الفضل أنواعه وحملته (١)
كتب  محمد نعمان الدين الندوي ▪ بتاريخ 31/05/2023 03:46 ▪ تعليقات (0) ▪ طباعة  أرسل لصديق  أرسل لصديق 

العدد 136

 

الفضل: إحسان بلا مقابل، نعمة، هبة، عطاء.

ينشأ هنا سؤال: ما هو الفضل الحقيقي ومن صاحبه المحظوظ؟

الجواب -بلا تردد أو تعثر-:

ذو الفضل الحقيقي -طبعًا وأكيدًا-: ذلك الكيان العالي، المتميز المتفرد الذي نفخ فيه ربه من روحه (ونفخت فيه من روحي).

الكيانُ المُعلَّم: (وعلم آدم الأسماء...)،

الكيانُ المكرَّم: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلق تفضيلًا)،

الكيانُ المَهْدِيّ: (وهديناه النجدين).

ذلك المخلوق السماوي العلوي، الذي أُسجِدَتْ له الملائكة، وسُخِّر له ما في السماوات والأرض. ذلكم هو «الإنسان». نعم! إنه الإنسان أَشْرَفُ من خُلِق برًّا وبحرًا وجوًّا. الإنسانُ الذي أعلى الله قدره إلى منزلة لم يحظ بها أحد من خلقه، فجعله خليفته في الأرض (وإذقال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة). ذلك المخلوق المحظوظ المجدود الذي أغدق عليه الرب العطاءَ بلا حدود، وقيض له أفضالًا وأيادي تعلو عن العد والإحصاء المعهود: (وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها).

لا شك أن صلة الإنسان -من حيث هو إنسان- بـ: الفضل و: «الفضيلة» و: «الشرف» صلة جِبِلِّيَّة طبيعية؛ فبـ «الفضل» عجنت طينته، وبماء الشرف سقي ترابه، وبه -الفضل- نُسِجَت لحمته وسداه، وبه كانت خلقته وتكوينه.

فهل هناك أحد أجدر وأحرى من الإنسان بهذا اللقب الفذ: «ذو الفضل الحقيقي» يا ترى؟!

حقَّا إنه -الإنسان- وحده لَصاحبُ الفضل الأعظم والأساسِ الأكرم، وخلْقُ الله المختار على جميع الخلائق. وإنه -وحده- وُجِد على غاية الفضل والشرف.

لا أقول ذلك من عندي؛ فلستُ أدعي -من نفسي- هذا الفضل الأكبر لهذا الإنسان!

فمن أنا، ولا غيري، ليس له أن يوزع الألقاب، ويطلق التشريفات؟!. بل الله الذي خلق الإنسان وخلق كل شيء نصب لهذا الإنسان سريرَ العز، وتوّجه بتاج الفضل، وشرّفه بوسام التشريف، الذي دونه أي شرف مهما سما وعلا، وناطح الجوزاء.

فما أفضلَ من فَضَّلَه الخالق! وما أسعدَ من أسعده الرب! وما أكرمَ من كرمه المولى الكريم!..

الحقيقة أن الإنسان جوهرة هذا الكون ودرته اليتيمة، بل تاج رأسه، وغرة جبينه، وواسطة عقده، وعين وجوده، والحقيقة الكبرى من حقائقه.

على أن هذا: «الفضل الخاص العظيم» الممنوح للإنسانِ من ربه، ليس عطاءً دائمًا بدون قيد أو شرط؛ فيبقى على كل حال. بل إنه -الفضل- مشروط بشرط، شرط الوفاء، الوفاء بالتزام الإنسان .. باستقامته على الطريق .. بالثبات على جادة الحق، والتمسك بمنهج الهداية،الذي هُدِيَ إليه الإنسان بواسطة الأنبياء و الرسل عليهم الصلاة والسلام.

فهذا الفضلُ يُحْرَمُه صاحبُه ويسلب منه، ويتحول المنح منعًا، والعطاء مردودًا إذا أخل الممنوح له بالشرط، ولم يؤدِّ حقه من الشكر والعرفان بالجميل، ولم يُثْبِتْ أهليته للتحلي بالشرف الرباني والاضطلاع بأعبائه وتكاليفه.

إن هذا الشرف الرباني موقوف على استمرارية سير الإنسان على المنهج الذي ارتضاه الرب، وإلا ينقلب الأمر رأسًا على عقب. يسقط الإنسان من الثريا على الثرى... ويهبط من الأعلى إلى الأسفل..

نعم.. هذا الإنسان يظل فاضلًا مُفَضَّلا مكرَّما، مباركًا محمودًا مرضيًّا عنه من ربه، مادام على الفطرة التي فُطِر عليها، مرتبطًا بالذي حباه هذا الفضل وكَرَّمه هذا التكريم، قاضيًا حياته في ضوء التعليمات الصادرة عن الملأ الأعلى؛ فإذا انحرف عن سبيل ربه، وترك هداه، واتبع هواه، فَقَد أهليَّته للفضل، وجدارته بالكرامة، واستحق الذل والمهانة. وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله: «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين».

***

هذا؛ ومن مظاهر هذا الفضل الخاص على الإنسان، ومن أبرز ما أعطي من مميزات تميزه، وتجعله شامَة بين الكائنات الأخرى، أنه -الإنسانُ- خُلِق مبدعا ملهَمًا، متطورًا من حسن إلى أحسن، ومن أحسن إلى الأحسن، ومن الأحسن إلى الأكثر حسنًا. فهو -الإنسان- منذ أن وضع قدمه على الأرض وحط رحاله فيها، ما زال في تحول متصل، وتطور مستمر لم ينقطع إلى يومنا هذا، بل سيستمر هذا التطور إلى آخر يوم له في هذه المعمورة.

فارتقاء الإنسان فكريًّا ومعاشًا وملبسًا ومسكنًا ما زال ولا يزال متصلًا لم تتوقف سلسلته منذ نشأته لحد الآن. فسكَنُه بدءًا من المغارات والكهوف، ومرورًا بملاجئ القش والوبر، وبالمباني المبنية بالآجرِّ والجص، ثم القصور والبروج المشيدة، ثم المكيفة المزودة بأحدث وسائل الترف والبذخ والراحة، مما كان لا يكاد يصل إليه خيال أعظم المفكرين أو تصور الشعراء حتى إلى ما قبل عدة عقود من الزمن فقط.

وكذلك ما وفق إليه الإنسان من الإبداع والتفنن في صنع ألوان وألوان من المأكولات والمشروبات، وفي طرائق تناولها.

أما ابتكار الإنسان في مجال وسائل ترويح الحياة وتسهيلها وخاصة في باب المواصلات والاتصالات فحدث عن البحر ولا حرج؛ فقصة الابتكارات المدهشة والمكتشفات الهائلة والمستحدثات المتنوعة وبإيجاز: «ثورة التكنولوجيا» في مختلف المجالات ليست بخافية على أحد، فكلنا يعيش في ظلال معطيات العلم و التكنولوجيا الحديثة.

فالتطور مستمر من العهد البدائي الغارق في القدم قِدَمَ الإنسان نفسه ولم يتوقف قطار التطور والترقي قط؛ فلم يزل الإنسان يتطور ويتطور ويتحضر ويتمدن إلى أن وصل إلى هذا المدى الشاسع والرقي الخيالي في النمط الحياتي والمنهج المعيشي. ومازال صاعدا راقيًا، سباقًا إلى مدارج العلو والفضل والكمال في شتى مناحي الحياة حتى سجل هذا الرقم القياسي في الصعود والنهضة.

أما غير الإنسان من المخلوقات الأخرى من الدواب والأنعام والبهائم والسباع والطيور والحشرات .. فهي هي على ما كانت عليه منذ أن خُلِقت ووجدت على الأرض في طرائق أكلها وشربها، وسكناها وعيشها ... لا تطورَ ولا تحسُّنَ في العادات والسلوك والمعيشة.

أفليست فضيلة: (التطور)هذه من ذلك الفضل الإلهى الخاص، الذي حظي به الإنسان من لدن ربه الكريم؟! (فبأي آلاء ربكما تكذبان)..

 

تعليقات القراء
لاتوجد تعليقات على هذا المقال الى اﻷن

علق برجاء التدقيق اللغوي لما يكتب