العدد 135
ماذا أشعر وأنا في الطائف؟
كما ذكرت في بداية المقال، أنني زرت الطائف مرتين، وفي كل مرة شعرت شعورا واحدا.. شعورا ربما يستغربه كل من يعلم به، ولكنه -على كل حال- كان شعوري لدى كلتا الزيارتين.
فماذا شعرت؟
هناك -في الطائف- المباني الشاهقة التي تناطح السحاب، والشوارع الواسعة التي تضارع شوارع كبرى مدن المملكة أناقة ونظافة وسعة، وهناك الأسواق الحافلة بكل حديث وغال من كل ما أنتجته المدنية الحديثة، وهناك الحدائق الخضراء والبساتين الغناء بثمارها وفواكهها، وهناك الجامعة والجوامع والمدارس والمعاهد المبنية على أحدث طراز، وهناك -تقريبا- كل ما في غيرها -من المدن والعواصم- من المدنية والحضارة وبهاء الحياة وزينتها وزخرفها، وطرافتها وطلاوتها، ومعالم الرقي والتقدم والازدهار، والأنوار البديعة والأضواء المتلألئة التي تتنور بها الطرق والشوارع والأسواق والمنتزهات والحدائق..
مع ذلك كله.. ومع أروع وأبدع، وأعلى وأغلى من ذلك كله.. شعرت شيئا لا أكاد أصفه...
فماذا شعرتُ..؟
شعرت -وقلمي يرتجف- وأنا أبوح بشعوري ذاك -خوفا من القيل والقال-.. شعرت كأن الحزن يخيم على جو الطائف..
أو كأن سحابة الخجل والندم تغشى الطائف لِما كان وقع فيها من الواقعة..
نعم.. شعرت في الطائف بشيء يمكن تشبيهه بـ" كُمدة المأتم" التي تكاد تُرى في كل ناحية من نواحي الطائف.
كأن الجو -في الطائف- مُندَّى بعبرات الأسى، مضطرب بحسرات الذكرى.. ذكرى الحدث الأليم!..
كأن الطائف لا يزال يؤلمها ويخجلها ما كان حدث على أرضها.. وبأيدي سفهائها.. في صدر الإسلام.. مع نبيه عليه الصلاة والسلام.. مع ذلك الإنسان الأشرف الذي لم ولن تطلع الشمس على خير منه..
الحقيقة أن ما كان وقع في أرض الطائف، أخجل الإنسانية كاملة..
فهناك -في الطائف- تتفجر عواطف متدفقة حزينة.. والمرور بشوارعها يبعث الشجا.. لأنه -المرور بشوارع الطائف- يُذكِّر المار والماشي بما كان وقع فيها مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيجدد الأحزان، ويثير الأشجان، وينكأ الجروح.
فقال: أتبكي كل قبر رأيتَه
لقبر ثوى بين اللوى والدكادكِ
فقلت له: إن الشجا يبعث الشجا
فدعني فهذا كله قبر مالك
فكلما مررت بشارع من شوارع الطائف أو زقاق من أزقتها، هاجت أحزاني، وفاضت مشاعري، وكادت عيناي تسيلان دموعاً.. وتخيلت: لعل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يكون قد مر -فداه أبي وأمي- بهذا الطريق لاقياً ما لقي من سفهاء الطائف وصبيانها...
فهناك -في الطائف- الكرامة الإنسانية أهدرت، والشرف الأخلاقي ديس، والحق -حق الضيافة- ضاع، والشهامة خذلت، والشماتة -بألأم صورها- افتضحت، والإنسانية خجلت، والمروءة العربية تحولت جفاء وقسوة، والقيم والمثل - التي كانت تراعى حتى في المجتمع الجاهلي- اغتيلت في رابعة النهار.. وبكل وقاحة ورقاعة..
هناك أوذي أشرف ضيف وأكرم إنسان!..
وكأن نفسي كانت تقول لي -لدى كل زيارة من الزيارتين-: كيف تضحك -إن ضحكتُ- في مكان أوذي فيه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم!؟ ألا يؤلمك هذا الشعور.. ألا يؤذيك ما آذى رسولك صلى الله عليه وسلم!؟.
هذه بعض المشاعر، التي فاض بها قلبي لدى كل زيارة من الزيارتين للطائف.
لقد بحتُ بهذه المشاعر لبعض إخواني العرب، ولكنهم سكتوا، ولم يردوا عليها لا بـ"نعم" ولا بـ"لا ".. ولكنهم -كأنهم- كانت لديهم موافقة ما على هذه المشاعر إلى حد ما..، كما نطقت بذلك عيونهم.. أو أسفرت عنه قسمات وجوههم..!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- في (الثلاثاء: ٢٤ من جمادى الآخرة ١٤٤٤ھـ = ١٧ من كانون الثاني -يناير- ٢٠٢٣م)