العدد 135
(مؤتمر شاعر الإسلام محمد إقبال، في رحاب إيوان إقبال بمدينة لاهور، في الباكستان، بالتعاون بين المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية في باكستان، والجامعة الأشرفية، وحكومة البنجاب المحلية، في المدة من 29-30 تشرين الأول (أكتوبر) 2016م).
مقدمــة
أحاول في هذه الدراسة أن أعرض لفكرة التجديد والإصلاح التي أرادها محمد إقبال ودافع عنها، وعبّر عنها بـتجديد التفكير الديني في الإسلام، لمقاومة الفلسفات الإلحادية، والتي تمثل تفكيرًا ومنهجًا يقوم على النقد وإعادة البناء، وينتهي إلى دور الإسلام في توجيه حياة الإنسان، ولمواجهة الفكر الغربي المادي الإلحادي، ولإزالة الضعف العام عن المسلم المعاصر. وتنشد هذه الفكرة تأويل الوجود على أساس روحي، وتحرير روح الفرد، ووضع مبادئ إنسانية توجه تطور المجتمع الإنساني على أساس روحيته؛ أي التغيير في مفهوم الإنسان لعالم الطبيعة، وتحديد مبادئ عالمية لضمان التغيّر والتجدّد في المجتمع الإنساني، كل هذا يجري في الكون، ومن خلال سيطرة الإنسان على العلاقات بين وحداته: الإنسان، والوجود، والله. وإدراكه لظاهرتين أساسيتين: هما ظاهرة تغيّر العالم، وظاهرة حركة الإنسان. هذه الحركة التي جعلت الحياة متجددة باستمرار، هذا التجدد يبدأ في داخل نفس الإنسان في تفكيره ووجدانه ومشاعره، ثم يتحول إلى خارج النفس، فيكون عبارة عن تسخير في عالم الطبيعة بواسطة العلوم الطبيعية والصناعات، ويكون اجتهادًا في الواقع الاجتماعي وفي الأحكام، هذه الحركة وهذا التجدد في داخل النفس أو في الطبيعة أو في المجتمع هي من أصل واحد تعود إلى الله، وتسعى إلى بلوغ الروحانية الإلهية التي هي مصدرها ومقصدها.
الإسلام في نظر إقبال يمثل بحق وسيلة قوية تربط بين المسلمين أفراداً وجماعاتٍ، ويمثل المنبع الأول والمصدر الأصل لاستعادة المسلمين لقوتهم من جديد، والوصول إلى القوة التي صاروا بها أسيادًا وأصحاب حضارة ومنعة، ولم يخضعوا حينها لغير الله وحده، لذا على المسلمين أن يعتمدوا عليه في إيقاظ المسلم والثورة ضد الاستعمار، وفي تجمع قوى الشعوب الإسلامية على العمل من أجل تطهير كافة البلاد الإسلامية منه، وأن يقرّبوا في كيفية عرضهم للإسلام، وأن يقرّبوا بين تعاليمه وبين غايات الحياة القائمة، وأن يكشفوا القيّم الذاتية للإسلام كمصدر قوة في الحياة، فهو رسالة الإنسان في الحياة في العالم الواقعي.
لما كانت المحاولة الإصلاحية عند إقبال ضرورة لابد منها جاءت في الوقت المناسب، فإنها تمثل دراسة تقويمية للفكر الإسلامي القديم والحديث، ولظروف المسلم المعاصر وللحضارة الغربية الحديثة، لا لمبادئ الإسلام وتعاليمه وجوهره وروحه، فالإصلاح هنا يخص الفكر لا الدين ذاته، ولم تكن هذه المحاولة تخلو من إعادة البناء بعد عمليات الهدم، فكتاب "تجديد التفكير الديني في الإسلام" ينطوي على إستراتيجية النقد وإعادة البناء التي اختارها إقبال للانتقال بحياة المسلم من جوِّ الركود والانحطاط والضعف، إلى جوّ الحركة والتقدم والازدهار، وكانت هذه الإستراتيجية -وصاحبها جندي في معركة النهضة- صدرت من شخص تسلّح بالإيمان والقرآن، وحمل لواء الإصلاح والتجديد بعد أن اطّلع على تاريخ الفكر الإسلامي، وألمَّ بالفكر الغربي، وتعرّف على الحضارة الغربية ومنتجاتها، ودخل المعترك الحضاري والصراع الثقافي والفكري بين فكر ارتبط بالإيمان والإسلام والرياضة الدينية، وبين فكر غربي ارتبط بالواقع وحضارة غربية ذات أصول مادية مظاهرها ومنتجاتها برّاقة ومغرية. أي بين عالم أوربي متقدم علميًا وتكنولوجيًا يفرض أفكاره وقيّمه على الجميع وعالم متخلف -والعالم الإسلامي جزء منه- يريد أن يتحرر ويشارك في السيطرة على الكون.
مما سبق أن فلسفة إقبال في الإصلاح والتجديد، ومقاومة الفلسفات الإلحادية، يغلب عليها الطابع الروحي الفلسفي الميتافيزيقي الصوفي. ولقد جاءت فكرة الإصلاح عنده نتيجة واقع المسلمين المتردي، وتُشكّل محاولة فكرية لتغيير النفس والفكر والواقع في العالم الإسلامي، تميزت بالقوة لارتباطها بالإسلام وبالعلوم المزدهرة وبالفكر الإسلامي، وتشكل رؤية فلسفية إلى الإنسان والحياة والتاريخ والحضارة، وتمثل مشروع خطة وإستراتيجية ذات طابع فكري نظري، للنهضة وللتجديد ولبناء الحضارة، وللدخول إلى التاريخ، وإلى حلبة المعترك الحضاري، واحتلال أمة الإسلام مكانتها اللائقة بها في إطار الحوار والتفاعل الحضاريين .
وإذا كان الفكر الإصلاحي عند إقبال تميز بالقوة والمتانة نظرا لصلته المباشرة بواقع وحياة المسلمين في العالم الإسلامي المعاصر، ولتعبيره عن مشاكلهم وهمومهم، وعن آمالهم وتطلعاتهم، وبلوغه مستوى رفيع من الحقيقة في مناهجه وأساليبه لأنه أخذ بالدين والعلم وبالتاريخ، واستطاع أن يكفل التوازن بين طرفي الكمال، الروح والمادة، الدين والدولة، الدنيا والآخرة. ويمكن اعتبار فكره الوجه الاجتماعي العلمي والعملي الواقعي الخارجي(1).
دوافع محمد إقبال للإصلاح:
لقد انتبه إقبال في نهجه الإصلاحي إلى أمرين مهمّين: الأول هو ظروف المسلم المعاصر التي تتميز بالركود الفكري والانحطاط الاجتماعي والضعف والتخلف في وقت يملك فيه المسلمون عقيدة التوحيد وشريعة سمحة. كل من العقيدة والشريعة في الإسلام جعلت المسلمين الأوائل أصحاب حضارة ورقي وازدهار. والأمر الثاني هو كون الأوربي المعاصر شيّد حضارة راقية في منتجاتها المادية الجديدة والبرّاقة، وهي تغزو العالم الإسلامي حاملة فكراً في أسسه ومقوّماته مع مقومات وأسس الإسلام. فالغالب هو أوربا وما أنتجته من حضارة وفكر وعلم، والمغلوب هو المسلم المعاصر وما يحمله من فكر وضعف وانحطاط. وحسب ابن خلدون: "المغلوب دوما مولع بتقليد الغالب حتى في نمط اللّباس والجلوس وغيرها من المظاهر"(2).
دفع إقبال إلى التفكير في إصلاح بنية الفكر الإسلامي وتعديلها وتجديدها بمنهج يقوم على النقد وإعادة البناء في ظروف صارت السيادة فيها للحضارة الغربية وما أنجبته هذه الحضارة من فكر وضعي وعلم تجريبي ومنتجات مادية برّاقة دخلت كلها العالم الإسلامي، واستهوت عقول ونفوس العديد من المسلمين، وأثّرت الحضارة الغربية ومنتجاتها الفكرية والمادية في شخصية وفكر إقبال، بحيث يقول في ذلك ولفردك سميث: "إن ثلاثة أشياء تركت أثراً عظيمًا في نفسه بالنسبة إلى أوروبا، الحيوية والنشاط في الحياة الأوروبية، فالإمكانيات الضخمة المتوافرة، ثم الأثر الإنساني الذي تركه المجتمع الرأسمالي في نفس الإنسان الأوروبي"(3).
القرآن الكريم مصدر فلسفة إقبال الإصلاحية
بنى إقبال كل نظرة من نظراته لأيّ موضوع على أسس روحية يقررها القرآن، وأخرى علمية ومنطقية وتاريخية، ونظرته إلى الإنسان تقوم على هذه الأسس، فالإنسان جزء من العالم، خلقه الله ووهبه قوّة العقل وقوة الإرادة والعزيمة وقوة التوازن، واحتل أحسن موقع وأفضل مكانة في الوجود، لكن بتركيبته البشرية واختياراته الضالّة كثيرًا ما ألقى بنفسه في الهلاك، وصار في الدرك الأسفل في عالم الكائنات، والله خلق الإنسان في صورة سويّة وحسنة لا تُماثلها صورة أي مخلوق آخر في العالم وفضله على كافة المخلوقات: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾(4). لقد اختصَّ الله -عزَّ وجل- النَّوع الإنساني من بين خلقه بأنْ كرَّمه وفضَّلَه وشرَّفه، فللإنسان شأنٌ ليس لسائر المخلوقات، فقد خلَقَه البارئُ تعالى بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، إكرامًا واحترامًا، وإظهارًا لفضله، واتَّخذ -سبحانه- من هذا الإنسانِ الخليلَ والكليمَ، والولِيَّ والخواصَّ والأحبار، وجعله مَعْدِنَ أسراره، ومَحلَّ حكمته، وموضِعَ مثوبته(5).
وتعكس خلافة الإنسان في الأرض أسْمَى مراتب التَّكريم الإِلَهي، ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(6). ولِتَحقيق هذه الخلافة سخَّر الله -عزَّ وجل- للإنسان السَّماوات والأرض وما بينهما: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ* وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾(7). إنَّ تكريم الإنسان في القرآن هو تكريم لِذَاته الإنسانية:﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾(8)، وتكريمٌ لِدَوره في إعمار الأرض:﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾(9)، فهذا التَّكريم هو اسم جامعٌ لكلِّ الخَيْر والشَّرَف والفضائل. ومن إكرام الله للإنسان أنْ أوجَدَه بعدما لم يكن شيئًا مذكورًا، ولا يُعرف له أثر، قال عزَّ وجلَّ: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾(10). وزيادةً في تكريم الذَّات الإنسانية فإنَّ الإيمان بالله لا يكون وراثيًّا، كما لا يكون منَّةً ولا أمرًا مفروضًا, ولكن يكون بفِعْل إرادة فرديَّة حُرَّة، وهداية ربَّانيَّة نورانيَّة: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾(11)، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾(12)، ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾(13). وللتأكيد على الحُرِّية الإنسانيَّة التكريمية تَرِد في القرآن الكريم آياتٌ عديدة تُذَكِّر النبِيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بِحُدوده الدَّعَوية، ومن هذه الآيات: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾(14)، ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾(15)، ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾(16)، ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ*لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ* إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ﴾(17) .
لقد ألغى الشَّارع الحكيم أيَّ وساطة بين الله -عزَّ وجلَّ- وعبْدِه, هذه الوساطة التي تُفْسد التحنُّث والتعبُّد لله، والاعتقاد الجازِمَ به سبحانه, كاتِّخاذ كُفَّار مكَّة الأصنام واسطةً، وقولِهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾(18)، وقد تَحُول بين السَّائل ومُناجيه:﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾(19).
توصل إقبال إلى أن الأمة الإسلامية تنفرد بميزة لم تكن لأمة من قبل، وهي خصيصة الوسطية التي ورد وصف الأمة بها، فالتوازن هو السنة التي دونها يستحيل أن يكون هناك وجود حقيقي على مستوى الفرد، فالإنسان إذا اختلت التوازنات في ذاته وفي جسمه يشعر بمرض؛ كذلك الطبيعة والطقس والجو إذا اختلت فيها التوازنات يحدث الخلل، وإذا اختل التوازن في العلاقة بين الطبقات في المجتمع يحدث الصراع والدمار، وإذا اختل التوازن بين العلاقات الدولية تحدث الحروب والصراعات إذًا فكرة الوسطية فكرة عميقة وشاملة كما حددها الإسلام والرؤية الإسلامية(20).
لقد جاءت الحقوق الإنسانية في القرآن الكريم واضحة، فحقُّ المساواة في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(21). وحق الحياة في قوله تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾(22). وحق الملكيَّة في قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(23). وحق الحُرِّية في قوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(24). ويؤكد الإسلام على الحرية التامة للعقيدة، ويتضح ذلك وضوح الشمس في الظهيرة في قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾(25)، وقال تعالى: ﴿فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر﴾(26).
يصف المفكر"محمد البهي" محاولة "محمد إقبال" لإعادة بناء الفكر الإسلامي بقوله: "كان إقبال دقيقا عندما عبّر عن حركته الفكرية بإعادة بناء الفكر الديني في الإسلام دون التعبير بالإصلاح الديني لأن أيّة محاولة إنسانية تدور في محيط الإسلام، لا تتعلق بتعديل مبادئه، طالما أن مصدره هو القرآن له صفة الجزم والتأكيد والأبدية، وأيّة حركة "إصلاحية" في "الإسلام" بعد ذلك هي إذًا في دائرة الفكر الإسلامي حوله، وفي دائرة أفهام المسلمين لمبادئه، وأيّ تطور "للإسلام" يجب أن يكون بهذا المعنى في دائرة أفهام المسلمين وتفسيرهم لتعاليمه، وليس هناك تطور للإسلام نفسه... وإصلاح الفكر الديني في الإسلام يقوم -عند إقبال- على طلب تغيير الوضع الذي وصل إليه المسلم الآن، ووصلت إليه الجماعة الإسلامية وهو وضع الضعيف المتهيب الحياة النافر من الواقع... يقوم على مكافحة الهرب من الحياة، وعدم استطاعة لسيطرة على المادة أو الطبيعة(27).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) أسماء بوبكر جيلالي، الإصلاح والتجديد الحضاري لدى محمد إقبال ومالك بن نبي بين النظرة الصوفية والتفسير العلمي، مركز آفاق للدراسات والبحوث، 4-11-2012م.
(2) هذه الوضعية هي التي أنتجت فكرة الإصلاح عند إقبال، الذي يصف الوضع الذي آل إليه المسلم المعاصر وآلت إليه أحواله بقولـه: "إن المسلم القويّ الذي أنشأته الصحراء، وأحكمته رياحها الهوجاء أضعفته رياح "العجم"، فصار فيها كالناي نحولاً ونواحاً!! وإن الذي كان يذبح اللّيث كالشاة تهاب وطء النملة رجلاه!! والذي كان تكبيره يذيب الأحجار انقلب وجلا من صغير الأطيار!! والذي هزأ عزمه بشم الجبال، غل يديه ورجليه بأوهام "الاكتئاب"، والذي كان ضربه في رقاب الأعداء، صار يضرب صدره في اللأواء!! والذي نقشت قدمه على الأرض ثورة، كسرت رجلاه عكوفا في الخلوة!! والذي كان يمضي على الدهر حكمه، ويقف الملوك على بابه، رضي من السعي بالقنوع، ولذّ له الاستجداء والخشوع. انظر: محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث، ص425. نقلاً عن الدكتور عبد الوهاب عزام محمد، إقبال سيره وفلسفته وشعره، ص1000.
(3) كان الأثر اللاإنساني الذي أفرزته الرأسمالية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تأثيره الكبير على إقبال، ويقول في ذلك ماجد فخري: "وقد قوّى الاعتبار الأخير إيمانه بتفوق الإسلام كمثال خلقي وروحي، فوقف حياته على الدفاع عن هذا المثال وعلى تطويره، وكانت المحاضرات الست التي ألقاها في "مدراس" سنة 1928- 1929م، إسهام كبير في مهمة إيقاظ أبناء دينه في الهند وإعادة النظر في الإسلام بمفاهيم معاصرة وحيّة، مستمدة بالدرجة الأولى من حصيلة الفكر الأوروبي في القرن التاسع وأوائل القرن العشرين. انظر: ماجد فخري، تاريخ الفلسفة الإسلامية، ص478.
(4) سورة الإسراء، الآية 70.
(5) محمد عبدالرحمن عريف، المَقَاصد القُرآَنِيّةَ في تنشئة الشَخصِيّةِ الإِنسَانِيّة وتَنمِيّتهَا (حَق الحُريّةَ والكَرَامَةِ الِإنسَانِيّةَ نَمُوذَجًا)، بحث مقدم لمؤتمر: (موقع الدين في شخصيّةِ الإنسان)، جامعة أوردو كلية الإلهيات، أوردو، تركيا، في الفترة من) :10-12 -حزيران/يونيه 2016م)، ص12.
(6) سورة البقرة، الآية 30.
(7) سورة إبراهيم، الآية 32-34.
(8) سورة التغابن، الآية 3.
(9) سورة هود، الآية 61.
(10) سورة الإنسان، الآية 1.
(11) سورة الكهف، الآية26.
(12) سورة البقرة، الآية 256.
(13) سورة النور، الآية 35.
(14) سورة النساء، الآية 80.
(15) سورة الأنعام، الآية 104.
(16) سورة الزمر، الآية 41.
(17) سورة الغاشية، الآية 21-23.
(18) سورة الزمر، الآية 3.
(19) سورة البقرة، الآية 186.
(20) محمد بن أحمد الصالح، وسطية الإسلام وسماحته ودعوته للحوار، السكينة، 11 فبراير, 2011م.
(21) سورة الحجرات، الآية 13.
(22) سورة المائدة، الآية 32.
(23) سورة المائدة، الآية 38.
(24) سورة المائدة، الآية 33.
(25) سورة البقرة، الآية 256.
(26) سورة الكهف الآية 29.
(27) محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص434-435.