العدد 136
د.محمود محمد عبد المقصود -مصر
(مؤتمر شاعر الإسلام محمد إقبال، في رحاب إيوان إقبال بمدينة لاهور، في الباكستان، بالتعاون بين المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية في باكستان، والجامعة الأشرفية، وحكومة البنجاب المحلية، في المدة من 29-30 تشرين الأول (أكتوبر) 2016م).
مقدمة
يموج العالم كله بالتيارات الفكرية المختلفة ما بين حق وباطل، وغث وسمين؛ ويجب على كل إنسان ألا ينساق وراء أي فكرة أو تيار إلا بعد فحص وتمييز، للتأكد من موافقتها للشرع والدين. ويتعرض هذا البحث للنظرة الإسلامية لبعض التيارات الفكرية من خلال رؤية الأديب الثائر محمد إقبال.
إن ترجمة الشعر من لغة لأخرى من الصعوبة بمكان، "فكما أنه من الصعب على المترجم أن يأتي بكلمة تترادف ترادفا كاملا مع الكلمة الأصلية سيتعذر عليه إيجاد الإيقاع الذي يعادل تماما الإيقاع الأصلي، فلكل لغة إيقاعاتها، ولكل إيقاع أصوله وتنويعاته"(1). ولكن ترجمة الشعر رغم صعوبتها فإنها مطلوبة لنقل التراث الحضاري بين شعوب العالم، فلولا الترجمة لما تعرفنا على كثير من التراث الأدبي، ولما تعرفنا على كثير من الشعراء المشهورين لدى الأمم.
فالدراسة الفنية للشعر المترجم قد لا تؤتي ثمرتها المرجوة تماما، حيث إن مترجمها مؤلف ثان، وبالتالي لا تكون الدراسة معبرة عن مؤلفها الأول تعبيرا ًوافياً، فالمترجم مهما بلغ من بلاغة العبارة، وسحر الكلمة فلن يبلغ ما أراده الشاعر لأنه لم يعش التجربة الشعورية لمؤلف النص، كما أن سياقات الكلمة وإيحاءاتها تختلف من لغة لأخرى، وبالتالي فإن الدراسة الموضوعية ـ من وجهة نظري ـ أهم وأجدى، كما أن هناك بعض النظرات التي ترى أن "إعادة الكتابة تنتج لخدمة تيارات أيديولوجية أو فنية أو ضمن قيود تفرضها هذه التيارات"(2)، ومن هذا المنطلق رأيت البحث في المضمون الفكري لأعمال إقبال.
التيارات الفكرية:
التيارات الفكرية متعددة ومتشعبة منها ما هو غربي كالعلمانية والرأسمالية والشيوعية، ومنها ما هو إسلامي كالتصوف، والتيار السلفي، وهناك العديد من التقسيمات للتيارات والمذاهب الفكرية بكل أشكالها، وليس هنا معرض الحديث عن هذه التقسيمات، ولكنني اخترت من التيارات الفكرية الظاهرة في أدب إقبال ثلاثة تيارات فكرية هي "العلمانية، والتصوف، والرأسمالية والشيوعية"، وقد اخترت هذه التيارات لارتباطها بعصره وبيئته التي عاشها، وتعبيره عنها في كثير من أعماله الأدبية.
أولاً- العلمانية:
هناك تعريفات كثيرة للعلمانية اختلف فيها كثير من الكتاب والمفكرين، ولكن المسلم به أن العلمانية نشأت في أوربا "بعيدا عن الدين بسبب سيطرة الكنيسة وعقائدها اللاعقلانية، وفساد رجالاتها وسيطرتها على الحكم، وإثارتها للنعرات الطائفية الدينية التي أغرقت أوربا في بحار من الدماء"(3)، وبالتالي فإن تعريف العلمانية عند الغرب أوضح منها عند العرب، لكن المتفق عليه أنها تسعى للاعتماد على التجريب والعلم الحديث بعيدا عن مبادئ الإيمان بالغيب، ولهذا فالعلمانية تعرف على أنها "إقامة الحياة على غير الدين سواء أكان ذلك بالنسبة للأمة أم الفرد"(4).
ونحن هنا لسنا بصدد الحديث عن تعريف العلمانية بقدر ما نهدف إلى بيان أنها "وافد غريب على مجتمعنا، وكان من عوامل تسربها إلى ديار المسلمين عوامل داخلية منها: انحراف الأمة عن منهج الدين القويم مثل الفكر الإرجائي، وضعف عقيدة الولاء والبراء، وانحراف مفهوم العبادة، والتعصب المذهبي وإغلاق باب الاجتهاد. وعوامل خارجية منها: الغزو الفكري من استعمار مباشر، واستشراق، وتنصير"(5).
ولأن العلمانية هدفت إلى فصل الدين عن الدولة، وإبعاد الإسلام عن حياة الناس، ونشر الإلحاد ومحاربة الفضيلة والحجاب بدعوى الحرية، فكان لابد أن ينبري المخلصون من أبناء الأمة إلى مهاجمة هذا الوافد الغريب الذي أثر سلبا في عقول أبناء الأمة وناشئتها، وكان من بين المدافعين عن الإسلام ضد العلمانية شاعرنا وأديبنا "محمد إقبال"، يقول في ديوانه "ضرب الكليم" في القسم الخامس:
ما الحق مخف عن فؤادي سره |
فلقد حباني الله قلبـــــــا مبصـرا |
فسيـــــاسة اللادين عندي خسة |
مات الضمير بها وإبليس افترى |
لما قلى حكم الفـــــــرنج كنيسة |
ساسوا كشيطان بلا قيد جــــرى |
شرهت لأموال العبــــاد كنيسة |
فإذا الخميس سفيرها بين الورى(6) |
وهنا يعرض إقبال لنشأة العلمانية، وأنها ما ظهرت إلا في الغرب بسبب تعنت الكنيسة وسيطرتها على الدولة والمجتمع، وتحكم رجال الدين في كل صغيرة وكبيرة، وشراهتهم في الحصول على المال وفسادهم؛ مما أدى إلى الصراع بين من رأوا إبعاد الكنيسة عن شؤون الدولة والكنيسة؛ فظهرت العلمانية التي كانت تدعو إلى التخلص من الدين لتنهض بلادهم.
ونجد هنا أن محمد إقبال يربط بين اللادين والعلمانية، حيث رفض العلمانيون أي إيمان بالغيبيات مما يقوي الننزعة المادية عند العلمانيين ويؤدي إلى الخواء الروحي.
وهذا عكس ما يحكم به الإسلام حيث فيه من الشرائع والقواعد والقوانين ما تضمن للمجتمع الأمن والطمأنينة، فالإيمان بالغيب وازع للإنسان، وحام له من ارتكاب الجرائم، سواء كانت تخص الفرد أم المجتمع.
وفيما يتصل بأمر الروح والجسد يؤكد محمد إقبال إهمال العلمانية الروح، وتحقيقها مطالب الجسد؛ مما يؤدي إلى شقاء المجتمعات يقول:
وبين الروح والجسد الفراق |
بغرب أين في الحكم الوفاق |
رجال الدين سبحتهم تدور |
بأمر الحكم ليس لهم شعور |
ففي التمويه منقطع الشبيه |
هو الجسد الذي لا روح فيه(7) |
وفيما سبق من أبيات يبين إقبال طغيان الجانب المادي، ومطالب الجسد حتى على رجال الدين أنفسهم، فانهمكوا في الحصول على متع الحياة من مال وجاه وسلطة، فضلا عن غيرهم من العوام، مبينا الخواء الروحي الذي تتعرض له تلك الشعوب التي ارتضت البعد عن الدين، وتركته لتلبي مطالب الجسد، مما يفقد الإنسان التوازن الذي خلقه الله في الإنسان.
إن سعادة الإنسان لا تكون إلا بالتوافق بين مطالب الروح والجسد، وهذا ما لم يفهمه أولئك العلمانيون الذين تخلوا عن جانب الروح، وتسابقوا لخدمة أجسادهم، وإتراف أنفسهم بالمتع والشهوات.
وهذا ما يؤكده إقبال في أبيات أخرى من نفس الديوان تبين هدف هؤلاء العلمانيين من سعيهم وراء إبعاد الدين عن حياتهم من التسابق وراء متع الدنيا وشهواتها، أو استخدام الدين أداةً للحصول على الدنيا وملذاتها، فيقول:
من السراق شرذمة تغير |
وراء الخبز طال بها المسير |
صحا جسم وللروح السبات |
مع الدين الفنون محقرات |
لدى الكفار زاد الكفر عقل |
وللإنسان عند الغرب قتل(8) |
وهنا يعرض إقبال لقضية مهمة؛ هي زعم ارتباط العلمانية بالعقل، وادعاء الغرب الاعتماد على العقل فقط، وعدم قبولهم إلا ما يعتمد على التجريب والإثبات، في حين يغفلون قيمة الإنسان وقدره، ويتعاملون بازدواجية مع البشر ظانين أنفسهم أفضل من غيرهم.
إن عقل الإنسان مهما بلغ من الذكاء والتفكير؛ فإنه عاجز عن إدراك كثير من الأشياء المحيطة به. إنه لا يعرف كنه روحه؛ فكيف يتشدق بمعرفة كل شيء، ويقدس العقل دون الروح!؟
إن الإنسان يتأثر عقله بنوازع الشهوات والعواطف، خاصة إذا لم يجد له رادعا يردعه، ويرده إلى الحق والعدل، كما أن العقل يعجز في كثير من الأحيان عن تفسير بعض الظواهر، لأنه قاصر ينسى ويسهو ويخطئ، وفي هذا يقول إقبال:
أبلغي يا ريــــــــح عني |
عالم الإفرنج جهرا |
إنما العقـــــل أسيــــــــر |
زاده التحليق أسرا(9) |
إن نظرة بسيطة إلى الغرب تنبئ عن مجتمع خاوي القلب، وإن كان قائده العقل مما أدى إلى أمراض الحضارة الحديثة التي أدت به إلى المادية، واللهث وراء الغرائز واللذائذ، وبعد أن يحصلها يقف مدهوشا لا يدري ماذا يحصل بعد ذلك، فيداخله السأم والملل والكآبة. إنه لا يدري لم خُلِقَ!؟ وإلى أين يذهب!؟ وما كنه الحياة!؟ فيضل هذا الإنسان طريقه ويتعرض لأمراض نفسية بسبب بعده عن غذاء الروح.
ولذلك نجد محمد إقبال يحذر من اتباع الغرب الذي خرب فؤاده رغم وفور عقله، فيتقدم العقل وتتأخر الروح فيعيش في كدر:
انظر خراب فؤاد القلب يأكله |
وعقله في كمـال وافر بطر |
يقوده العقل في نهــــر يفجره |
وخلفه قلبه يمشي على كدر(10) |
وإذا كان العقل هو القائد فإن غذاءه العلم، والإسلام هو أول من اعتنى بالعلم وأعطاه قدره. فالمسلمون هم أول من صنعوا الحضارة، وتفننوا في مجالات العلم المختلفة حتى وصلوا إلى الغاية فيها، لكنه العلم الذي ينفع البشرية ويقودها إلى الخير مع اقترانه بالإيمان، فكان العلم يتناغم مع الروح، ويتلاءم مع الإيمان بالله مصداقا لقوله ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ))(11)، بينما العلم في الغرب لا يغذي الإيمان، ولا يتناغم مع صفاء الروح ورقيها، بل أوغل في المادية والبعد عن طريق الله، وهنا الانتقاد حيث يرى محمد إقبال أن العلم سرور للنفس، لكنه خاو مما يرقى بروح الإنسان:
أنا لا أنكر أن العـــــــلم للنفـــس حبور |
هو فردوس ولكن فارغ ما فيه حور(12) |
إن العلمانية خنقت روح العلمانيين في سعيهم للسعادة الزائفة سعادة المادة دون الروح، واللهث وراء الماديات ظنا منهم أن هذه هي الحرية، لكن الواقع أن هذه الحرية ما هي إلا عبودية واسترقاق للنفس، هؤلاء حقيقة عبيد شهواتهم وأهوائهم ورغباتهم، قيدتهم وأخضعتهم فيظلون عبيدا لها تائهين في هذه الدنيا حتى يفيقوا على سكرة الموت، ولعل هذا ما عناه القرآن حيث يقول الله تعالى: ((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ))(13)، وكذلك قوله تعالى: ((أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا))(14). تظن الواحد فيهم يعقل أو يسمع، وأن عنده علما غزيرا في مناح مختلفة، لكنه لا يقوده للإيمان، فقد يعبد بقرة أو شجرة أو ما شابه، كيف يستقيم علمه مع ما يفعل!؟ ولكن الهداية لا يملكها أحد. وفي هذا المعنى يقول إقبال:
سمحت حضارتنا الحديثة هذه |
للناس يتجهون حيث أرادوا |
مكرت بعالمهم فظــاهر أمرها |
حريـــــة والواقــع استعبــاد(15) |
ويقول كذلك مبينا شقاء أرواح هؤلاء:
النخلة الشمـاء أختـــك كُوِّنت |
مما تبقى من بقايا طينتك |
أتطوف في الحانات تُسقى كأسها |
وتطوف مخنوقا بعلمانيتك(16) |
ويقصد إقبال هنا أن النخلة وهي مخلوقة من الطين كما الإنسان فيها نبيذها، فأين نبيذ الإنسان؟ إن العلمانية هي التي سرقت نبيذه(17).
إن محمد إقبال يفرغ من هذا كله وصولا إلى حقيقة يراها، وهي أن العلمانية لم يكن هدفها مصلحة أبنائها بقدر ما كان وراءها أطماع لطائفة وجدت الكنيسة تحتكر كل شيء، فأرادت التحرر من سلطانها، وإعطاء أبناء تلك الشعوب الأوربية بعض الحقوق، لكنها سرعان ما تغيرت تلك الأطماع وتبدلت الطائفة التي تتحكم في الثروة والسلطة، ولعل محمد إقبال كان يقصد فترة معينة بعد ظهور العلمانية، كانت تتحكم فيها طائفة معينة في ثروات البلاد والعباد، وفي هذا يقول:
هذا التناقض كيف أمكن دمجه |
سبحانك اللهم رب النــــــــار |
ما للقصور وللكنـــــائس حيلة |
في الناس غير تبادل الأدوار |
فصلوا عن الدين السياسة بعدما |
وصلوا بفتنتهم إلى التيجان |
وتطاول البــــابا فقيل له استرح |
أصبحت سلطانا بلا سلطان |
وتلفت الشعب الجريح فلم يجـــد |
حظا له من ذلــك التغييـــــر |
كانت مصالح راهب ومتـــــوج |
صارت مصالح حاكم ووزير(18) |
أما بالنسبة لأمم الشرق فكانت ضحية للأمة الأوربية العلمانية، فقد خططت لاستعبادها، وأدركت أن الوسيلة في ذلك إبعادها عن مصدر قوتها وهو دينها وقرآنها، فدعتها إلى أن تحذو حذوها في التخلي عن الدين وفصله عن شؤون الحياة، غير أن التجربة هنا تختلف، والظروف تتباين، فالإسلام هو دين الله، وهو ليس كتلك الأفكار المحرفة، لكن الأمة الأوربية سعت حثيثا إلى التحكم في أمة الشرق المسلمة بطرق شتى، وحيل متنوعة ساعية إلى خديعتها بالديمقراطية، ودعوتها إلى تقليدها فيما يضر من عادات وتقاليد لا فيما ينفع من علم وابتكار، يقول إقبال:
يا لعبة من دمقراطيــــة طلبت |
عرش الملوك بما أبدته من ورع |
كانت حكاية فصل الدين آخرها |
إن السيــــاسة جنكيزيــــة الجشع(19) |
إن إقبال يحذر الأمة من الاتباع والتقليد الأعمى لتلك الشعوب التي تنكبت الفطرة السليمة متأثرا في ذلك بتعاليم الإسلام وهدي النبي العدنان في عدم اتباع الكفار، يقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ))(20).
ولهذا فإن عدم اتباع غير المسلمين منهج إسلامي يؤكد أن المسلم لابد أن يكون رائدا قائدا لا متبعا غيره، ولهذا نجد تحذيره:
فتشت في هذي الحضـــارة كلها |
لم أجد فيها غير نــــافخ كير |
فتداركوا الشرق الذي يرنو لها |
وليصل شاعره بصوت نكير |
في الغرب فلسفة وفي تصديقها |
تهديم صرح الذات في الإسلام(21) |
إن إقبال من خلال إيمانه وفكره العميق، ومن خلال خبرته بالشرق والغرب، وأسفاره المتعددة، وملاحظته لشعوب الشرق والغرب كان يرى المادية البغيضة ممثلة في دول الغرب تحاول فرض هيمنتها على الشرق مع علمه بأنهم ليسوا مؤهلين لانتشال العالم مما هو فيه من ضياع وخوف وهدم للقيم، ودعوة إلى الحرية المطلقة التي لا طائل من ورائها إلا ضياع العقل والقلب. إنه يرى تلك الدول وقد تركت الدين لتتقدم وتسعد؛ فإذا هي تتقدم في العلم لأنها أخذت بأسبابه، وهذه سنة الله لكن أرواحها تشقى، ونفوسها تتعب، ولا تجد من يضيء لها طريقها.
إن مفتاح سعادة العالم لا يوجد إلا في إسلام الوجه والقلب لله، لأنه منهج الخالق الحكيم، لذا يقرر إقبال بعجز هؤلاء في تقديم الخير للبشرية. وما الحروب والدمار والصراعات إلا نتـاج من تلك الحضارة البائسة التي يسعى البعض لتقليدها يقول:
غصن العقيـــدة في المدارس عار |
ومذاق أديـــرة بلا أســـرار |
بالرغم من طول الطريق وعسره |
عيناك ظاعنة وقلـــبـك سـار |
أسفـــا لديــــن ليس يكسب دولــة |
ولدولة وقفت كخيبر وجهــه |
من أيــــن للاثنيــــن كرَّة حيــــدر |
يلقي سخافتها ويصلح فقهــه(22) |
وإذا كان الغرب قد تنكب طريق الهداية، ورفض الاستسلام لمنهج الله؛ فأين خليفة في حكمة علي رضي الله عنه، لديه رجاحة العقل، وقوة الجسم ليواجه تلك الفتنة!؟
ولهذا نجد محمد إقبال يعيب على مصطفى كمال "أتاتورك" الخبيث الذي أظهر الإسلام والقوة في بداية أمره، حتى تمكن في النهاية من إعلان علمانية الدولة في تركيا، وهدم شعائر الدين مدعيا أن ذلك طريق التقدم والرفعة والحرية والكرامة فيقول:
بلا دين ولا تين |
هوت في الفخ رجلاه |
دواء العاجز المغلوب |
"لا غلّاب إلا هو"(23) |
إن انتشار العلمانية، والرغبة في تجاوز الدين، والانعتاق من كل قيد يحفظ للبشر حياتهم ومجتمعاتهم إنما جاء من جهل أمة الشرق المسلمة بدورها، وطبيعة دينها من ناحية، ومن كيد أمة الغرب للشرق وحربها الفكرية والنفسية فضلا عن حربها المادية، لذلك يقرر إقبال هذه الحقيقة بقوله:
وما برح الغرب يختال تيها |
ويحترف الكيد للعالمين |
لينشر في الكون إلحاده |
وينشئ دنيا على غير دين(24) |
ويقول أيضا في نفس المعنى:
في درب أوربة التي ائتمرت على الشرق الجريح |
في درب أوربـــة التي تبـــــدو منـــارا للحيـــــــاة |
والحق أن النبـــع في ظلماتهـــــــا نبع الممــــــات(25) |
ومما سبق يظهر لنا أن الغرب لا يريد الخير بأمة الشرق المسلمة، وهذا من المسلمات المعروفة إذ كيف يرجو عدو لعدوه الخير؟ لكن العبرة في تلك الأمة التي ترجو النجاة في تقليد عدوها تقليدا أعمى، ولا تعرف لها طريقا رغم أن الله خط طريقها، وبين سبيلها، ولهذا نجد هذا الحديث الكثير مما أوردته في الحديث عن العلمانية وتحذير الأمة المسلمة منها ومن مضارها وتبعاتها على أمتنا، وهناك الكثير مما لم أورده لضيق المقام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) محمد عناني: الترجمة الادبية بين النظرية والتطبيق، الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان، القاهرة ط 2، 2003م، ص96.
(2) أندريه لوفيفر: الترجمة وإعادة الكتابة والتحكم في السمعة الأدبية، ت فلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط1، 2011، ص 18.
(3) محمد علي البار: العلمانية جذورها وأصولها، دار القلم، دمشق، ط 1، 2008 م، ص 34.
(4) سفر الحوالي: العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها، ط1، جامعة أم القرى، 1982م، ص 21. ويراجع في تعريف العلمانية في المعاجم الغربية المرجع السابق "العلمانية جذورها وأصولها" ص 25.
(5) محمد فاروق الخالدي: التيارات الفكرية والعقدية في النصف الثاني من القرن العشرين، دار المعالي، الأردن، ط1، 2002 م، ص 30-31 بتصرف.
(6) محمد إقبال: ديوان محمد إقبال، إعداد سيد عبد الماجد الغوري، دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط 3، 2007، م، ديوان ضرب الكليم، الجزء الثاني، ص 117.
(7) محمد إقبال: ديوان محمد إقبال، الجزء الأول، ديوان زبور العجم، ص 383.
(8) محمد إقبال: ديوان محمد إقبال، الجزء الأول، ديوان زبور العجم، ص 395.
(9) محمد إقبال: ديوان محمد إقبال، الجزء الأول، ديوان رسالة الشرق، ص 325.
(10) محمد إقبال: ديوان محمد إقبال، الجزء الأول، ديوان جناح جبريل، ص 440.
(11) سورة فاطر 28.
(12) محمد إقبال: المرجع السابق، ص 440.
(13) سورة الجاثية 23.
(14) سورة الفرقان 43-44.
(15) محمد إقبال: ديوان محمد إقبال، الجزء الأول، ديوان جناح جبريل، ص 435.
(16) محمد إقبال: ديوان محمد إقبال، الجزء الأول، ديوان جناح جبريل، ص 442.
(17) راجع التعليق على هذا البيت في ديوان جناح جبريل، الجزء الأول، ص 442.
(18) محمد إقبال: ديوان محمد إقبال، الجزء الأول، ديوان جناح جبريل، ص 506.
(19) محمد إقبال: ديوان محمد إقبال، الجزء الأول، ديوان جناح جبريل، ص 438.
(20) سورة آل عمران 100.
(21) محمد إقبال: ديوان محمد إقبال، الجزء الأول، ديوان جناح جبريل، ص 494.
(22) محمد إقبال: ديوان محمد إقبال، الجزء الأول، ديوان جناح جبريل، ص 455.
(23) محمد إقبال: ديوان محمد إقبال، الجزء الثاني، ديوان ضرب الكليم، ص 129.
(24) محمد إقبال: ديوان محمد إقبال، الجزء الثاني، ديوان والآن ماذا نصنع يا أمة الشرق؟ ص 438.
(25) محمد إقبال: ديوان محمد إقبال، الجزء الأول، ديوان جناح جبريل، ص 491.