الجهود الإصلاحية والتجديد الفكري في أدب محمد إقبال ومقاومة الفلسفات الإلحادية (3/3)
كتب  د.محمد عبدالرحمن عريف ▪ بتاريخ 19/04/2023 11:49 ▪ تعليقات (0) ▪ طباعة  أرسل لصديق  أرسل لصديق 

العدد 135

 

  ينتقد إقبال التفكير الديني في الإسلام، ويعيب عليه ركوده خلال القرون الخمسة الأخيرة، كما يعيب على المسلمين نزوعهم الروحي نحو الغرب، ويذكر ما قد ينجر عن هذا النزوع وهذا الانهيار، فيقول: "فإن أبرز ظاهرة في التاريخ الحديث هي السرعة الكبيرة التي ينزح بها المسلمون في حياتهم الروحية نحو الغرب. ولا غبار على هذا المنزع فإن الثقافة الأوربية في جانبها العقلي ليست إلا ازدهارا لبعض الجوانب الهامة في ثقافة الإسلام. وكل الذي نخشاه هو أن المظهر الخارجي البرّاق للثقافة الأوربية قد يشلّ تقدمنا، فنعجز عن بلوغ كنهها وحقيقتها"(1). ويذكر إقبال للأفغاني دقة بصره لتاريخ الفكر والحياة في الإسلام، وسعة خبرته بالرجال والأحوال، ربط بين الماضي والحاضر، ولو اقتصر نشاطه على الإسلام كونه عقيدة وخلقاً وأسلوباً في الحياة لكان العالم الإسلامي قويًّا من الناحيةِ العقليةِ فيأخذ المعرفة العصرية، ويقدم تعاليم الإسلام في ضوء هذه المعرفة. ويشير إقبال بما يتطلع إليه شباب المسلمين في آسيا وفي أفريقيا وما يريدونه من توجيه جديد بعقيدتهم، وهم يواجهون الفكر الأوروبي، "ولهذا لا بد من أن يصاحب يقظة الإسلام تمحيص بروح مستقلة لنتائج الفكر الأوروبي، وكشف عن المدى الذي تستطيع به النتائج التي وصلت إليها أوروبا أن تعيننا به في إعادة النظر في التفكير الديني في الإسلام، وعلى بنائه من جديد إذا لزم الأمر، أضف إلى هذا أنه لا سبيل إلى تجاهل الدعوة القائمة في أواسط آسيا ضد الدين على وجه عام، وضد الإسلام على وجه خاص - تلك الدعوة التي عبرت حدود الهند بالفعل، وبعض دعاة هذه الدعوة من أبناء المسلمين"(2).

 أمام الوضع المتردي الذي آل إليه المسلم المعاصر وأمام حضارة أوروبا التي فقدت وحدتها وتماسكها، يرى إقبال أن التجديد أصبح أكثر من ضرورة على الرغم ما يحتويه الفكر الإسلامي من سعة وعمق وترسُّخ في العالم الإسلامي، ينبغي على هذا العالم "أن يُقدم في شجاعة على إتمام التجديد الذي ينتظره، على أن لهذا التجديد ناحية أعظم شأنًا من مجرد الملاءمة مع أوضاع الحياة العصرية وأحوالها، فإن "الحرب العالمية الكبرى الأولى" بما خلّفته نهضة تركيا، التي وصفها حديثًا كاتب فرنسي بأنها عنصر الاستقرار في عالم الإسلام، والتجربة الاقتصادية الجديدة التي تُجرّب على مقربة من آسيا الإسلامية يجب أن تفتح أعيننا على ما ينطوي عليه الإسلام من معنى وعلى مصيره، إنّ الإنسانية تحتاج اليوم إلى ثلاثة أمور: تأويل الكون تأويلاً روحيًا، وتحرير روح الفرد، ووضع مبادئ أساسية ذات أهمية عالمية توجه تطور المجتمع الإنساني على أساس روحي"(3).

 إذا كان الإسلام يتمتع بمثالية لا ترفض الواقعية بل تطلبها وتعيش معها، فإن أوروبا في العصر الحديث قد عرفت نظمًا فكرية وفلسفية مثالية، "لكن التجربة بيّنت أن الحقيقة التي يكشفها العقل المحض لا قدرة لها على إشعال جذوة الإيمان القوي الصادق، تلك الجذوة التي يستطيع الدين وحده أن يُشعلها، وهذا هو السبب في أن التفكير المجرد لم يؤثر في الناس إلا قليلا في حين أن الدين استطاع دائمًا أن ينهض بالأفراد ويبدل الجماعات بقضها وقضيضها وينقلهم من حال إلى حال"(4).

ينتقد إقبال مثالية وعقلانية أوروبا في قوله: "إن مثالية أوروبا لم تكن أبدا من العوامل الحيّة المؤثرة في وجودها، ولهذا أنتجت ذاتا ضالة أخذت تبحث عن نفسها بين ديمقراطيات لا تعرف التسامح وكل همّها استغلال الفقير لصالح الغني، وصدقوني أن أوروبا اليوم هي أكبر عائق في سبيل الرقي الأخلاقي للإنسان"(5). فإذا كان هذا حال مثالية أوروبا والتي لم تنتج سوى الفساد والاستغلال والظلال فإن المسلم "له هذه الآراء النهائية القائمة على أساس من تنزيل يتحدث إلى الناس من أعماق الحياة والوجود، وما تعني به هذه الآراء من أمور خارجية في الظاهر يترك أثره في أعماق النفوس، والأساس الروحي عند المسلم هو يستطيع أقلّها استنارة أن يسترخص الحياة في سبيله، وبما أن القاعدة الأساسية تقول: إنّ محمدًا خاتم الأنبياء والمرسلين، فإنه ينبغي أن تكون من أكثر شعوب الأرض في الحرية الروحانية والرعيل الأول من المسلمين الذين تخلّصوا من الرّق الروحي في آسيا الجاهلية لم يكونوا، بحيث يستطيعون إدراك المعنى الصحيح لهذه القاعدة الأساسية، فعلى المسلم اليوم أن يُقدّر موقفه، وأن يُعيد بناء حياته الاجتماعية على ضوء المبادئ النهائية وأن يستنبط من أهداف الإسلام التي لم تتكشف بعد إلا تكشفا جزئيًا، تلك الديمقراطية الروحية التي هي منتهى غاية الإسلام ومقصده"(6).

 ذلك ما كان يهدف إليه إقبال من وراء خطته في الإصلاح والتجديد بصفة خاصة ومن وراء فلسفته بصفة عامة لمواجهة أزمة العالم الإسلامي المعاصر ومحنة الإنسانية المعاصرة، "فلا أسلوب التصوف في العصور الوسطى، ولا القومية، ولا الاشتراكية بقادرة على أن تُشفي علل الإنسانية البائسة، ولا ريب في أن اللّحظة الحاضرة تمثل أزمة خطيرة في تاريخ الثقافة العصرية، وقد أصبح العالم اليوم مفتقرًا إلى تجديد بسيكولوجي، والدين الذي هو أسمى مظاهره ليس عقيدة فحسب أو شعيرة من الشعائر، هو وحده القادر على إعداد الإنسان العصري إعدادًا خلقيًا يؤهله لتحمل التبعية العظمى التي لا بد من أن يتمخض عنها تقدم العلم الحديث، وأن يرد إليه تلك النزعة من الإيمان التي تجعله قادرًا على الفوز بشخصيته في الحياة الدنيا، والاحتفاظ بهما في دار البقاء. إن السمو إلى مستوى جديد في فهم الإنسان لأصله ولمستقبله من أين جاء؟ وإلى أين المصير؟.. هو وحده الذي يكفل له آخر الأمر الفوز على مجتمع يحركه تنافس وحشي وعلى حضارة فقدت وحدتها الروحية بما انطوت عليه من صراع بين القيّم الدينية والقيّم السياسية، والدين كما بيّنت من قبل من حيث هو سعي المرء سعيًا مقصودًا للوصول إلى الغاية النهائية للقيّم، فيمكنه بذلك أن يعيد تفسير قوى شخصيته هو حقيقة لا يمكن إنكارها"(7).

  إنّ نظرية إقبال في الإصلاح والتجديد تقوم أساسا على عمليتين أساسيتين في الأسلوب الإصلاحي التجديدي وهما عملية الهدم، وعملية إعادة البناء، أما عملية الهدم فتقوم على النقد؛ نقد الوضع العام للإنسانية وللعالم الإسلامي، ونقد الوضع الفكري القديم والحديث الذي شهدته الإنسانية بصفة عامة والعالم الإسلامي بصفة خاصة، وأما عملية إعادة البناء فتقوم على دفع المسلم إلى إدراك ذاته ومحيطه ورسالته في التاريخ، وفهم العالم ومعرفة الله، وأن يتحرك في التاريخ فيغير حياته وفق ما تمليه التطورات والمستجدات في عصره، وعلى أسس روحية تكفل له توازن الحياة والاعتدال في السلوك.

  إن محاولة إقبال الفكرية والفلسفية لإصلاح الفكر الإسلامي من خلال النقد محاولة جادة وجديدة مغايرة للحركات الدينية والفكرية التي تعتمد على تبسيط تعاليم الإسلام لتقريبها من العامة، فهي محاولة لها فكر وفلسفة ومنهج يعتمد أساسًا النقد والهدم لا لغرض النقد، بل بهدف إعادة النظر والصياغة والبناء في إطار واحد هو الإسلام وقيّمه في توجيه الإنسانية، ويصرح إقبال قائلا: "ولقد حاولت في هذه المحاضرات التي أعددتها بناء على طلب الجمعية الإسلامية بمدراس، وألقيتها في مدراس وحيدرآباد وعليكرة، بأن أحاول بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديدا آخذا بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة. واللحظة الراهنة مناسبة كل المناسبة لعمل كهذا"(8).

  يذكر إقبال مبيّنا قيمة النقد في تطوير المعرفة وبناء الحضارة وتحريك التاريخ: "لقد تعلمتِ الطبيعياتُ القديمةُ نقد أسسها التي قامت عليها أولا، فأدى هذا النقد إلى سرعة اختفاء المادية التي قالت الطبيعياتُ بوجودها أول الأمر، وليس ببعيد ذلك اليوم الذي يكشف فيه كل من الدين والعلم اتفاقا متبادلا بينهما لم يكن حتى اليوم منتظرًا". فالنقد هو السبيل الوحيد لإحداث التغيير، والوصول إلى الجديد، وهو السبيل إلى وضع دعائم وسبل تضمن بلوغ الهدف الأسمى للدين، وهو الحياة على النسق الخاص بالرياضة الباطنية الدينية، هذه الرياضة التي صار المسلم المعاصر لا يطيقها، بل يقلل من شأنها، وذلك لسيطرة التفكير الواقعي المادي على حياته عامة. وكان القدماء من الصوفية وأصحاب الرياضة الدينية قد قدّموا عملا طيّبا في تكييف التجارب الصوفية، وتوجيه مسارها في الإسلام، فإن أصحاب التصوف في العصر الحديث عجزوا عن هذه المهمة بسبب ابتعادهم عما أنتجه العقل الحديث، وعجزوا عن قبول أي وحي جديد من الفكر الحديث والتجارب العصرية، لأن ما لديهم من تجارب يختلف عما للأجيال السالفة من ثقافة ونظرة إلى الحياة في جوانب مختلفة.

  على ضوء النقد تتم عملية إعادة البناء وفق إستراتيجية تضبط الهدف بدقة، كما تحدد المبادئ والوسائل والسبل الكفيلة بتقديم خطة للإصلاح والتجديد قائمة دائما على النقد والهدم وإعادة البناء، وهو أمر ضروري، ولا بد منه للعالم الإسلامي في العصر الحديث يحتمه التواجد الاستعماري الصليبي في بلاد المسلمين عامة، وفي بلاد الشرق بصفة خاصة. وما يستهدفه الاستعمار من محاولات تدمير القيم الإسلامية، وطمس هوية المسلم ليذوب في الغرب وفي فكره وفي قيمه. كما يتطلبه الفكر الغربي المتميز بالطابع المادي الإلحادي، وما يحدثه هذا الفكر من تأثير سلبي على المسلمين يزيد في ضعفهم وانحطاطهم. كما تفرضه حالة المسلمين من الضعف المتعدد الجوانب، التي طال أمدها، هذا الضعف الذي استولى على الفرد والجماعة في سائر الشعوب الإسلامية.

الخاتمة وأهم النتائج

  الإنسان بطبعه ينفر من الرتابة، ويطلب الجديد، مستغلًا في ذلك جميع إمكاناته وكل طاقات العالم الذي يعيش فيه، والتجديد في حياة الإنسان الفكرية والعملية يمثل ظاهرة ثقافية راقية تتجلى فيها مظاهر التقدم وانعكاسات الحضارة، ويتشكل منها التاريخ ويتأسس عليها البناء الاجتماعي في إطار الوعي الحضاري والتاريخي الفردي والاجتماعي، فالتقدم الذي يحققه الإنسان بواسطة العمل في حياته الفردية والاجتماعية، وفي الطبيعة والكون، وفي صلته بخالق الكون، كل هذا يعرف بالتجديد الحضاري وهو جوهر الحضارة وشرط قيامها(9). والإسلام دين تميّز بالوحدة والحيوية والعالمية بعيدًا عن التشتت والجمود والتعصب لعرق أو للون أو لإيديولوجية أو لأرض. والحقيقة في أصلها روحية، مبدؤها روحي، ومآلها روحي، والسبيل إليها التجربة الواقعية والتجربة الصوفية معًا، من خلال العلم والدين معًا، واستخدم إقبال عبقريته الشعرية، وموهبته الأدبية في نشر فلسفته، ودعوته إلى الإصلاح والتجديد، فكان مثالًا حيًّا للشاعر المسلم، والعالم الداعي، والفيلسوف المتميّز، والصوفي العامل، وخطته في التجديد تقوم على إستراتيجية النقد وإعادة البناء، على الهدم والبناء بعد ذلك من جديد، وهو منهج سلكه، وعمل مارسه في فكره وكتاباته طيلة حياته الدعوية الإصلاحية التجديدية.

وقد توصلت الدراسة إلى:

- هذا البحث في جانب من جوانب فلسفة محمد إقبال وهو رؤيته في الإصلاح والتجديد، وهما عماد كل تحضر، وأساس أي تقدم، وشرط أية حركة إنسانية في التاريخ، يقدم نظرية الإصلاح والتجديد عنده في سياقها التاريخي وبخصوصياتها وعناصرها بالدقة المطلوبة والوضوح الكافي، ويكشف عن مواطن الإبداع والأصالة، كما يكشف عن عبقرية صاحبها ومكانة محاولته إعادة بناء وتجديد الفكر الديني في الإسلام داخل الحركة الإصلاحية وفي إطار الدعوة إلى التجديد في العالم الإسلامي المعاصر، كما يقف البحث من جهة أخرى عند نقد هذه المحاولة من حيث استمدادها ومرجعياتها وفي بعض دعاماتها الدينية والفلسفية.

- أنّ ظاهرة التجديد الحضاري ليست وحيًا يهبط من السماء، ولا هي هبة مهداة من الطبيعة، بل تنتج من الكدّ والجدّ والاجتهاد، ينهض بها مناضلون يؤمنون برسالتهم، ويكرسون حياتهم لها لا لغيرها. والتاريخ يشهد أن أية حضارة شهدها الإنسان جاء ظهورها بفعل أناس مناضلين كل في موقعه، يدعو إلى التجديد الحضاري، ويدافع عنه، ويحدد شروطه ولوازمه النظرية والعملية، وهو التجديد الذي يتحرك على المستوى الذاتي للإنسان، يتغلغل في الذات وفي أعماقها فيستولي عليها، فتنفجر بالتجديد، ويجري في محيط ما خارجي متقوقعًا فيه ومثبتًا لقواعده ومعالمه ومظاهره داخله، ولا تخلو أيّـة حضارة من حركة التجديد الحضاري في الفرد وفي محيطه سواء الحضارات القديمة مثل الحضارات الشرقية: المصرية والصينية والفارسية والهندية، ومثل الحضارة اليونانية، وكذلك بالنسبة للحضارة الإسلامية، والحضارة الحديثة والمعاصرة.

- أن حركة التجديد التي ينهض بها المجددون لا تنبعث من العدم، بل لها أسبابها وشروطها ومراحلها، تجعلها تنمو وتكبر وتتبلور حتى يكتمل نضجها وتضخمها، فتصبح صالحة للاستعمال، هذا ما شهده المسلمون في حضارتهم الزاهية منذ أن أسسها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى وقت أفولها وانهيار معالمها وكيانها، ولم يبق منها سوى الذكريات والعبر محفوظة في الأذهان والكتب، وغيرها من مصادر التاريخ المباشرة وغير المباشرة، وجاء عصر الانحطاط والضعف والجمود والركود في حياة المسلمين، وتكلل بالاستعمار الأوربي للعالم الإسلامي، فازداد انحطاطا وتخلفًا وضعفًا على الرغم من بقايا محاولات الدفاع التحررية والفكرية الصادرة ممن تسلحوا بالروح الثورية الإسلامية، سواء في مجال العقيدة أو في مجال الفكر والسياسة، فشهد العالم الإسلامي الحديث بعد الاستعمار والانحطاط محاولات عديدة للإصلاح والتغيير والتجديد، وعرف عددا من المصلحين والمجددين، ومحمد إقبال واحد منهم.

- لقد كان محمد إقبال على حدّ وصف من عرفوه وعرفوا فكره وفلسفته متدينًا، وفيلسوفًا وشاعرًا ومتصوفًا، وقلّما تجتمع هذه الأوصاف في شخص واحد، في عصر مليء بمغريات الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة، التي أبهرت العديد من المفكرين، فانغمس فيها على حساب قيمه الذاتية، وتراث أمّته العتيد.

- ارتبطت حياة محمد إقبال بالإسلام وبالتاريخ الإسلامي، وبفهمهما، وبالحضارة الغربية وبالفكر الغربي والإلمام بهما، وسعة اطلاعه على تاريخ الفكر الإنساني، وإحاطته بظروف وأوضاع المسلمين في عصره، وما تميّزت به من تخلف وانحطاط في جميع جوانب الحياة، هو ما جعل منه المفكر المميّز، والمجدد الفريد في نوعه، وصاحب فلسفة تمثل الأولى من نوعها في عصره، لما توفرت عليه من نسقية وتكامل في المنظور والرؤية إلى الإنسان والحياة والوجود، وكل ما يتصل بذلك في عالم الدنيا وفي العالم الآخر. وذلك بالإسلام وبمبادئه، وقيمه، باعتباره مشروعًا حضاريًا إنسانيًا يمثل رسالة إنسانية عالمية، دخلت التاريخ، ودخلت المعترك الثقافي والحضاري والديني، ليأخذ مكانته في ساحة هذا المعترك، ويفرض وجوده بقوّة، لما له من قوّة ومناعة في جميع جوانبه.

- المتصفح للمحاولة الفكرية الفلسفية في الإصلاح والتجديد عند إقبال، يجد أن رؤيته في التغيير والتجديد والحضارة ارتبطت بفلسفته وبنظرته إلى الحياة عامّة، ورؤيته تختلف عن رؤى زعماء الإصلاح وروّاد التجديد ودعاته في العصر الحديث. فهو يرى دوافع التغيير حالّة في وحدات الوجود الثلاث: الإنسان والكون والله، مرتبة من الأدنى نحو الأعلى، والحياة متغيّرة باستمرار لا تعرف الثبات والجمود، وتستمد تغيرها وخلودها من طبيعتها النهائية ومن أصلها الأول وهو الذات المطلقة.

- ما تميّزت به نظرة محمد إقبال الفلسفية إلى الحضارة عامة، والتجديد الحضاري خاصة، وفلسفته بصفة عامة، هو أنّها تشكل رؤية فلسفية إلى الحياة والإنسان والحضارة، وكل ما يربطها بهذه الجوانب، وتتميّز هذه الرؤية الفلسفية الفريدة في نوعها بالوحدة لما بين عناصرها وأجزائها من اتساق وانسجام وتكامل، فهي عبارة عن نسق فكري فلسفي واحد لا تفكك ولا انفصال بين أجزائه ومكوناته، وتتصف بالقوة والمكانة لارتباطها بالإسلام وبتعاليمه وقيمه العليا، وبالعمق لرحابة وسعة التأمّلات الميتافيزيقية التي قامت عليها، وبالدقّة في التحليل والنقد والاستنتاج، وهي أوصاف قلّما نجدها لدى مفكر في عصر طغى عليه التخصص في البحث، وسيطر الفكر التجريبي الوضعي، وسادت النزعة البراجماتية.

- إستراتيجية النقد وإعادة البناء في فلسفة محمد إقبال استمدت قوّتها منه، بما انطوت عليه من تصورات وأفكار تمثل مشروع رؤية فلسفية ومخططًا فكريًا يستهدف بناء فلسفة الدين في الإسلام بناءً جديدًا، وتوجيه الذات الإنسانية إلى الحياة الروحية الكاملة، وإلى تخلّقها بأخلاق الله، وتسخير العالم المادي لخدمة مرامي الإنسان، هذا العالم المادي المتأصّل فيها هو روحاني، وتوجيه سلوك الإنسان لإعادة تنظيم حياته الاجتماعية وفق مبادئ إنسانية عالمية مستمدة من الإسلام، ومن الطبيعة البشرية في جانبها الفردي وفي جانبها الاجتماعي.

- استمدت هذه الفلسفة، وانبثق هذا المشروع من الظروف والأوضاع النفسية والفكرية والخلقية والاجتماعية الفاسدة في القرن العشرين، بسبب غياب أسلوب حياة يضمن التوازن بين المادة والروح، ولا يوجد غير الإسلام الذي يحفظ هذا التوازن، كما انبثقت الفلسفة، وانبثق المشروع من الفكر الإسلامي القديم، ومن الحضارة الإسلامية، وما تميّزت به من نماء وازدهار في كافة المجالات، الأمر الذي جعل الحضارة الأوربية الحديثة تحمل الكثير من عناصرها ومعالمها، ومن الحضارة الغربية، ومن الفكر الغربي، هذا الاستمداد ليس على سبيل التقليد والاتباع والانبهار والسقوط في أحضان الآخر، بل على منوال القراءة النقدية الممحصة المتفحصة والمقارنة بين الأفكار والتيارات بإعمال العقل والمنطق ومراعاة القيم الذاتية الإسلامية ومقتضيات الواقع.

- اقترنت الحضارة وارتبط التجديد الحضاري في فكر محمد إقبال بالدين، فالحضارة توازي الدين، وهي ثمرته، والإسلام حضارة، وقوتها وخلودها كل ذلك مستمد من قوة وخلود الدين، أما ضعفها وأفولها فيكون بسبب فقدانها لعناصر القوّة والخلود، وهي عناصر دينية، تتمثل في النهوض بالعمل في الحياة الفردية، عن طريق التجربة الصوفية، وعن طريق الاجتهاد في الواقع. كل هذا لبلوغ قمة التحضر، وهو الديمقراطية الروحية، والسمو الروحي والعلى الأعلى، وذلك مبتغى الإسلام ومقصده.

- إنّ الطابع العام الذي تميزت به البحوث والدراسات عند محمد إقبال كان طابعا فلسفيًا ميتافيزيقيًا، فيه الفلسفة والميتافيزيقا والعلم والدين والتصوف، وكان على أسلوب الأقدمين، والإصلاح طابع فردي ديني إسلامي صوفي فيه مجال واسع للتجربة الصوفية والرياضة الروحية، والعمل الصوفي الصحيح هو سبيل الوصول إلى الحقيقة، وتمتاز هذه البحوث بعمق فلسفي كبير، وتأمل ميتافيزيقي رحب حتى قيل عن هذه الفلسفة بأنها موجهة للخاصة والنخبة من المثقفين لا للجميع.

- استمد الفكر الإصلاحي والتجديد لدى محمد إقبال قوته ومكانته وعمقه من ارتباطه المباشر بالإسلام وواقع المسلمين وحياتهم في العالم الإسلامي المعاصر، وتعبيره عن مشاكلهم وهمومهم، وعن آمالهم وتطلعاتهم، وبلوغه مستوى رفيع من الحقيقة، في مناهجه وأساليبه لأنه أخذ بالدين والعلم والتاريخ واعتبار الواقع، واستطاع أن يكفل التوازن بين طرفي الكمال، الروح والمادة، الدين والدولة، الدنيا والآخرة.

أهم التوصيات

في ختام دراستي هذا أقول: ما أحوج العالم الإسلامي المعاصر إلى هذا المشروع للإصلاح والتجديد، ولبلوغ السمو الروحي والأخلاقي ولبناء حضارة تلد منتجاتها الفكرية والمادية، ولضمان التوازن بين المثال والواقع، الروح والمادة، وبين الدين والدولة!.. ذلك هو عين التحضر وقمّته، وهو مبتغى الإسلام ومقصده، فالحضارة هي التمكين لقيم ومبادئ الإسلام على أرض الله. وما أحوج العالم الإسلامي إلى بحوث ودراسات أخرى تُفضي إلى مشاريع أكثر وعيا بالحضارة الراهنة وتحدياتها، وأكثر سيطرة على أساليب العمل ومناهج الفكر المؤدية إلى المساهمة الفعّالة في بناء الحضارة!.. لأن "البحث هو شعار الحياة في الإسلام، الحياة المتجددة العاملة، الهادفة، البانية، الحياة التي تصنع الحضارة والرفاهية والأمن والسلام للإنسانية جمعاء".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1)            محمد إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص13-14.

(2)            المرجع السابق، ص14-15.

(3)            المرجع السابق، ص206-207.

(4)            المرجع السابق، ص205.

(5)            المرجع السابق، ص207.

(6)            المرجع السابق، ص207-208.

(7)            المرجع السابق، ص217.

(8)            المرجع السابق، ص2.

(9)            محمد عبد المنعم خفاجي: البحوث الأدبية مناهجها ومصادرها، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1980م، ص5.

المراجع والمصادر

_ أسماء بوبكر جيلالي، الإصلاح والتجديد الحضاري لدى محمد إقبال ومالك بن نبي بين النظرة الصوفية والتفسير العلمي، مركز آفاق للدراسات والبحوث، 4-11-2012م.

- روائع إقبال، للندوي.

- ضرب الكليم لعزام.

-عبد الوهاب عزام محمد، إقبال سيره وفلسفته وشعره.

- فهمي قطب الدين النجار، محمد إقبال والمدنيَّة الغربية والفلسفات الإلحادية، شبكة الألوكة، 20/11/2013م - 16/1/1435هـ.

-ماجد فخري، تاريخ الفلسفة الإسلامية.

- محمد إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام.

- محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي.

- محمد بن أحمد الصالح، وسطية الإسلام وسماحته ودعوته للحوار، السكينة، 11 فبراير 2011م.

- محمد عبدالرحمن عريف، المَقَاصد القُرآنِيّةَ في تنشئة الشخصِيّةِ الإِنسَانِيّة وتَنمِيتهَا (حَق الحُريّةَ والكَرَامَةِ الِإنسَانِيّةَ نَمُوذَجًا)، بحث مقدم لمؤتمر: (موقع الدين في شخصيّةِ الإنسان)، جامعة أوردو، كلية الإلهيات، أوردو، تركيا، (10-12 حزيران/يونيه 2016م).

- محمد عبد المنعم خفاجي، البحوث الأدبية مناهجها ومصادرها، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1980م.

-http://www.alukah.net.

 

 

تعليقات القراء
لاتوجد تعليقات على هذا المقال الى اﻷن

علق برجاء التدقيق اللغوي لما يكتب