رواية شُهُب من وادي رَم بُشرى أبو شرار.. والعزف على إيقاع الوجع
كتب  أشرف محمد قاسم ▪ بتاريخ 16/09/2023 22:16 ▪ تعليقات (0) ▪ طباعة  أرسل لصديق  أرسل لصديق 

 

 

نظلم أدباء الأرض المحتلة كثيرًا حينما نؤطرهم بإطار "القضية" ومدى إخلاصهم في التعبير عن معاناة الشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت نير الاحتلال الصهيوني!

نعم.. أومن بأن الأديب هو لسان حال أمته، وصوتها، وترجمان همومها وأحلامها ومآسيها، ولكن هذا الأديب في ذات الوقت إنسان و"ذات" لها أشجانها الخاصة وهمومها الذاتية، التي ربما تلتقي في خيط واحد مع هموم وأشجان الآخر، ولعل هذا هو ما دفع شاعرًا بحجم محمود درويش لأن يصرخ صرخته الشهيرة "أنقذونا من هذا الحب القاسي".

إن "فلسطين" ليست حربًا فقط، ليست حياة العسكر هي كل فلسطين، فخلف الحدود والمعابر حياة أخرى، وذوات تتحرك، وتعيش، وتأكل، وتلبس، وتفرح وتحزن، وتحلم... هناك حياة وحالة إنسانية بجانب المآساة.

لعل هذا هو المفتاح الأول لقراءة رواية "شهب من وادي رم" للمبدعة الفلسطينية "بشرى أبو شرار"، والتي ترصد من خلالها حياة أسرة فلسطينية في جو "يختلط فيه الزمان بالمكان لتستدعي الكاتبة شخصيات قد تبدو من أسمائها قديمة، ومن تاريخها القدم، ولكن تدمجهم في مواقع وأحداث آنية...! ليختلط الماضي بالحاضر، وينصهرا في بوتقة واحدة".


في جو غرائبي يقترب كثيرًا من عوالم "ألف ليلة وليلة" تنسج الكاتبة أحداث روايتها بارتيابية الطامح إلى الكمال -وما هو ببالغه-، وبعبق ذكرياتٍ لا تبرح مخيلتها لطفولة معذبة بأرض تتنفس المعاناة، وتحيا في جحيم الألم، تسير على أشواك أحلامها غير عابئة بالدم النازف من قدميها، كل ما يهمها هو "الوصول".. الوصول إلى غاية تبدو مستحيلة، في رحلة صعبة للبحث عن معنى الحياة، وهدف للوجود، ومبرر للتحمل فهي مؤمنة بأن "الخوف لا يوصل تائهًا، ولا الحياء يدل على عنوان".

ومن هنا نستطيع أن نقرر مطمئنين أن الرواية التي بين أيدينا بفصولها الأربعة ما هي إلا استقراء للماضي، واستشراف لآفاق المستقبل عن طريق سبر أغوار الذات لإيصال رؤية إلى القارئ يستطيع من خلالها أن يمسك بتلابيب اللحظة، ويقبض على جمرة الفكرة التي تريد الكاتبة أن تصل بها إليه.

تقوم الرواية على شخصيات رئيسة هي: الشقيقات (فدرة، شقيلة، هجرو، مرمرة، ريحانة). والأب (سهيل). وزوجة الأب (هريدية). وعائد، الشقيق الغائب للبنات.

وبقراءة الرواية نستطيع أن ندرك أن تلك الأسماء ليست سوى رموز لأشياء أخرى؛ فالشقيقات هن رمز للاجئين، أبناء الوطن المغتصب، وهريدية زوجة الأب هي رمز للمحتل الغاصب، وسهيل الأب هو رمز للراعي المتخاذل ضعيف الإرادة، وعائد شقيق البنات هو رمز للمخلص المنتظر الذي لا يأتي.

وبعيدًا عن التنظيرات النقدية والرؤى المعقدة للنص نستطيع أن نلمس أننا بإزاء نص مفتوح ممتلئ بالإدهاش النابع من الصراع الداخلي الذي تمور به نفس الكاتبة، والصراع الدائر هناك حيث تدور أحداث الرواية، إذ تسعى الشخصيات كلها تقريبًا للبحث عن "هوية" وفق تصورات محددة، ورؤى متعددة، في محاولات مستميتة للهرب من جحيم السلطة، وديكتاتورية المحتل، لإثبات الذات.

في الفصل الأول من الرواية تروي الكاتبة قصة "فدرة" منذ التحاقها بالمدرسة ونعت المدرِّسة لها بـ(غبية) أمام زميلاتها، مما يولد لديها الشعور بالضآلة، ثم تصف مدى قسوة (هريدية) زوجة الأب "سهيل" المتخاذل أمام سلطة وجبروت زوجته فيبدو "كأسد فقد القدرة على الحركة، وترك امرأة تضع قدميها على جسده"، بأن يلحقها بمدرسة اللاجئين، والتي تجد بها "فدرة" عناية وحبًا أكثر من المدرسة الأولى، فتتفوق رغم غطرسة "هريدية" التي تسومها العذاب ليل نهار، وتحصل على الشهادة التي تؤهلها للالتحاق بالجامعة، فتشتعل النيران في قلب زوجة الأب، فتحاول إذلالها بتدبير مكيدة لها بجلب رجل يدعى "بنحاس" ليعتدي على "فدرة"، ولكنها تقاومه بكل ضراوة، وتقرر بعد ذلك أن تهرب لتنجو بنفسها، إلى أخيها، "عائد" في حوران، وتكتشف "هريدية" هروبها، فتدعي لسهيل أنها قد أضاعت شرفها وشرفه مع "بنحاس"، وسرقت مجوهراتها، فيذهب الأب ليعود بها من عند أخيها، ليثبت ادعاءات هريدية، فتعود فدرة إلى العذاب مرة أخرى، حيث ترفض هريدية التحاقها بالجامعة فتضطر للهرب مرة أخرى تاركة لأبيها رسالة، يقرؤها ثم يخبئها عن عيني هريدية، وهو يبكي بعد فوات الآوان.

       وفي الفصل الثاني تقص علينا الكاتبة قصة "شقيلة" شقيقة "فدرة"، حيث تتخذ حجرة فدرة سلوى لها في أتون الذكريات المشتعلة، لا تريد لأحد أن يشاركها فيها، وتعاد الكرة معها حيث تسلط "هريدية" وتخاذل الراعي، وجهادها من أجل إتمام تعليمها، وتذكر كلمات فدرة: (الحب هو كل ما نستطيع أن نحمله معنا حين الرحيل)، ومعلمتها (علمية) المتسلطة، وحكايات الغرام التي تسمعها من صديقتيها "لؤلؤة، وإلينا"، تلك الحكايات التي تتحول في نفس "شقيلة" إلى لحن حزين شجي فهي لا تستطيع أن تعيش أدوارهن، وصداقتها لجيرانهم الجدد "مريانا، زهوى، روزانا"، والحنان الذي تجده في بيتهن وتفتقده في بيتها، ثم تكتشف خيانة هريدية لأبيها مع "نايف" الأعرابي، وتراها "هريدية" وهي في أحضان عشيقها، فتنفرد بالأب المغيب، رغم حنانه السلبي، فتدعي له ادعاءات كاذبة عن "شقيلة"، فيمنعها من الذهاب إلى المدرسة، وتريد هريدية أن تقصيها عن طريقها نهائيًا كما فعلت بـ"فدرة"، ولكي لا تفشي سر خيانتها لأبيها فتأتي بابن عم لها ليطلب يدها للزواج بعد أن أفهمته أنها سيئة السمعة، وترفضه شقيلة، فتشي بها هريدية إلى أبيها بأنها ذهبت لزيارة "صخر" حبيبها وأسرته قبل أن يسافر لإتمام دراسته، وتقرأ خطابه الذي أرسله إليها، وتسلبها هريدية كل حليها وتترك صوانها خاليًا، فتهرب شقيلة هي الأخرى وتودعها "هجرو".

وفي الفصل الثالث تأتي قصة "هجرو" التي تعيش على ذكرياتها مع فدرة وشقيلة، وشعورها المرير بالغربة يوم العيد دون شقيلة رفيقتها في دروب حياتها، وتورد الكاتبة وصفًا تفصيليًا لمظاهر العيد من حياكة الملابس الجديدة لدى "أم زيد"، إلى أرجوحة مرجانة الحبشية، والتي كانت هجرو في الماضي تلهو مع ابنتها "ساجدة"، وفي المدرسة حيث قسوة معلمتها "فهيمة" عليها وضربها لها ومعايرة "هريدية" لها بأنها تفشل سنة بعد سنة، ولكنها تصر على مواصلة تعليمها، وتحاول هريدية إقناع سهيل بتزويجها من ابن عم لها وتنجح في ذلك فيزوجها سهيل من "عون" دون رضاها ليذيقها كل ألوان العذاب والذل. 

وفي الفصل الرابع نقرأ حكاية "مرمرة"، إنها العنيدة التي لا تبكي مهما حدث، تصلها رسالة من "هجرو"، تصف لها بؤس حالها مع "عون"، وتعبها النفسي والجسدي، وشوقها للعودة إلى دارهمن ولكنها تجهل الطريق، ثم تسرد الكاتبة قصة حب مرمرة لمضاض، ورفضها لضعفها أمامه، ورعايتها لشقيقتها الصغيرة "ريحانة"، وأمومتها المتفجرة تجاهها، وحلم مرمرة بالسفر إلى "باريس" ثم مرض "سهيل" الأب، وسهر مرمرة على رعايته، وطمع "هريدية " في الأرض والثروة، ولكنه يوصي مرمرة بأن تجمع شقيقاتهان ويعدن إلى الوطن.. إلى الأرض: "لاتفرطن في ذرة من ترابها، الأرض.. الأرض"!..

وهكذا نرى أن بكارة الطرح هي أهم مميزات نصوص بشرى أبو شرار، وإن كانت تلك البكارة نابعة من الضيق بالواقع المؤلم، وبهذا الزخم من التشوهات المجتمعية.

ومن هنا نرى أن "شهب من وادي رم" تحمل الكثير من الغموض والفتنة، والرموز المتشابكة لطلاسم الوجود، والمزج بين ما هو واقعي وما هو أسطوري، مما يعطي النص خصوصية وثراءً لا سيما التحليل النفسي لشخصياتها الذي يأتي بمثابة إشعاع وإضاءة للمتلقي، كل ذلك في ثوب من اللغة الإيحائية، والتصوير المتقن للحظات الأمل والألم فى حياة شخصياتها: "اقتربي مني.. سأعلمك كيف تغزلين بالخيط لنكمل أنا وأنت نسيجًا لم يتم، فقد يستريح قلبي وأنا أعلمك، ونغزل من مطارح لمسات أخواتي، فتدب في عروقي حياة لعبق أنفاسهن الساكن فيَّ، قد تصحو روحي المسحوقة بتكملة ما بدأنه، نرسم بالخيوط أشكالًا لمدينة.. مجدو.. عسقلان.. عجلون.. خربه تنور".

إنه التعلق بالأمل رغم الإحساس بالعجز، ورغم التشوهات النفسية التي تعانيها شخصياتها المأزومة، ولذا يجيئ النص تنويعًا على لحن جنائزي عام هو لحن الوطن الضائع، والحق المستلب، والحلم المقهور، أمام سطوة الآلة العسكرية، والنفوذ المادي، والتسلط الغاشم، والتحكم في مصائر البشر، بل وفي دقات قلوبهم، كأنهم دُمى تحركها خيوط المحتل حسب ما يهوى وكيفما يرى.

نحن إذن إزاء نص يتخذ من القهر مادته الخام لينسج منها خيوط أفكاره ورؤاه، بمداد من الألم، وعلى صفحات أتلفتها دموع الكاتبة حزنًاًعلى وطنها المغتصب. إن "شهب من وادي رم" نص لا يكتسب أهميته من مضمونه السياسي فحسب، بل من قيمته الفنية، ومن فضاءاته الإنسانية، هو نصٌّ يتجاور فيه الموت والحياة، والألم والأمل، والوهم والحقيقة.

نصٌّ يعزف على إيقاعات الوعود اليائسة المتشبثة بالحياة، والتي لم يزل لديها متسع من الوقت للتحقق! رغم تجهم السماء المنذرة بالبروق والرعود، ورغم صرامة وقسوة الحياة!.

 

 

تعليقات القراء
لاتوجد تعليقات على هذا المقال الى اﻷن

علق برجاء التدقيق اللغوي لما يكتب