العدد 136
حسن الحضري - مصر
العِلم -كما يقال- شجرة متشابكة الأغصان، يتكامل بعضها ببعض، لذلك فإن العالِم وإن تخصَّص في علمٍ واحدٍ من العلوم؛ لا بدَّ أن تكون له دراية على الأقل بالعلوم الأخرى القريبة الصِّلة بهذا العلم؛ وفي العصور القديمة كان تقسيم العلوم أشملَ وأخَصَّ في آنٍ واحد؛ فأما الشمول فكان من حيث تعدُّد الفروع التي تندرج في باب العِلم الواحد، وأما الخصوصية فكانت من حيث إن كل فرعٍ له لوازمه وقواعده؛ وفي العصر الحديث فإن كل فرعٍ من تلك الفروع التي كانت تندرج تحت علمٍ واحدٍ؛ أصبح يمثِّل علمًا قائمًا بذاته، وأصبحت الجامعات والمؤسسات التعليمية تعتبره تخصُّصًا كافيًا لاعتبار حامله عالِمًا من العلماء، ويُعَدُّ هذا من مساوئ العملية التعليمية؛ لأن هذه المؤسسات تنتظر من طالب العلم تخصُّصًا وحيدًا يكون ملمًّا به، في حين أنها حين تطلب منه بحثًا أكاديميًّا في ذلك التخصص، وذلك البحث؛ لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يستغني عن بعض العلوم الأخرى التي لم يتقنها ذلك الباحث في مراحل تعليمه، بل لم يعرف شيئًا عنها، وليس لديه الموهبة التي تُعِينه على تحصيلها، كمَن يُطلَب منه بحثٌ في العقيدة مثلًا، ويُحدَّد له موضوع في الشعر، كموضوع الشعر الصوفي والمحبة الإلهية والمديح النبوي؛ فكيف يُنتَظر من الباحث المتخصص في العقيدة أن يتقِن بحثًا كهذا وهو لا يعرف عِلم العَروض، ولا يتقن النحو، ولا يجيد الاشتقاق، ولا يدري قواعد النقد الأدبي؟!!.
وممَّا ورد في مِثلِ ذلك أنه «كان سيبويه (ت:180هـ) يستملي على حماد بن سلمة (ت:167هـ)، فقال حماد يومًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «ما أحَدٌ مِن أصحابي إلَّا وقَدْ أَخَذْتُ عليه، ليسَ أبَا الدَّرداءِ» (ت:32هـ)، فقال سيبويه: (ليسَ أبو الدَّرداءِ)؛ فقال حماد: لحنتَ يا سيبويه؛ فقال سيبويه: لا جرم، لأطلبنَّ عِلمًا لا تلحنني فيه أبدًا؛ فطلب النحو، ولزم الخليل (ت:170هـ)»(1)، فإنَّ سيبويه قد التبس عليه الأمر؛ إذْ لم يكن يعلم آنذاك أن (ليس) في هذا الحديث تعمل عمل (إلا) من أدوات الاستثناء، فلمَّا وقعت له تلك الواقعة؛ علم أنَّ طلب الحديث الشريف لا بدَّ له من إتقان العربية.
فبعض العلوم لا غِنَى لها عن بعض، ولا يمكن لعالِمٍ أن يتقن عِلمًا واحدًا من العلوم إلا إذا ألمَّ بالعلوم التي تلائم ذلك العلم وتتكامل معه، فإذا تمكَّن الإنسان من ذلك أصبح عالِمًا حقًّا، وإذا أصبح عالِمًا متمكنًا في عِلمه -بما يتكامل معه من علومٍ- استطاع النَّفاذ إلى أبوابٍ أخرى من العلوم وإن لم تكن ذات صلة مباشرةٍ بعِلمه الذي يتقنه. ومما ورد في مِثلِ ذلك أنه «اجتمع الكسائي (ت:189هـ) ومحمد بن الحسن الحنفي (ت: 189هـ) يومًا في مجلس الرشيد (ت:193هـ)، فقال الكسائي: من تبحَّر في علمٍ اهتدى لجميع العلوم؛ فقال له محمد: ما تقول فيمن سها في سجود السَّهو، هل يسجد مرة أخرى؟ قال: لا؛ قال: لماذا؟ قال: لأن النُّحاة تقول: المصغَّر لا يصغَّر؛ قال: فما تقول في تعليق العتق بالملك؟ قال: لا يصحُّ؛ قال: لم؟ قال: لأن السَّيل لا يسبق المطر»(2).
فهذه هي نتيجة التَّفوُّق العلمي والتَّبحُّر في أي علمٍ من العلوم؛ أن يجد العالِم نفسه ملهَمًا عارفًا بمسائل العلوم الأخرى، لكن ينبغي الفهم الصحيح لمعنى (التَّبحُّر في علمٍ من العلوم)؛ فذلك التَّبحُّر لا يكون أبدًا بالاقتصار على ذلك العلم كما يزعم بعض قاصري الفكر؛ إنما يكون التَّبحُّر في علمٍ ما، بالإلمام بما يتَّصل بذلك العلم من علومٍ أخرى، فيجد العالِم نفسه قد ألمَّ بعلومٍ شتى، كل علمٍ منها يقوده إلى آخر.
وعن أهمية ذلك قال أبو حاتم السجستاني (ت:248هـ): «وفَد علينا عاملٌ مِن أهل الكوفة، فدخلتُ عليه مسلِّمًا، فقال لي: مَن علماؤكم بالبصرة؟ قلتُ: الزِّياديُّ (ت:249هـ) أعلَمُنا بعِلمِ الأصمعي (ت:216هـ)، والمازنيُّ (ت:249هـ) أعلَمُنا بالنحو، وهلالُ الرَّأيِ (ت:245هـ) أفقَهُنا، والشاذكونيُّ (ت:234هـ) مِن أعلَمِنا بالحديث، وأنا أُنسَب إلى عِلم القرآن، وابن الكلبيِّ (ت: 204هـ) مِن أكتَبِنا للشروط؛ فقال لكاتبه: إذا كان الغدُ فاجمعهم لي؛ فجمعنا، فقال: فسأل المازنيَّ مسألةً في الفقه، فقال المازني: لست صاحب فقه؛ أنا صاحب عربية؛ ثم سأل الزياديَّ مسألةً في النكاح، فقال الزِّيادي: ليس هذا مِن علمي؛ هذا مِن علمِ هلالِ الرَّأيِ؛ ثم سأل هلالًا مسألة في الحديث، فقال هلال: ليس هذا من علمي؛ هذا مِن علمِ الشاذكوني؛ ثم سأل الشَّاذكونيَّ مسألة في علمِ القراءات، فقال الشاذكوني: ليس هذا من علمي؛ هذا مِن علمِ أبي حاتم؛ ثم سألني عن كتابة رسالة إلى أمير المؤمنين، فقلت: لست صاحب براعة وكتابة؛ أنا صاحب قرآن؛ فقال: ما أقبحَ بالرَّجُل أن يتعاطَى العِلمَ خمسين سنةً لا يعرف إلا فنًّا واحدًا، حتى إذا سئل عن غيره لم يمرَّ فيه!! لكنَّ عالِمَنا بالكوفة الكسائي لو سُئل عن هذا كلِّه لأجاب»(3).
ونحن حين نطالع سِيَر أسلافنا نجد العالِم منهم قد ترك وراءه من المصنَّفات ما يدل على تبحُّره في كثير من العلوم، وليس ذلك عندهم قاصرًا على مجموعة العلوم ذات الأصل الواحد أو التي تنتمي إلى عائلة واحدة؛ بل إن كثيرًا من أولئك العلماء قد جمعوا بين العلوم النظرية وبين العلوم التطبيقية وبرعوا فيها جميعًا وفاقوا بعض من تخصَّص في علمٍ واحد أو في بعض الفروع التي تنتمي إلى علمٍ واحد، فالأمر يرجع إلى اختلاف القدرات العلمية وتبايُنِ الميول والاهتمامات، وفي جميع الأحوال يجب التأكيد على أن الاكتفاء بعلمٍ واحدٍ لا يصلح أبدًا إلا إذا ألمَّ صاحبه بمعارف العلوم الأخرى التي تُعِينه في فهمِ ذلك العلم الذي قصر نفسه عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) انظر: «أخبار النحويين البصريين» للسيرافي (ص35)، تحقيق: طه محمد الزيني- محمد عبد المنعم خفاجي، طبعة: مصطفى البابي الحلبي، 1373هـ- 1966م.
(2) «حياة الحيوان الكبرى» للدميري (1/407)، طبعة: دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة الثانية 1424هـ.
(3) انظر «وفيات الأعيان» لابن خلكان (2/431- 432)، تحقيق: إحسان عباس، طبعة: دار صادر- بيروت 1900م.
*****