس ذلك هذا الأثر المنسوب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل"؛ يُفهم منه أن النشاط العسكري أو الحرب الذي تمارسه الشخصية العربية أحيانًا قبل الإسلام وبعده يتطلب قدرات ومهارات، من بينها القدرة على ركوب هذا الحيوان وتطويعه في مواقف بعينها تحتاج إلى وجوده؛ ألا وهي مواقف المواجهة الخشنة التي تعتمد على استخدام السلاح.
إذًا فمن خلال مرافقتنا لابن الأعرابي في مصنفه "أسماء خيل العرب وفرسانها" نستطيع الوقوف عند ثلاثية يطرحها منهجه في المعالجة:
المفرد الإنساني الحقيقي : الفارس صاحب الحصان.
المفرد الإنساني المجازي: الحصان الذي يصير بمثابة صديق لصاحبه قد منحه اسما به يُعرف.
الجمع الإنساني: المعبر عن قبيلة هذا الفارس
- يراجع في كتاب ابن الأعرابي (أبو عبد الله محمد بن زياد)، أسماء خيل العرب وفرسانها الطبعة الثانية، 1430هـ، 2009م، دار البشائر، دمشق.
- والإصدار الإلكتروني: المجمع الثقافي العربي، الإمارات العربية المتحدة، الموسوعة الشعرية الإلكترونية، إصدار 2003م، القسم الخاص بالمكتبة، ابن الأعرابي: أسماء خيل العرب وفرسانها.
***
الحصان شكل منذ القدم جزءا من حياة العربي
يعتمد عليه في سفره في حربه في تنقلاته في بيئة صحراوية لا تعرف القرار أو الثبات
والحصان مع السيف ومع الناقة عناصر تشكل حياة العربي منذ القدم
وقد ظهر كل ذلك في إبداع ذلك العربي الممثل بدرجة كبيرة في شعره الذي يمثل مرآة عاكسة لشخصيته ولنظام حياته
***
الحصان شكل منذ القدم جزءا من حياة العربي
يعتمد عليه في سفره في حربه في تنقلاته في بيئة صحراوية لا تعرف القرار أو الثبات
والحصان مع السيف ومع الناقة عناصر تشكل حياة العربي منذ القدم
وقد ظهر كل ذلك في إبداع ذلك العربي الممثل بدرجة كبيرة في شعره الذي يمثل مرآة عاكسة لشخصيته ولنظام حياته