دراسة نقدية لديوان (حبيبتي والبحر) للشاعر إبراهيم عمر صعابي (2/2)
كتب   ▪ بتاريخ 31/05/2023 03:57 ▪ تعليقات (0) ▪ طباعة  أرسل لصديق  أرسل لصديق 

العدد 136

د.عبد الحميد محمد الراوي – العراق

 

الفصل الثاني: رحلة داخل النص

-      الظواهر الفنية في شعره

بين الحقيقة والعذاب: المذهب الشعري واضح إذاً، تحددت سماته بصورة تقريبية لدى الشاعر، إذ نرى التيار الوجداني الإبداعي، بالشكل الموسيقي المحافظ، يسري في صفحات هذا الديوان الصغير، من خلال عاطفة حزينة تشكل وحدة نفسية متصلة، أو تكاد أن تتصل، ولكننا نرى أحياناً ومضات من التفاؤل الحذر، تبدو بمقدار ضئيل لا يشكل كسراً أو خطراً على القاعدة العامة، قاعدة الحزن والاغتراب.

ومن المحاور التي دار حولها هذا الشعر الابتداعي، محور الشاعر، يقصد نفسه؛ إذ تحدث عن الشاعر الفنان كمستوى بؤري معين، ذي روح خاصة وذات إحساس عميق، فإحساسها بهذا العذاب برغم أنها تحيا وتطير بين مناظر بهيجة تزيل الأحزان عادة، ولكنها حزينة تحيا بين متناقضات، وثنائيات تمنع الاستقرار, لأنه أشار هنا –وقد أعجزه حسن التعبير- إلى تناقض إحساساته التي تحول بينه وبين التكيف مع الحياة، فيقول عن روحه في صورة تجريدية خلال حوار نفسي، بينه وبين روحه التي وجدها تلعب مع الطيور.

فسألتها عن ذاتها                 قالت لها هذي الصخور

ولها انتفاضات الرؤى                ولها التهجم والسرور

ولها غناء هزارنا                    ولها انطلاقات الصقور

ولها المدائن والقرى                 ولها الخنادق والقصور

ويظل يعقد مقارنات متعارضة عما تملكه هذه الروح من متناقضات، تحول بينها وبين الاستقرار, ثم يقول أخيراً معللاً لهذه المتناقضات:

الروح روح الشاعر             تسمو بأعماق الشعور  

تسري إلى ليل الأسى             قمراً يضيء ولا يغور

فلا تدري؛ هل هذه الروح الشاعرة هي سبب هذه الآلام المبرحة المقلقة بين السعادة والشقاء لشدة حساسيتها؟ أم هي التي تسري في ليل الأحزان فتتبدد ظلمات الحزن؟ فنجد أنه يجد سلوى في التعبير تصرفه عن الحزن، لكننا لا ندري أي المعنيين يقصد، بسبب الرؤيا المعتمة التي تعتريه أحياناً فتوقعه في تناقضات فكرية.

وإذا حاولنا أن نقيم موازنة سريعة بينه، وبين شعراء آخرين اهتموا بروح الشاعر مثله، وحاولوا أن يجعلوا منه مخلوقاً شاعرياً متميزاً له إحساس خاص ووظيفة مختلفة فسنجد كثيراً مثل قصيدة (ميلاد شاعر) لعلي محمود طه، من ديوان الملاح التائه، وقصيدة (ميلاد الشاعر) أيضاً لأحمد عبد الغفور عطار من ديوان الهوى والشباب، وقد وازن بينهما المرحوم عبد الرحيم أبو بكر.(3)

ونجد مثل ذلك عند (إيليا أبو ماضي) في قصيدة (الشاعر والملك الحزين)، وقد تكاثر الشعراء الابتداعيون  الذين احتفلوا بالشعر والشاعر، نذكر منهم واحداً فقط للاستشهاد، هو الشاعر حسن عبد الله القرشي، الوجداني، متعدد الإبداعات بحق، قد استهوته هذه الظاهرة فذكرها في أكثر من ديوان، فله قصيدة (شاعر من عبقر) من ديوان لن يضيع الغد، وقصيدة (شاعر الكرنك) من ديوان نهر الدماء، وله أيضاً (نجوى شاعر وشاعرة) من ديوان البسمات الملونة، ثم قصائد (شاعر إلى شاعر) (وحوار شاعر حزين) من ديوان موكب الذكريات، وهكذا، ولا بأس أن نذكر أبياتاً من هذا النص الأخير، لأنها تحمل نفس سمات وتجريد شاعرنا، ذات الشكل المنولوجي، ونفس المضمون والعاطفة.

يقول حسن القرشي:

من جنة الأرض وروح السماء         قد صاغك الرحمن يا شاعري

ففيم يعروك قتام السماء                   أطيافه أجنحة الكاسر

ألست نوراً شع ملء الفضاء              يستأثر الأحلام للحائر

لك الرياض الغن نشوى الفتون             والشمس في الإشراق والمغرب

وروعة الليل بهيج السكون                      فناره من قبس الكوكب

والبدر والبحر ودنيا الفتون               رحماك فانفض منه شجى مرعب

إن شاعرنا، وإن اختلف المستوى، يدخل مع هؤلاء الشعراء بطريق ما، وإذا كان هو قد تناول الموضوع خلال نظرة ذاتية، وتعبير مباشر وصفي، فإن الآخرين قد تناولوه خلال وسط درامي قصصي، أو درامي حواري، أو من خلال منولوج نفسي، وإن كان هو أيضاً قد اقترب من هذه الناحية النفسية، وإن كانوا أيضاً قد اختلفوا عنه في التصوير والتلون النفسي، والمضمون المتفلسف، والوضوح الفكري في نفس الوقت، إلا أنهم جميعاً قد اشتركوا في وقفتهم، الخاصة لدى هذا الشاعر المتميز بين مخلوقات الله، في حياته ورؤياه وتعامله، مع الكائنات الأخرى، كما نلمح عند شاعرنا ارتباط الشاعر بحزنه سلباً وإيجاباً، لعل الكلمة الشاعرة قد هدته إلى مواطن الحزن، لذلك هو يعشق الشعر الذي يهديه إلى الحزن، ويقربه منه.

الشعر عنده محوران، أحدهما عاطفي، والآخر عقلي، فهو يعرفه بدواعي الحزن، ويهديه إلى المعرفة العقلية في نفس الوقت.

فيقول عن الكلمة:

أحبك فوق الحب فوق تصوري                أحبك حباً دائم الحسرات

فمنك رأيت الحزن في كل بقعة              ومنك زرعت النور في الظلمات

الحب والعذاب والتفاؤل

نبدأ هذا الموضوع بالحب الأسمى، حب الأم، ذي النوعية الخاصة والاتجاه الأرقى، الحب الوارف الظلال المبرأ من الغايات، فنرى الشاعر من خلال قصيدته القصيرة (إلى حبيبتي أمي) لا يكاد يستثنيها من اتجاهه الوجداني العام برغم أنه يعترف بقصوره، وعجز كلماته عن استيفاء المعاني الكاملة، التي يود أن يعبر عنها، فتخونه الحروف:

أنت حبي والهوى فيك خديني                   فحبيبي من يعاني ما أعاني

وحروفي ما حروفي غير لهو                     لا تصوغ الحب في حجم المعاني

وعلى الرغم مما نحسه ونستشعره من مساحة الحب، نحو أمه إلا أن تعبيراته مبتذلة ومباشرة ومقلقة، وتخلو من الحرارة والإيحاء والجملة الشعرية، وخاصة الألفاظ (حروفي – حجم المعاني) التي تتنافى مع الرقة التي يقتضيها المقام والسياق. وقد أكثر من الرمز للشعر بكلمة الحرف، ولكننا على الرغم من هذه الألفاظ المباشرة نستشعر صدق إحساسه، وما يشتمل عليه من شجن عاطفي ملازم وقرين لا يود أن يفارقه حتى من خلال لحظات المرح أو التفاؤل، وهي لحظات نادرة إلا أن مسلسل العذاب أو تعذيب الذات، مسلسل مستمر يلاحقة أينما عبر أو باح.

ملامح عامة في الديوان

الملمح الأول: البحر والذات: إن البحر صورة مستمرة في هذا الديوان الصغير، البحر صورة محورية كلية، صورة مركبة في كل المراحل، فهو ذو حضور مستمر وتأثير غلاب على الواقع المعيش، وتأثيره في الشاعر نفسه لا يتوقف حتى في أموره الخاصة الصغيرة، بل إنه متماسك مع شاعرية الشاعر، فبينما نراه صاحباً ملتصقاً به، بواو المعية أو العاطفة (حبيبتي والبحر) نراه أيضاً منسوباً بمعناه، يلج بأدواته ووسائطه إلى داخل الشاعر في ديوانه الثاني (زورق في القلب)، ثم نراه مرة ثالثة محيطاً بصاحبه، ومحتوياً له في ديوانه الثالث (وقفات على الماء) لنرى هذه الضفة البحرية قد أضحت حصاراً كاملاً لا مهرب منه، كما نراه في ديواننا الصغير هذا.

فالشاعر إما هارب إلى البحر أو هارب منه، لذلك فهو يبدو قليل الالتفات إلى ما حوله، أو إلى خارج ذاته. ولهذا بدت أشعاره نمطية أو محدودة التميز.

إن عاطفة الشاعر تبدو قوية نحو المحبوبة، بل إنه شاعر عاطفي محض، وهذه العاطفة هي المقابل الموضوعي للبحر، وهي التي جعلته يتحصن بذاتيته، ولا يكاد يغادرها إلى موقع آخر، فالعاطفة نحو الأخرى سياج يتمسك به ويناجيه ويحاوره ويحتمي به أو يكاد، وينكر لفظياً ما حوله من مسببات النقد.

الملمح الثاني: التجريب:  

إن معايشة الواقع البحري الساحلي مثبوث في ثنايا الديوان، ولكنه ليس موغلاً في التجريبية. إن علاقته بالبيئة علاقة عاطفية، ممزوجة بخيال كثير، ولكنها ليست كثيرة المفردات، إنها رموز بيئية عامة، أثر البيئة الساحلية ظاهر ملموس فيها، ولكنها ليست بيئة متعددة التفاصيل.

فعلى الرغم من معانقته للساحل والبحر، وتقديمه في مطلع الديوان، بصورة مفتعلة، إلا أنها بيئة خاصة، تأخذ برموزها الخاصة، وتعيد صياغتها وتشكيلها، لا يكاد يمسك من مفرداتها إلا ما يتعلق بالرحلة والسفر والمغادرة.

إن كثيراً من شعراء السواحل يتقاربون، ويتشابهون في هذا السياق، إذ لديهم علاقة خاصة وحميمة ببيئتهم، وكأنهم يتمايزون عن غيرهم في هذه الملاصقة البحرية الانتقائية، من خلال هذا التماسك والتداخل المقصود، وليس لازماً أن تكون هذه المداخلة إيجابية، إنه وله عاشق متألم اجتمعت فيه النشوة والعذاب، ولكنهم عاكفون دائماً حول هذه الرموز البحرية التي ارتقت أحياناً لتغدو معادلاً موضوعياً في بعض محطاتها، فتجاوزت الصورة التقليدية بسبب هذا الانغماس في التجريب، ومفارقة الواقع المادي في منظومة المكان الذي اختلط بالأخيلة، والمشاعر والإنفعالات. إن البيئة البحرية ذات حضور وفاعلية في الخطاب الشعري، والمشهد الهام في الديوان.

الملمح الثالث: موسيقى الألفاظ:

الشاعر لم يغادر البحور الشعرية التقليدية، وإن حاول أحياناً أن يوهمنا بالتجديد، فلم يكد يقترب من شعر التفعيلة إلا اقتراباً يسيراً، ولكنه اقتراب شكلي أيضاً.

والتجديد إن تحقق أحياناً، تجديد مسبوق بتعدد القافية في النص وقد تحقق هذا منذ القدم، وكذلك في كثرة البحور الصغيرة، وهي قليلة على أي حال وليست جديدة، فهو من خلال الشكل الشعري يوهمنا بذلك، لأن السمة العامة هي التفعيلات الشعرية الطويلة والمزدوجة، التي تناسب هذه العاطفة المضطربة، التي تمور في داخلها، وتمتلئ بالعذاب، وتتأجج فيها الانفعالات صعوداً وهبوطاً, ولكنها تفيض بالحيوية والتدفق، وتنشدان التغيير بالتعلق العاطفي المبالغ فيه.

إن العاطفة هنا عاطفة متقلبة، مثل البحر لا تكاد تستقر على حال وإن كانت غير عنيفة أو متأججة.

إن البحور الشعرية المستعملة هنا بحور مزدوجة غالباً، من ذات التفعيلتين، وقلما كانت من البحور المفردة، ذات التفعيلة المفردة الصافية، فإذا جاءت أحياناً كانت من التفعيلات السباعية، مثل متفاعلن، أو فاعلاتن.

أما إذا جاءت بعض القصائد على هذه الشاكلة الموهمة بالتجديد:

اسقني الوهم حبيبي = اسقني في الحب صابا

سوف أشدو في حبور = إن هوى القلب اكتئاباً

كلما أوغل جرح = هتف القلب منار

امنحني الدنيا بريقاً = يجعل الليل نهار

واقتليني ألف مرة.(4)

فإنه لا يعدو خداع للنظر، لأنه تقليد محض، وتعلق بأذيال المجددين دون أن يكون منهم، لأنها كما ترى تفعيلة فاعلاتن، وقصيدة مجزوءة تقليدية، لا أكثر ولا أقل.

إن الديوان الصغير يمور بحركة داخلية، وما الرحلة البحرية الممتدة أمامنا، إلا صدى لهذه الرحلة الداخلية، واستيحاء لها، ولعل بطء الحركة الخارجية وقلة عواصفها نابع عن هذا التماثل الداخلي الذي فرض هذه القيود على الرحلة الخارجية، ليتسق مع هذا الداخل المكظوم، ويتماثل معه، ويصغي إلى مقولته.

إننا إزاء ديوان صغير ثري بالانفعالات، والصور الحسية، والحركة، ذي لغة خاصة بعض الشيء, وعلى الرغم من الصورة التقليدية الشكلية، فإنه ينحو منحى ذاتياً جديداً نسبياً.

ملاحظات وهنات:

رؤية تقويمية:

أولاً الشكل والموسيقي: إذا أردنا تصنيف هذه التجربة الشعرية، وتحديد التيار الشكلي التي تنتمي إليه، فإن هذا الإطار الشكلي هو الإطار المحافظ، برغم ما يبدو عليها من لمحة تجديدية في المضمون. أما ما رأيناه من بعض الثنائيات المتحدة بشكل قصيدة التفعيلة، فلا يعدو الأمر بعثرة مقصودة لأشطر تقليدية موزعة توزيعاً جديداً.

وأما عناوين بعض القصائد الملفته للنظر، مثل (بكائية على صدر اليأس) (وتموجات في ظل الرحيل) وما يشبه ذلك، فلا يعدو الأمر ركوب الموجة بهذه العناوين، الصارخة المفتعلة التي أصبحت فارغة المحتوى، لا تعني أكثر من لفت النظر، وإغراق لفظي بما يسمى (بالميلودراما) فالنصوص التي لديها لم تتجاوز الإطار التقليدي، هذا التمسك بالشكل التقليدي لا يعاب على شاعرنا، بل يحسب له، ولا يؤاخذ إلا على هذا التعلق غير المبرر بهذه العناوين الزاعقة، التي لا تعني شيئاً سوى لفت النظر، والإيهام بالحساسية، وأئمة التجديد الوجدانيون يتمسكون غالباً بالشكل التقليدي، مع تنويعه موسيقياً في توزيعات شتى.

كما لوحظت بعض الهنات التي تتجاوز ما يمكن أن يسمى بالضرورة الشعرية، تناثرت قليلاً هنا وهناك، وإذا كانت قد تكررت في ديوان صغير، ولدى شاعر في أولى خطواته فقد يعتبر هذا عيباً يسيء إليه، لو تكرر منه، ولكنه قد تجاوز هذه الهنات في ديوان التالي.

من ذلك ما رأيناه من خطأ في الصياغة في قصيدة (القتيل)

أسفر الفجر عن قلوب خوالي            تحسب اليأس والهموم تسالي

كيف يحيا الإنسان في زمن المو        ت، ويرسو بشاطئ الإغتيال

من يلبي صوت شخص جريح              عاش بالجرح شامخاً متعالي

فقد قرأنا خطأ في نهاية كل بيت، ألجأته إليه ضرورة كان يستطيع تجاوزها، ففي البيت الأول اضطر إلي إشباع حركة الروي (اللام) مرتكباً خطأً نحوياً، لأنه لو صححها بدون إشباع فقال: (تسالياً – أو تسالي) فإنه سيدخل في خطأ آخر هو (الإقواء) أي اختلاف حركة الروي، أو الوصل فضلاً عن انكسار التفعيلة نفسها واختلاف الأوزان.

أما في البيت الثاني فقد ارتكب خطأ إملائياً، حيث ألجأته الضرورة إلى جعل همزة الوصل همزة قطع منطوق بها (الاغتيال، جعلها الإغتيال) حفظاً للمقطع الموسيقي، حتى لا ينفرط الإيقاع وينكسر الوزن.

إن هذه الهنات القليلة يمكن تلافيها لدى أدنى مراجعة من قبل الشاعر، أو سواه، ولكنها أخلت بالإطار الموسيقي والمعنوي كذلك، ولابد أن يكترث الشعراء بهذا الجانب الشكلي، وخاصة في خطواتهم الأولى نحو النشر.

ثانياً: المعاني والعاطفة والتصوير

إن الملاحظ في هذا الديوان الصغير، أنه يبشر لميلاد موهبة، وقد ظهرت لمحات من هذه الموهبة وإن كانت بعض المحاولات لم تنضج أو تتضح، إلا أنها تبشر وتعد بصوت شعري متميز ذي مذاق خاص، وعاطفة تكاد تنبئ عن تيار غالب.

وقد يبدو على معاني الشاعر الاتساق والتوازن، بين العاطفة والأسلوب، أو المعاني والأسلوب، أو تسطيح المعنى أحياناً، أو التقريرية، ينزل الأسلوب إلى مستوى النظم، فيخلو من الجملة الشعرية، أو الإيحاء، وهو أهم ما يميز الشعر عن النظم (الكلام الموزون المقفى)، وقد وجدنا طرفاً أو جملة من كل هذه المآخذ أحياناً قليلة، ولا بأس بالإشارة إليها حتى يمكن تلافيها. وأنا أقوِّمها من خلال هذه البدايات، وأظن أن الدواوين التالية قد خلت من معظم هذه الهنات، التي تكثر لدى المبتدئين في النشر، ولا ينجو منها أحد، ولا يعاب على أحد أن توجد لديه هذه الملاحظات في مراحله الأولى مع النشر، ومصادمة القارئ المتذوق.

من هذه المآخذ ما يلاحظ على الشاعر من قلقلة لفظية عندما تعجز اللغة عن التعبير، فتأتي بألفاظ أدنى من المستوى الانفعالي مثل قوله:

يملأ الدنيا هموماً واكتئاباً           وخريفاً يجعل الحب بضاعة

إذ يريد معنى محلقاً للحب ينأى به عن المساومات، ويبعد عن أي مقياس مادي، فخانه التعبير من خلال لفظة واحدة لم يوفق في وضعها خلال السياق المناسب، فأحدث صدمة للتذوق بهذه المقابلة غير المحكمة، مثل ما جاء في قصيدة (إلى حبيبتي أمي)، حيث أجاد التعبير في موضوع ذي صلة خصيبة بالوجدان، وهو موضوعه ومجاله الرحيب، ولكنه أتى فيه أحياناً بكلمات نثرية جامدة أو تكاد مثل قوله:

كيف يا أماه أنسى قبلة             وبدا كل مناها في احتضاني

لو أعيش العمر أوفيك بحق        وتمادى العمر دهراً ما كفاني

إن الشعر فيها يتحول إلى مجرد نظم، والفرق كبير بين الشعر والنظم.

وأخيراً نلقي نظرة كلية سريعة على نص واحد، كنموذج لنصوص أخرى استطاع فيها أن يأتي بالمبتكر، والمفتعل في المعنى والتصوير، حينما تواتيه تداعيات سهلة لا يتخلص من إغرائها فينساق وراءها، إنها قصيدة (بكائية على صدر اليأس) على الرغم من العنوان الذي انتقدناه، نرى في هذا العنوان تصويراً غريباً، يجمع بين مظاهر الطفولة والأمومة، ووجود وشيجة حميمة بين الشاعر واليأس، تكاد مع شيء من المبالغة أن تلخص مذهبه الشعري الوجداني، خلال هذا العنوان، فنراه يقول:

لا تلمني يا حبيبي          إن قطفت الزهر وحدي

ففؤادي لا يبالي            بلقاء أو ببعد

حسه في الحب نظرة

فنراه شاعراً وجدانياً يقترب من الاتجاه العذري في الغزل، يكفيه ممن يحب أقل القليل، مثلما كان يفعل أصحاب هذا الاتجاه من قديم، يكتفون من الحبيب بأدني إتصال، كما يفعل جميل بثنية مثلاً، ثم نرى السياق الانفعالي يختلف بعد قليل في المقطع التالي:

هاتها كأس ظنوني         واندبي بالدمع كأسي

واسكبيها في ضلوعي       بسمة تقتل يأسي

واملئي  دنياي حسرة

فتلاطم المعاني مع الصور لا تستقر، لا نكاد نلم بها، فماذا يريد بالضبط؟ ما كأس ظنونه التي يطلبها من الحبيب، بعد أن يندب الكأس، ولماذا يندبها؟ ثم يطلب سكب البسمة في ضلعه، وليست الكأس هي التي مظنة السكب، وإذا تغاضينا عن مكان السكب حتى تقضي هذه البسمة على يأسه فلن ينفعنا هذا، لأننا لا نكاد نلم بمعنى حتى نفجأ بتناقض آخر.

وإذا تتبعنا المقطع الثالث الذي يقول فيه:

املئيها كل وهم        واملئيها كل رعب

وحملي منها أنيني        واسكبيها كل حب

واتركي للعمر عمرة

فتعترينا الحيرة من استقصاء أي معنى متكامل أيضاً، ولن يخرج باقي النص عن هذا الإطار الكئيب، الذي تتخلله إشعاعات قليلة من الضوء الذي يتناقض مع المطلع عندما أوهمنا فيه أنه محب قنوع، يكتفي بقطف الزهر وحده، وترضيه نظرة من بعيد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- الحياة الفكرية في جنوب البلاد العربية السعودية، عبد الله محمد حسين أبو داهش، دار الأصالة، الرياض، ص75.

2- الأدب ومذاهبه، دكتور محمد مندور، نهضة مصر القاهرة ص59–68.

3- العصر الحديث في الحجاز، عبد الرحيم أبو يكر، مطبوعات النادي الأدبي، المدينة المنورة،  ص169 وما بعدها.

4- من قصيدة بكائية على صدر اليأس، ص150.

 

 

تعليقات القراء
لاتوجد تعليقات على هذا المقال الى اﻷن

علق برجاء التدقيق اللغوي لما يكتب