العدد 135
د. عز الدين حفار - الجزائر
الانتقال الدلالي وسيلة من وسائل توليد المعاني، ويكون بنقل اللفظ من دلالة إلى دلالة ثانية، إما لوجود علاقة بين المعنيين، ويبقى المعنى الأول هو المستعمل والمشهور، ولا يلتفت إلى المعنى الثاني إلا بقرينة، وإما مع انقطاع العلاقة بين المعنيين فيصبح المعنى الأول مهجورا، والمعنى الثاني متداولا مشهورا. وسبب الانتقال الدلالي إما الشرع، وإما العرف العام، وإما العرف الخاص.
ففي باب الشرع نجد ألفاظا كثيرة حصل لها نقل مثل: الصلاة، والزكاة، والصوم، والمنافق، والكافر...، إضافة إلى الأحاديث النبوية الشريفة فقد حصل لبعض ألفاظها نقل، ومن بين هذه الألفاظ نذكر على سبيل التمثيل ما يلي:
- المفلس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار". (رواه الترمذي ومسلم).
لفظ "المفلس" في الحديث النبوي الشريف نقل معناه من المعنى الأولي الذي وضع له وهو: "أفلس الرجل إذا لم يبق له مال" (ابن منظور، لسان العرب)، إلى المعنى الثاني الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو: المفلس من "فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار".
ثمة علاقة بين المعنيين؛ أي بين المعنى الأولي والمعنى الثاني المنقول، وتتمثل هذه العلاقة في اشتراكهما في الحرمان وعدم النيل والخسارة، إلا أن المعنى الأولي تكون خسارته في الدنيا، أما المعنى المقصود من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فهو الخسارة في الآخرة.
ومتى أطلقنا لفظ المفلس ينصرف الذهن إلى المعنى الأولي، ولا يتصور المعنى الثاني إلا بقرينة تصرف الذهن عن المعنى الأولي إلى المعنى الثاني، فعند قولنا: "يفلس من لا يجتنب طريق الميسر"، فالعقل يدرك بديهة أن المقصود بالإفلاس خسارة المال وضياعه وعدم الفلاح، أما قول نبينا صلى الله عليه وسلم: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة..."، فيوم القيامة قرينة صرفت الذهن عن المعنى الأولي، لأن يوم القيامة لا ينفع المال، فالخسارة يومئذ تكون في الحسنات.
- الكوثر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، إِذْ أَغْفَىٰ إِغْفَاءَةً. ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّماً. فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفاً سُورَةٌ. فَقَرَأَ: ﴿بِسْمِ الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ *إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ فَقُلْنَا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ، فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَأَقُولُ: رَبِّ، إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي. فَيَقُولُ: مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَتْ بَعْدَكَ". وفي رواية:" نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ. عَلَيْهِ حَوْضٌ". (رواه مسلم).
غلب واشتهر المعنى الثاني للفظ الكوثر ومعناه نهر في الجنة عليه خير كثير، على المعنى الأول ومعناه: "الكثير من كل شيء. والكوثر: الكثير الملتف من الغبار إذا سطع وكثر" (ابن منظور، لسان العرب).
فلفظ الكوثر حصل له نقل من المعنى الأولي إلى المعنى الثاني مع شيوع المعنى الثاني، حيث كلما أطلقنا لفظ الكوثر أدرك العقل المعنى الثاني، وكأن المعنى الأول أصبح مهجورا.
ويصطلح على هذا النقل بالمنقول الخاص، وواضعه إما أن يكون الشرع، أو العرف العام، أو العرف الخاص، وثمة ألفاظ كثيرة في الشرع نقلت من معناها الأولي إلى المعنى الثاني، وأصبح المعنى الثاني هو الشائع مثل: الصلاة، والزكاة، والحج...
- البخيل: عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْبخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ، فَلَم يُصَلِّ علَيَّ". (رواه الترمذي).
يتبين من الحديث النبوي الشريف، أن لفظ البخيل نقل من المعنى الأولي، ومعناه أن البخيل ضد الكريم، وهو الذي يمسك ماله خشية الفقر، إلى المعنى الثاني الذي حدده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: إن البخيل من يسمع اسم الرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه.
ولاحظ أن المعنى الأولي لم ينقطع، لأنه جرى استعمال لفظ البخل ضد الكرم، في حين أن العقل لا ينصرف إلى المعنى الثاني إلا إذا وجدت قرينة قولية أو سياقية.
ونلاحظ أن هناك قاسما مشتركا يجمع بين المعنيين، فإذا كان البخل لا يزيد في مال الشحيح، فكذلك أن البخل لا يضاعف حسنات من لم يصل على الرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: "من صلى علي صلاة صلى الله بها عليه عشراً".
- يسرق: ما رواه أبو قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسوأ الناس سرقة: الذي يسرق من صلاته! قالوا: يا رسول الله: كيف يسرق من الصلاة؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها، أو قال: "لا يقيم صلبه في الركوع والسجود". (رواه أحمد).
أعطى النبي صلى الله عليه وسلم للفظ يسرق معنى جديدا، فعرف السارق في الصلاة هو الذي: "لا يتم الركوع والسجود"، والظاهر أن ثمة علاقة بين المعنى الثاني والمعنى الأول، وحده: "من جاء مستترا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له" (ابن منظور، لسان العرب).
وواضح أن المعنى الأول ما يزال مستعملا، ولا يلتفت إلى المعنى الثاني إلا إذا وجدت قرينة تمنع تصور المعنى الأول.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، واستُرْضِعْت في بني سعد"، وعليه فإن الأحاديث النبوية الشريفة نستطيع أن نصنع منها معاجم لغوية عديدة ومتنوعة مثل: معجم التخصيص الدلالي، ومعجم التعميم الدلالي، ومعجم الانتقال الدلالي.