وخير جليس في الزمان كتاب
كتب  التحرير ▪ بتاريخ 31/05/2023 04:55 ▪ تعليقات (0) ▪ طباعة  أرسل لصديق  أرسل لصديق 

العدد 136

 

     قال ابن قُتَيْبة رحمه الله: "قد كنَّا زمانًا نعتذر من الجهل، فقد صِرْنا الآن نحتاج إلى الاعتذار من العلم! وكنَّا نؤمِّل شكر النَّاس بالتَّنبيه والدِّلالة، فصِرْنا نرضَى بالسَّلامة.. وفي الله خَلَفٌ، وهوالمستعان".


      وخير جليس في الأنام كتاب من علامات الخير، وأدلة النبل، وحسن الطالع محبة كتب العلم والمعرفة، وعلى الخصوص الكتاب المبارك كتاب الله عز وجل، ففيه سر سعادة الإنسان، وحياته، ونوره، وهداه، ثم الكتب النافعة التي تجلو الران عن القلب، وتزيل الغشاوة عن الضمير، وتفتح الآفاق، وتكسر الأغلال، وتنسف أركان الجهل.


قال القاضي الجرجاني:

ما تطعمت لذة العيش حتى         صرت للبيت والكتاب جليسا

ليس شيء عندي أعز من الـ    ـعلـــم فما أبتغي سواه أنيسا

إنما الذل في مخالطة النــــــا        س فدعهم وعش عزيزاً رئيسا


       إن الجلسة مع الكتاب هي اللذة في منتهاها، والعزة في أجمل صورها، إنها صيانة العرض مع الكتاب من خدوش المخالطة، وقد نصحتك لو كنت تقبل النصح. فأكثر من لزوم البيت، ومحادثة الكتب، ومطالعة الصحف، والتأمل في بطون الأسفار، وتذكر وصيته صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر : (كف عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك).(1)

 
تخريج الحديث وشرحه:


     حدثنا ‏صالح بن عبد الله، ‏ ‏حدثنا ‏‏ابن المبارك، ‏ح، ‏ ‏وحدثنا ‏ ‏سويد، ‏ ‏أخبرنا ‏ ‏ابن المبارك، ‏عن ‏ ‏يحيى بن أيوب، ‏عن ‏عبيد الله بن زحر، ‏‏عن ‏علي بن يزيد، ‏عن ‏القاسم، ‏ ‏عن ‏‏أبي أمامة، ‏عن ‏‏عقبة بن عامر، ‏‏قال: ‏  قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: "‏أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك."

 ‏ قال ‏‏أبو عيسى: ‏هذا ‏‏حديث حسن. ‏تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي.

قوله: (عن عقبة بن عامر): ‏الجهني صحابي مشهور، اختلف في كنيته على سبعة أقوال أشهرها أبو حماد. ولي إمرة مصر لمعاوية ثلاث سنين، وكان فقيها فاضلا. ‏

قوله: (ما النجاة)؟ ‏أي ما سببها؟.

 ‏(قال: املك عليك لسانك):  ‏أمر من الملك. قال في القاموس: ملكه يملكه ملكا، مثلثة؛ احتواه قادرا على الاستبداد به، وأملكه الشيء وملكه إياه تمليكا بمعنى. انتهى.

قال الطيبي: أي احفظه عما لا خير فيه. وقال صاحب النهاية: أي لا تجره إلا بما يكون لك لا عليك. وقال القاري في المرقاة: وقع في النسخ المصححة يعني من المشكاة: أملك بصيغة المزيدة مضبوطة. انتهى.

قلت: الظاهر من حيث المعنى هو املك من الثلاثي المجرد, وأما أملك من باب الأفعال فلا يستقيم معناه هنا إلا بتكلف.

‏(وليسعك) ‏بكسر اللام، أمر من وسع يسع. قال الطيبي: الأمر في الظاهر وارد على البيت، وفي الحقيقة على المخاطب، أي تعرض لما هو سبب للزوم البيت من الاشتغال بالله، والمؤانسة بطاعته، والخلوة عن الأغيار.

 ‏(وابك على خطيئتك): ‏قال الطيبي: من بكى، بمعنى الندامة. وعداه بعلى، أي اندم على خطيئتك باكيا.

 ‏قوله: (هذا حديث حسن): ‏قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه أبو داود والترمذي، وابن أبي الدنيا في العزلة وفي الصمت، والبيهقي في كتاب الزهد، وغيره، كلهم من طريق عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة عنه. وقال الترمذي: حديث حسن غريب. انتهى.

قال العلامة الفقيه اللغوي الشاعر أحمد بن فارس صاحب الكتب الذائعة الماتعة في النحو واللغة:

وقالوا: كيف حالك؟ قلت: خير      تقضى حاجة وتفوت حاج

إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا:      عسى يوماً يكون لها انفراج

 نديمي هرتي وأنيس نفسي          قراطيسي ومعشوقي السراج

 إن محادثة الكتب الساعات الطويلة تزرع دمعاً كبيراً متألقاً، تتفجر منه أنهار الحكمة، ويتشقق فيخرج منه ماء البيان، وتهبط منه كنوز الألمعية، وقبسات العبقرية. فالكتب بوابة الديانة، ودروازة التثقيف الأصيل، للعقل السوي الواعي.

أعز مكان في الدنا سرج سابح             وخير جليس في الأنام كتاب

 الكتاب حيث لا غيبة ولا رياء، ولا حسد ولا كبر..

الكتاب حيث لا ملل ولا ضجر، ولا سآمة ولا تبرم..

 الكتاب حيث الحكمة الساطعة، والموعظة البارعة، والخطاب الفصيح، والنهج السديد، والطرفة العذبة، والخبر المستطرف، والتجربة الحية.

كان العلماء يضنون ببيع الكتب، ولا يرخصون ثمنها، فهي عندهم أغلى من القصور والدور، والذهب والفضة، والسلاح والمزارع.

هذا أبو الحسن الفالي يعضه الفقر فيضطر لبيع كتاب الجمهرة لابن دريد بخط أبي الحسن الفالي الجميل فيشتريه منه الشريف المرتضى بستين ديناراً، ويجد في آخر النسخة أبياتاً لبائعها أبي الحسن يقول فيها:

 أنست بها عشرين حولاً وبعتها            لقد طال وجدي بعدها وحنيني

 ما كان ظني أنني سأبيعها                ولو خلدتني في السجون ديوني

ولكن لضعف وافتقار وصبية               صغار عليهم تستهل شؤوني

 فقلت ولم أملك سوابق عبرتي             مقالة مكوي الفؤاد حزين

 وقد تخرج الحاجات يا أم مالك            كرائم من رب بهن ضنين

فلما قرأ الأبيات أرجع النسخة إليه وترك الدنانير.

 إن من همة الطالب حرصه على كتابه، وصرفه لماله في العلم؛ لأن المال خادم والعلم مخدوم.

 وأبو الحسن الفالي صاحب الأبيات المتقدمة محدث أديب شاعر، توفي سنة (448هـ)، وله أشعار جميلة لها صلة بالهمة العالية، والعلم وأهله، منها:

لما تبدلت المجالس أوجهاً               

                                         غير الذين عهدت من علمائها

ورأيتها محفوفة بسوى الألى               

                                         كانوا ولاة صدورها وفنائها

أنشدت بيتاً سائراً متقدماً                  

                                         والعين قد شرقت بجاري مائها

أما الخيام فإنها كخيامهم                  

                                         وأرى نساء الحي غير نسائها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

-       ملتقى أهل الحديث.

http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=224689

 

 

تعليقات القراء
لاتوجد تعليقات على هذا المقال الى اﻷن

علق برجاء التدقيق اللغوي لما يكتب