مقاومة إقبال للفلسفة الإلحادية
صحا المسلمون على المدنيَّة الغربية، وقد ملأت أسماعَ الدنيا بمظاهرها وزينتها وزخرفها، فانخدعوا بها، وامتلأتْ أفئدتُهم الخالية بها، وقد تولَّى محمد إقبال كشفَ زيفها، وإظهارها بغير ملابسها البرَّاقة، وهو الذي عرفها عن كَثَب، وسَبَر غورَها، ورأى جوانب ضعفها، وبوادر إفلاسها، وطلائع الانبهار في المجتمع الغربي عمومًا، ولا أدري هل سبَق إقبال مفكِّري الغرب(1)، وعلماء الاجتماع والحضارة فيه، بالتنبؤ بسقوط هذه الحضارة العرجاء -كما وُصِفت- لأنها تسير على رجل واحدة، وهي المادة، ونسيت رُوحَها وإنسانيَّتَها.
كما أسلفنا فقد استمد إقبال فلسفة الإصلاحية من الوحي الإلهي القرآن (كمصدر للتوجيه)، ومن نقد الفكر الإنساني والإسلامي ودراسة تاريخهما، ونقد ظروف المجتمع الأوربي وحضارته وعلومه وأفكاره، ونقد ظروف العالم الإسلامي وتخلّفه وانحطاطه. والنقد لا يعني الرفض وإلغاء الآخر، بل تكشّف ما في الفكر الإنساني والحضارة الغربية الحديثة من قيّم وثوابت يجب مراعاتها، وما فيها من تجاوزات من شأنها تجعل النظرة قاصرة، والتحليل ناقص، ولا تنسجم مع طبيعة الإنسان والوجود والحياة التي ترد إلى حقيقة واحدة، وأصل واحد؛ هذه الحقيقة وهذا الأصل روحيان، وغياب الانسجام بين الفكر وطبيعة الحياة المتميزة بالحركة والتغير يؤدي إلى اختلال الموازين، ولا يتحقق مبتغى الدين ومقصده، وهو بلوغ الروحانية والسمو الروحي في الفكر والسلوك والحياة عامة، من خلال سيطرة الإنسان على العلاقات بين وحدات الكون وضمان التوازن بينهما.
إنّ محاولة إقبال الفكرية الفلسفية تستهدف تقدم الإسلام باعتباره رسالة إلى الإنسانية جمعاء، وعلى الأخص للمسلم، في وقت سيطر فيه الطابع التجريبي المادي على المعرفة الإنسانية، فهي فلسفة تسعى إلى كشف قيمة الإسلام وقيّمه الذاتية عند الإنسان التجريبي، وهو الإنسان الغربي والإنسان المسلم، وإذا كان المذهب الوضعي التجريبي مكّن صاحبه من السيطرة على قوى الطبيعة، فإنه قد سلبه مصيره وروحانيته، وجعله أسير صراع مع نفسه ومع غيره في الحياة الاقتصادية والسياسية، يجد نفسه عاجزًا عن الاتصال بأعماق وجوده، فهو إن كان عقليًا أو تجريبيًا أو اشتراكيًا ماركسيًا يعيش في اضطراب وتوتر إما مع ذاته أو مع غيره.
إن الطابع العقلي للفكر الغربي الحديث عاجز عن إشعال جذوة الإيمان الصادق، تلك الجذوة التي لا يستطيع أن يشعلها إلا الدين، فالدين استطاع دوما أن ينهض بالأفراد، ويغير الجماعات ويحوّلها من حالة إلى أخرى، و"مثالية أوروبا لم تكن أبدا من العوامل الحيّة المؤثرة في وجودها، ولهذا أنتجت ذاتا ضالّة أخذت تبحث عن نفسها بين ديمقراطيات لا تعرف التسامح، وكل همّها استغلال الفقير لصالح الغني، وأن أوروبا اليوم هي أكبر عائق في سبيل الرقي الأخلاقي للإنسـان(2).
يختلف الفكر الإسلامي عن الفكر الغربي وعن مثالية أوروبا في أن المسلم له آراء وفهوم للحياة وللوجود انطلاقًا من أعماق هذه الحياة وهذا الوجود وهي فهوم مرتبطة بأعماق النفس، والأساس الروحي للحياة لدى المسلمين هو إيمان يمثل مقصد ومبتغى الدين، تُستغل الحياة كلها في سبيله. ويقوم الإسلام على مبدأ ختم الرسالة الإلهية وعلى مبدأ الاجتهاد في الأحكام، وهما مبدآن يجعلان أهل الإسلام أكثر شعوب المعمورة في الديمقراطية الروحانية والحرية، بعيدا عن الرق الروحي وما ينتج عنه من رق حيواني اجتماعي وسياسي واقتصادي(3).
تلك الديمقراطية الروحية لا تتكشف للإنسان المعاصر إلا إذا أعاد النظر في ذاته وتفكيره ومحيطه والعالم، وأعاد بناء تفكيره وحياته الاجتماعية ضمن إستراتيجية تقوم في أساسها على الحياة الروحية، وترتبط بالقيّم الدينية، وتستفيد من التراث الفكري الإنساني والإسلامي، ومن الفكر الغربي الحديث والحضارة الأوروبية المعاصرة، فالتغيير صار ضرورة ملحّة في وضعيته وفي حياته الحاضرة، لأن العالم صار في حاجة ماسة إلى تجديد نفساني ووجداني، والدين ليس مجرد عقيدة فحسب، بل هو الوحيد الذي يقدر على تكوين الإنسان تكوينا خلقيا وسيكولوجيا يؤهله لتحمل المسؤولية الكبرى، ويمكّنه من بلوغ السمو إلى مستوى جديد في فهم الكون والتحرّر وامتلاك مبادئ وأسس علمية تسمح بالتحضر وتوجيه تطور المجتمع البشري(4).
تقوم فكرة الإصلاح والتجديد في فكر إقبال وفلسفته على إعادة النظر إلى الذات وتغيير مفهوم عالمها وإعادة بنائها انطلاقا من تعاليم الإسلام وقيّمه الذاتية، ومن وضعية المسلم وظروفه الراهنة، وعلى تغيير مفهوم الواقع الطبيعي والاجتماعي على أساس أن الطبيعة ميدان لحركة الإنسان وسعيه ومعرفته، وبالتالي إزالة ما لديه من تصور عن كون عالم الطبيعة شرّا ومخيفا، وعلى مبدأ الحركة في الإسلام الذي يقوم على شرح المبادئ الإسلامية، كمبدأ التوحيد من حيث هو تنفيذ لفكرة المساواة وفكرة الحرية وفكرة الاتحاد، وكمبدأ ختم الرسالات ومبدأ الاجتهاد وغيرها. إن التغيير أو الإصلاح بهذا المعنى هو الذي يميّز بين المذهب المادي الغربي الذي يسيطر على الطبيعة لكنه عرف الحقيقة في جزء منها فقط، وبين التفكير الإسلامي الذي يصل إلى معرفة الحقيقة المطلقة من خلال التجارب الإنسانية الواقعية والدينية والتاريخية باعتبار مصادر المعرفة ثلاثة: الواقع والدين والتاريخ. وأنّ إعادة بناء الذات والفكر يقوم أساسًا وابتداء على تغيير ما بداخل الذات، وهو أمر يقرره القرآن في الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾(5).
إذا كانت النصرانية في نظر إقبال اهتمت في أول عهدها بالبحث عن مستقر للحياة الروحية، هذه الحياة لا تسمو عن طريق إمكانات العالم الخارجي وقواه، "وإنّما يتجلى عالم جديد في داخل النفس ذاتها، والإسلام يقرّ هذه النظرة تمامًا ويكملها بنظرة أخرى هي أن النور الذي يضيء هذا العالم الجديد المتجلّي على هذا النحو ليس غريبا عن عالم المادة، بل هو متغلغل في أعماقه".(6)، وتكون تزكية النفس بالعمل وحده، لأن الحياة تضع النفس في ميدان العمل، ولا يوجد من الأعمال ما يجلب اللّذة ولا منها ما يورث الألم، بل هناك أعمال تضمن للنفس الخلود والبقاء، وأخرى تضمن لها الفناء والزوال، فالعمل هو الذي يعدُّ النفس للزوال أو يهيئها لحياة حرّة مستقلة، "ومبدأ العمل الذي يكتب للنفس البقاء هو احترامي للنفس فيَّ وفي غيري من الناس"(7). والخلود لا يتحقق بكونه حقّا نناله، إنما يبلغه الإنسان بما يبذله من جهد شخصي، والإنسان هو المخلوق الوحيد المرشح لذلك. وبما أن النفس خالدة، فعملها دائم وحركتها مستمرة لا تعرف التوقف ولا الانقطاع، وهي جزء من العالم، والعالم بجميع جزئياته يعود في حركته إلى الله، "على أن هناك درجات في تجلّي الروحية أو الذاتية، وتجليّ هذه الروحية يرتقي في سلّم الوجود درجة درجة إلى أن يبلغ كماله في الإنسان، وهذا السرّ في تصريح القرآن أن الله أو الذات القصوى أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد"(8).
إنّ العالم في نظر إقبال ليس جامدًا ثابتًا وليس خلقًا مكتملًا، فهو قابل للزيادة والنّماء، وهذا التغيّر في العالم يجعل الإنسان يسعى إلى ضمان التلاؤم بين ذاته وبين مستلزمات هذا التغيّر ويدفعه لاستعمال ما لديه من قوّة التغلّب على الصعوبات. وامتداد الكون في الزمان والمكان، يحمل في طياته الأمل في أن الإنسان الذي يجب عليه أن يتفكّر في آيات الله سيتم غلبته على الطبيعة بالكشف عن الوسائل التي تجعل هذه الغلبة حقيقة واقعة(9). "والغلبة تكون عن طريق تسخير قوى الطبيعة لخدمة أغراضه ومطالبه. ويتضح هذا في قول إقبال: "والإنسان إذا استهوته القوى التي تحيط به فإنه يقدر على تكييفها وتوجيهها حيث شاء، أما إذا غلبته على أمره فإنه قادر على أن ينشئ في أعماق نفسه عالمًا أكبر يجد فيه منابع من السعادة والإلهام لا حد لهما ولا نهاية، ولهذا فإن الإنسان في صميم كيانه كما صوّره القرآن قوّة مبدعة وروح متصاعدة تسمو في سيرها قدما من حالة وجودية إلى حالة أخرى"(10). ويضيف إقبال: "لقد قدّر على الإنسان أن يشارك في أعمق رغبات العالم الذي يحيط به، وأن يكيّف مصير نفسه ومصير العالم كذلك، تارة بتهيئة نفسه لقوى الكـون وتـارة أخرى ببذل ما في وسعه لتسخير هذه القوى لأغراضه ومراميه"(11).
لقد دعا الإسلام إلى تأمل الطبيعة ليبعث في النفس الإنسانية الشعور بالذات الكلية التي تُعدّ الطبيعة آية عليه. "والاتجاه التجريبي للقرآن" شكّل في أصحابه شعورا بأهمية الواقع وقدْره، فاستطاعوا أن يصنعوا أسس العلم الحديث. إنّ التطور الحاصل في العالم يجعل حياة الإنسان تنبني بصورة جديدة، والجهد العقلي المبذول لتجاوز عقبات العالم يمكن الإنسان من التعمق في جزئيات التجربة الإنسانية، ويجد في آفاق الحياة وتجريدها ثراء وخصوبة، واتصال العقل بعالم الأشياء الحادثة هو الذي يدرب على النظر العقلي فيما هو مجرد. "والقرآن يُبصّرنا بحقيقة التغيير العظيمة التي لا تتسنى لنا بغير تقديرها والسيطرة عليها حضارة قوية الدعائم. ولقد أخفقت ثقافات آسيا بل ثقافات العالم القديم كله لأنها تناولت الحقيقة بالنظر العقلي، ثم اتجهت منه إلى العالم الخارجي، فأمدّها هذا المسلك بالتفكير النظري المجرد من القوة، وليس من الممكن أن تُقام على النظر العقلي المجرد وحدة حضارة يُكتب لها البقاء"(12).
فالتغيير عند إقبال يبدأ في داخل النفس الإنسانية، لأن الإيمان ليس مجرد شعور، فهو يماثل رضا النفس وقبولها واطمئنانها عن دراية وعلم وإدراك. ولأن الدين باعتباره عقيدة فهو جملة من الحقائق العامة لها تأثير في توجيه الخُلق وتكييفه. "وإذا كانت غاية الدين وهدفه الأسمى تكييف الإنسان وهدايته في تدبيره لنفسه وفي صلاته بغيره، أصبح من الجلي أن الحقائق التي يشمل عليها الدين ينبغي ألَّا تبقى غير مقررة، فما أحد من الناس يغامر بالإقدام على عمل ما على أساس مبدأ خلقي مشكوك في قيمته"(13). فالتغيّر ميزة الكون والواقع تدل هذه الميزة على الأصل الروحي الأول لكل حياة، والإنسان مطالب بتغيير ذاته ووجوده الاجتماعي، ولكي يوفق الإنسان بين درجات التغير والدوام ينبغي أن تكون له مبادئ أبدية تنظم حياته الجماعية وتوجه أمورها، فالأبدي الخالد يثّبت وجود الإنسان في عالم التغيّر المستمر. "ولكنّا إذا فهمنا أن المبادئ الأبدية تستبعد كل إمكان للتغيّر وهو في نظر القرآن آية من الآيات الكبرى على الذات الإلهية؛ فإن هذا الفهم يجعلها تنزع إلى تثبيت ما هو أساسيا متغيّر في طبيعته وإخفاق أوروبا في علم السياسة وعلم الاجتماع يوضح المبدأ الأول، وركود الإسلام في القرون الخمسة الأخيرة يوضح المبدأ الثاني"(14).
فالإسلام لا يكون خصيمًا لفكرة التطور، هذا التطور ليس تغيرًا بحتًا بل فيه عناصر تنزع للمحافظة على القديم، "فالإنسان في الوقت الذي يستمتع فيه بنشاطه الخلَّاق، ويركز جهوده باستمرار في كشف مسالك للحياة جديدة، يحس بالقلق عندما ينكشف له ما في ذات نفسه، ولا مفرّ له في خطوة إلى الأمام من أن يرجع البصر إلى ماضيه، وهو يواجه نماءه الروحي في شيء من الخوف، وروح الإنسان يعوقها في سيرها قدمًا قوى يظهر أنها تعمل في الاتجاه المضاد، وما هذا إلا ضرب من القول بأن الحياة تتحرك، وهي تحمل على عاتقها أثقال ماضيها، وأنه في أي تغيّر اجتماعي لا يمكن أن يغيب عن النظر ما لقوى التمسك بالقديم من قيمة وعمل"(15).
التجديد في نظر إقبال يصدر دوما من الحق اللَّامتناهي، مما يجعل تلقي الإنسان إيجابيًا فيبدع ويجدد. ويقول إقبال: "فالحياة واحدة ومتصلة والإنسان يسير دائما قدما فيتلقى على الدوام نورًا جديدًا من الحق غير المتناهي الذي هو (كل يوم هو في شأن)، ومن يتلقى نور الهداية الربانية ليس متلقيًا سلبيًا فحسب لأن كل فعل لنفس حرة يخلف موقفًا جديدًا، وبذلك ينتج فرصًا جديدة تتجلى فيها قدرته على الإيجاد"(16). وعملية التجديد والإصلاح ليست من نصيب المسلم المعاصر في ظل الظروف القائمة، بل تشترط تحرير الفكر، مع اتخاذ الحذر والحيطة، لأن حرية الفكر قد تؤدي إلى الانحلال. إن فكرة القومية العرقية التي تأثر بها المسلمون في العصر الحديث قضت على النظرة الإسلامية الشاملة العامة التي أروت نفوس المسلمين، وزعماء الإصلاح في الدين والسياسة يأخذهم حماسهم خارج الحدود الصحيحة للإصلاح والتجديد إذا غاب ما يوقف جماح "حميتهم الفتيّـة".
وأما أن إقبالاً أول من نقَد الحضارة الغربية من العلماء المسلمين، فهذا أمر لا ريب فيه.
يقول الشيح أبو الحسن الندوي: "لقد كان في مقدِّمة هؤلاء الناقدين الثائرين محمد إقبال، الذي يُعتبَر بحق أنبغ عقل أنتجتْه الثقافة الجديدة، والتي ظلَّت تَشتغِل وتُنتِج في العالم الإسلامي من قرن كامل، وأعمق مُفكِّر أوجده الشرق في عصرنا الحاضر، ولم نرَ من نوابغ الشرق وأذكيائه -على كثرة من لهم اتصال بالغرب والدراسة هناك- أحدًا نظَر في الحضارة الغربية هذا النظر العميق، وانتقدها هذا الانتقاد الجريء(17). "فإقبال يُقرِّر أولاً أن الحضارة الغربية حضارة لا دينيَّة، تقضي على الإيمان والرُّوح والحب والإنسانية، يقول في ديوانه "ماذا ينبغي أن نعمل يا أمم الشرق؟:"
"ولكن إياك والحضارةَ اللاتينية، التي هي صراع دائم مع أهل الحق، إن هذه الفتنة تجلِب فتنًا، وتُعيد اللات والعزى إلى الحَرَمِ، إن القلب يعمى بتأثير سِحرها، وإن الروح تموت عطشًا في سرابها، إنها تقضي على لوعةِ القلب، بل تَنزِع القلب من الجسم، إنها لص قد تمرَّن على اللصوصية، فيَغير نهارًا جهارًا، وإنها تدع الإنسان لا روح فيه ولا قيمة له"(18). ويقول: "إن شعار الحضارة الحديث الفتك ببني آدم، الذي تقوم عليه تجارتُها، وتنفق سلعتها، ليست هذه المصارف العظيمة إلا وليدة دهاء اليهود الأذكياء الذي انتزع نور الحق من صدور بني آدم، إن العقل والحضارة والدين حُلْم من الأحلام ما لم يَعُد هذا النظام رأسًا على عَقِب"(19). ويقول أيضًا: "إن المدنيَّة التي تتحكَّم فيها الآلات، وتُسيطر فيها الصناعة، تموت فيها القلوب، ويُقتَل فيها الحنان والوفاء، والمعاني الإنسانية الكريمة". ويُكرِّر هذه المعاني في ديوانه "ضرب الكليم"، ويُبيِّن أن الحضارة الغربية خلَت من الروح والجمال والذوق والعفة، فيقول:
أرى تثقيفَ إفرنجٍ ** فسادَ القلب والنظرِ
فرُوح حضارة لهمُ ** خلَتْ من عفَّة الوطرِ
إذا ما الروح جانَبَها ** جمال الصفو والطُّهرِ
فأين جمالُ وِجدانٍ ** ولُطْف الذوق والفِكْرِ(20).
لهذا لا يُمكِن الثقة بهذه الحضارة، ولا هذه المدنيَّة، وليس فيها خير لنفسها، فكيف يكون فيها خير لغيرها؟! وهي تُقابِل الإحسان بالإساءة والخير بالشر، يقول إقبال في ديوانه (ضرب الكليم)(21).
أهدتِ الشامُ إلى الغرب نبيًّا ** هو عفٌّ ومواسٍ وصبورْ
ومن الغرب إلى الشام هدايا ** من قمارٍ ونساء وخمورْ
وأتْبَع إقبال نقدَه للحضارة الغربية نقدَه لدعاة التغريب، وإن سمَّوا أنفسَهم دعاة التجديد، الذين يُنادون بتقليد الحضارة الغربية بخيرها وشرها، وحُلوها ومرها، يقول إقبال في ديوانه ضرب الكليم: "إنني يائس من زعماء التجديد في الشرق، فقد حضروا في نادي الشرق بأكواب فارغة، وبضاعة مزجاة في العلم والفِكر. والبحث عن بريق جديد في هذا السحاب عبْثٌ وإضاعة وقت، فقد تجرَّد هذا السحاب عن البرق القديم فضلاً عن البرق الجديد".
يُسيء إقبال الظنَّ بدعاة التجديد، ويكشف سَترَهم بأن هذا التجديد ما هو إلا حيلة لتقليد الغرب، ويدعو المسلم إلى الاعتزاز بشخصيَّته وكِيانه، يقول إقبال: "إن الذي يأتي بالجديد في هذا العالم الذي يتجدَّد دائمًا، هو نقطة الدائرة التي يطوف حولها الزمان، لا تُعطِّل شخصيتَك أيها المسلم بالتقليد الأعمى، واحتفظ بكرامتك، فإنها الجوهر الفَرْد. إن التجديد بمعنى التغريب لا يَليق بأمة لا تُفكِّر إلا في الدَّعة والترف. إنني أخاف أن تكون الدعوة إلى التجديد إنما هي حيلة وانتهاز لفرصة تقليد الغرب"(22). وإقبال في ديوان "ضرب الكليم" يؤكِّد أن الحضارة التي تسير نحو الموت لا يمكن أن تحيي العربَ الذين فُتِنوا بها، وعَميتْ عن رؤية الحقيقة، يقول:
كيف تُجْلى حقائقٌ لعيونٍ ** عَميتْ بالخضوعِ والتقليدِ
كيف يُحيي الفرنج عربًا وفرسًا ** بفنونٍ تسيرُ نحو اللحودِ.
ومما انتقده إقبال، الفلسفة اليونانية، على أنها كانت قوة فكرية وثقافية عظيمة في تاريخ الإسلام، وسّعت آفاق النظر العقلي عند مفكري الإسلام لكنها لم تسمح لهم بفهم الإسلام، وذلك لأن "سقراط" ركز في فلسفته على الإنسان وحده وأهمل العوالم الأخرى، وهذا يخالف روح القرآن. وأفلاطون الذي قلّل من قيمة الإدراك الحسي لأنه يفيد الظن ولا يفيد اليقين، وهذا بعيد عـن تعالـم القرآن، "وقد فات هذا الأمر المتقدمين من علماء الإسلام الذين عكفوا على درس القرآن بعد أن بهرهم النظر العقلي القديم، فقرؤوا الكتاب على ضوء الفكر اليوناني، ومضى عليهم أكثر من قرنين من الزمان قبل أن يتبين لهم في وضوح غير كاف أن روح القرآن تتعارض في جوهرها مع تعاليم الفلسفة القديمة. وقد نجم عن إدراكهم هذا نوع من الثورة الفكرية لم يُدّرك أثرها الكامل إلى يومنا هذا"(23).
يعتبر إقبال المسيحية البدائية باعتبارها لونًا من الإيمان والتفكير لم تستطع بناء وحدة سياسية ومدنية، بل كانت نزعة رهبانية في عالم غير طهور، لاتهامها أمور الدنيا، فأنتج ذلك الخصومة الحادّة بين الدولة والكنيسة. وذلك لا يكون في الإسلام لأن الإسلام كوّن مجتمعًا سياسيًا ومدنيًا منذ الأول. ويؤكد إقبال ذلك من خلال نقده للمسيحية فيقول: "ولا شك في أن المسيحية عندما رسمت مثلا أعلى لحياة أخرى نجحت في تهذيب الحياة وطبعها بالطابع الروحي، ولكنها قصرت هَمّها على حياة الفرد، فأصبحت عاجزة عن إدراك ما للعلاقات الإنسانية الاجتماعية المتشابكة من قيمة روحية"(24). ويستشهد على ذلك بقول "ناومان" "Naumann" في كتابه "بحوث الدين": "إن المسيحية البدائية لم تجعل قيمة ما لحفظ كيان الدولة، ولم تحفل بالتشريع والتنظيم والإنتاج، بل إنها لم تفكر في أحوال المجتمع الإنساني قط... ومن ثم فإما أن نتجه إلى أن نكون من غير حكومة فنلقي بأنفسنا بين براثين الفوضى متعمدين، وإما أن نقرر أن تكون لنا عقيدة سياسية إلى جانب عقيدتنا الدينية"(25).
لقد انتقد إقبال الفكر الفلسفي الإسلامي في كبريات قضاياه، وفي اتجاهاته الكبرى، وعند رواده أمثال "الأشاعرة" و"المعتزلة" و"أبي حامد الغزالي" و"ابن رشد" وغيرهم، فالشك الفلسفي في محاولة "الغزالي" لتأسيس الدين على دعامة أمر يتعارض مع روح الدين وتعاليم القرآن، ودفاع "ابن رشد" عن الفلسفة متأثر "بأرسطو" صاحب مذهب خلود العقل الفعّال، يتعارض هو الآخر مع نظرة القرآن إلى قيمة النفس الإنسانية وإلى مصيرها، "بهذا غابت عن ابن رشد فكرة إسلامية مثمرة عظيمة وساعد عن غير قصد على نمو فلسفة للحياة تورث الضعف، وتغشى على بصر الإنسان عند نظره إلى نفسه وإلى ربه وإلى دنياه"(26). ويقول محمد إقبال في فرقتي "الأشاعرة والمعتزلة": "وليس من شك أن البناة من مفكري الأشاعرة كانوا على طريق الصواب، وقد سبقوا الفلسفة المثالية إلى قدر من أحدث آرائها، وإن كانت حركة الأشاعرة في جملتها لا غاية لها إلا الدفاع عن رأي أهل السنة بأسلحة من المنطق اليوناني…، أما المعتزلة -وقد قصروا إدراكهم للدّين على أنه مجموعة من العقائد متجاهلين أنه حقيقة حيوية- فلم يحفلوا بأساليب إدراك الحقيقة إذا كانت لا تقبل التصور، وأرجعوا الدين إلى نسق من المعاني المنطقية، انتهى إلى موقف سلبي بحت، وغاب عنهم أنه في ميدان المعرفة -علمية كانت أو دينية- لا يمكن للفكر أن يستقل تمام الاستقلال عن الواقع المتحقق فـي عالـم التجربـة"(27). ويؤكد إقبال على أن ماضي الفكر الإسلامي التشريعي قد خلا تمامًا من النقد والتمحيص، ويوافق أحد المجددين في رأيه بأنه إن "لم نستطع إضافة الجديد إلى التفكير الإسلامي العام فقد نوفق -عن طريق النقد المحافظ السديد- في كبح جماح حركة التحلل من الدين التي تنتشر بسرعة في الدين الإسلامي"(28).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) فهمي قطب الدين النجار، محمد إقبال والمدنيَّة الغربية والفلسفات الإلحادية، شبكة الألوكة، 20/11/2013م، 16/1/1435هـ. http://www.alukah.net/culture/0/62872/
(2) محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص207.
(3) يطلب إقبال من المسلم اليوم أن يقدّر موقفه، وأن يعيد بناء حياته الاجتماعية على ضوء المبادئ النهائية، وأن يستنبط من أهداف الإسلام، التي لم تتكشف بعد إلا تكشفا جزئيا تلك الديمقراطية الروحية التي هي منتهى غاية الإسلام ومقصده. انظر: المرجع السابق، ص108.
(4) وفي هذا يقول "محمد إقبال": "إن السمو إلى مستوى جديد في فهم الإنسان لأصله ولمستقبله من أين جاء؟ وإلى أين المصير؟.. هو وحده الذي يكفل له آخر الأمر الفوز على مجتمع يحركه تنافس وحشي وعلى حضارة فقدت وحدتها الروحية بما انطوت عليه من صراع بين القيّم الدينية والسياسية، والدين كما بيّنت من قبل من حيث هو سعي المرء سعيا مقصودا للوصول إلى الغاية النهائية للقيّم، فيمكنه بذلك أن يعيد تفسير قوى شخصيته هو حقيقة لا يمكن إنكارها. انظر: المرجع السابق، ص217.
(5) سورة الرعد، الآية 11.
(6) محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص16.
(7) المرجع السابق، ص137.
(8) المرجع السابق، ص28.
(9) المرجع السابق، ص18.
(10) المرجع السابق، ص18.
(11) المرجع السابق، ص19.
(12) المرجع السابق، ص22.
(13) المرجع السابق، ص60.
(14) المرجع السابق، ص170.
(15) المرجع السابق، ص191.
(16) المرجع السابق، ص141.
(17) روائع إقبال للندوي، ص38.
(18) المرجع السابق، ص69.
(19) المرجع السابق، ص70.
(20) ضرب الكليم، ص50.
(21) ضرب الكليم لعزام، ص107، وانظر أيضًا: روائع إقبال، للندوي، ص74.
(22) ضرب الكليم، لعزام، ص49.
(23) محمد إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص12.
(24) المرجع السابق، ص190-191.
(25) المرجع السابق، ص191.
(26) المرجع السابق، ص9-10.
(27) المرجع السابق، ص10.
(28) المرجع السابق، ص176.