العدد 136
كيف يشعر المرء وهو يعيش رحلة ماتعة، بمشاعر سيالة، تستجيب لخزائن الأشواق التي كانت مخبوءة في أعماقه عندما كان يتطلع بلهفة لتلك الرحلة، وربما يمضي سنوات من عمره وهو يحلم بها ويعد لها، حتى إذا ما حقق الله له حلمه، ووجد نفسه في أحضان الرحاب التي كان ينسج الأحلام ويزرع الأمنيات، غمرته السعادة، وراح يرتوي بعينيه وقلبه من كل ما يشعر في تلك الرحاب، فإن كان ما يحلم بالرحلة إليه منتجعاً يتألق جماله، أخذ يطيل التأمل فيه، وتملي أرجائه، وشحن ذاكرته بصور ستبقى طويلاً فيها، وإن كان ما يقصده شاطئاً تتلألأ رماله، وتنساب الأمواج فوقه مرة بعد مرة لا تمل من غمرها والانحسار عنها؛ فستراه يقضي أطول أوقاته عنده، أو بين موجاته الهادئة.
لا شك أن سعادة هذا الذي تحقق حلمه لا توصف، وهو يعيش دقائق وتفصيلات ما كان يريده، وأن الزمن سيمر كلمح البصر وهو في غمرة تلك السعادة، فإذا ما أزف الرحيل، وحان وقت الوداع، فسوف يتوقف الزمن عنده، ويصبح ثقيلاً بطيئاً، وتتمازج فيه مشاعر متضاربة السرور بكل ما استمتع به في رحلته، وما حققه من أمنيات، والأسف على انقضاء الزمن العسلي الذي انطوى، والأمل في أن تكون له كرة ثانية، يعيش فيها الهناء الذي عاشه أول مرة، والمزيد من مشاعر الحب والتعلق بهذه الأماكن التي حملت إليه السرور والسعادة.
هذه المشاعر والعواطف تتزاحم وتتداخل وتملأ نفس المرء وهو يودع أماكن أحبها، وتمنى أن يقضي أياماً فيها، وتحقق حلمه، فملأه سروراً، وزاده حباً لهذه الأماكن من منتجعات أو شواطئ، أو مرابع طفولة أو أياً مما يرتبط في نفسه بالبهجة والسعادة.
ولكن كيف إذا كانت هذه الأماكن مقدسة، يمتلئ الوجدان المؤمن بحبها، ويَعُجّ الصدر بالشوق لرؤيتها، وتستعلي المشاعر الإيمانية بمعايشتها، كيف إن كانت تصورات المرء وأشواقه تتطلع إلى عبادة تغسل الذنوب والقلوب في رحابها، فيرجع منها -كما قال الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم- كيوم ولدته أمه.
لا شك أن ما يشعر به المرء آنئذ يفيض بكثير وكثير عما يمكن أن يعبر به لسانه أو قلمه، فالديار المقدسة التي يتطلع المسلم الذي عمر الله قلبه بالإيمان إلى زيارتها وأداء النسك فيها حجاً وعمرة، مهوى قلوب الذين يعيشون بعيداً عنها، وزيارتها حلم يجتهد هؤلاء في تحقيقه ويبذلون في سبيله الغالي والأغلى، وربما يمضون السنوات يجمعون ما يحقق لهم أمنياتهم، ومن يتأمل وجه أي حاج وفد من الآفاق البعيدة، وهو في رحاب هذه الديار متبتلاً مستغرقاً في دعائه مطيلاً في سجوده، فسيقرأ في وجهه وفي عباداته أعمق وأسمى معاني الحب والشوق والإيمان. ولو جلسنا نستمع إلى هذا الحاج الآفاقي لوجدنا كلماته تتعثر في حمل ما نحسه من عواطفه، وما تحكيه عيناه وتقاسيم وجهه وحركات يديه.
ولكن عندما يكون هذا المؤمن المحب صاحب الحلم المتحقق أديباً، فلن يملك أن يمسك قريحته عن التفجر بتلك المشاعر، وتجسيد ما عاشه من لحظات سعادة في رحاب المشاعر المقدسة، وما تنامى في أعماقه من حب كبير لها وتعلق شديد بها.
وبين يدي قصيدة للشاعر علي محمود السيلاوي عاش تجربة الحلم وتحقق الحلم، حلم زيارة الديار المقدسة، وقد وفقه الله لها بعد زمن امتد، وأشواق طالت، يصور فيها ما كان يشعر به وهو في كل مرحلة من مراحل نسكه، يقول:
قد كان حلماً أن أرى أم القرى ويضمني بيت هناك جليل
وغدوت أسعى للوصال لعلني أشفي فؤاداً من جفاه عليل
كحلت أحداق العيون بكعبة أرسى قواعدها الرسول خليل
قد هام قلبي للجليل بعشقه ما كان غيرك من إليه يميل
إن ضاقت الأكباد من أحزانها عند الطواف ستختفي وتزول
فأطيل ركعاتي وسجداتي بها وأطوف أو أسعى هنا وأقول
يا قِبلة شغل الفؤاد بحبها وعطاء ربي للمحب جزيل
أعطاك ربي عزة ومكانة وعلى الدوام لمسلميك ظليل
ويمضي الشاعر في تأمله للمشاعر المقدسة، وقد ضمت وفود الحجيج الهائلة، والكل مستغرق في عبادته، يطوفون حول الكعبة تلهج ألسنتهم بالتكبير والتهليل والدعاء، يسألون الله أن يمحو ذنوبهم، فتهتز نفس الشاعر، ويحس أن حبه لهذه المشاعر قد نما وسما، وصار عشقاً راسخاً لا يزول، ويجد نفسه وقد انخرطت في التبتل في عرفات، وعيناه تهطلان بالدموع، ولسانه يلهج بالاستغفار، فيقول:
عرفات لست أنا الذي في حبه عشِق لأرضك مرة ويزول
فعلى ثراك سألت ربي محرماً والدمع فوق الوجنتين هطول
ربي أتيتك والذنوب كثيرة والذنب عند التائبين ثقيل
ربي أتيتك والقلوب عليلة والنفس تخشع والفؤاد ذليل
عرفات إن غفر الإله ذنوبنا فعلى صعيدك طهرنا سيؤول
ويستعرض الشاعر ما دار في نفسه وهو ينتقل إلى مِنى، فتحتل مكاناً في قلبه إلى جانب عرفات، وتسكن في جزء من ذاكرته لتبقى معه في تصوراته وذكراه، فيقول:
لا الوقت ينسيني منى وشعابها أو إن قلبي عن هواك يميل
لك يا منى في القلب ذكرى حلوة وتركت لبي في سماك يجول
وخيامك البيضاء أنقى صبغة قد ضمها فجر مساه أصيل
من كان يرجو أن تزول ذنوبه يسعى وترشده إليك سبيل
ويسترسل الشاعر في وصف المشاعر المقدسة التي سعد بزيارتها، وامتلأت نفسه حبوراً بركعات خاشعات في رحابها، ويسأل الله أن يتقبلها منه، وأن يكرمه بمغفرته ورضوانه.
وبعد؛ فلا شك أن هذه الوقفة الإيمانية عند المشاعر المقدسة هي من أجمل وأصدق ما تمتلئ به نفس المؤمن، وما يشعره بسعادة لا توصف وخاصة إذا كان ممتلئاً يقيناً بأن الله سبحانه وتعالى سيتقبل منه، ويهبه ما وعد به ضيوف بيته الحرام من كريم العطاء، وواسع العفو والغفران.
وهذه الوقفة وأمثالها جزء من كنوز الأدب الإسلامي التي نحس قيمتها العالية كلما حركت مشاعر قدسية فينا..، وهذا ما يستطلع إليه الأدب الإسلامي وأدباؤه في عطائهم.