دور السلوك الحسن في كسب القلوب
كتب  د.محمد وثيق الندوي ▪ بتاريخ 19/04/2023 11:25 ▪ تعليقات (0) ▪ طباعة  أرسل لصديق  أرسل لصديق 

العدد 135

 

إذا ألقينا نظرة على التاريخ الإسلامي وخاصة تاريخ انتشار الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة كلها، وجدنا الإسلام ينتشر بحسن الخلق، ولين الجانب، وخفض جناح الذل، والصبر والثبات، وتحمل المكروه والأذى، والعفو والصفح، والحلم والأناة، والإعراض عما يغضب، والمحبة والمودة، وطلاقة الوجه والابتسامة في وجه العدو؛ لأن استقبال المدعو بطلاقة الوجه والبِشر والابتسامة الحلوة يجعل الوجوه تنير، والأعصاب ترتاح، والنفوس تطمئن، والقلوب تتفتح على الخير كما تتفتح الزهور على لمسات الندى، وإن الحب والابتسامة لا تكلفان شيئًا؛ ولكنهما تكسبان القلوب والنفوس والعقول، قال الشاعر:

بُنَيّ إن البر شيء هين = وجه طليق وكلام لين

وقال آخر:

ولا ينال العلا إلا فتى شرفت = خصاله فأطاع الدهر ما أمرا

فإن الحب والابتسامة وطلاقة الوجه مفتاح كل خير، ومغلاق كل شر، لها مفعولها السحري، وأثرها العجيب، ولا يمكن أن يتجاهل الحب والابتسامة، من يرغب في كسب ودّ الآخرين، والتأثير فيهم، وفتح مغاليق قلوبهم.

 إن الابتسامة الصادقة تحوِّل الأعداء إلى الأخلاء، وتُحِلّ محلَّ البغضاء والشحناء والعداء، الصداقةَ والمؤاساة والإخاء، وتجعل من منفصلين متحاربين قلبًا واحدًا، وجسدًا واحدًا إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمي". قال الله تعالى:  ((وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)) (فصلت: 34-35).


وبالعكس فإن العبوس، والقطوب، وكلوح الوجه، والانقباض، والتعنيف، والفظاظة والغلاظة في القول، كلها تنفّر القلوب، وتبعد النفوس، وتمرّد العقول، وتسبب الإكراه والعداوة والنفورن قال الله تعالى: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)) (آل عمران:159).


كان رسول الرحمة والمحبة سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، ولا صخاباً ولا فحاشاً، ولا عياباً، ولا مشاحاً، ولا يجزي السئية بالسئية، ولكن يعفو ويصفح، ويحترس من الناس من غير أن يطوي على أحد منهم بِشْرَه، ولا خلقه، ومن سأله حاجته لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أباً، وصاروا عنده في الحق سواء، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه، ومسألته.


وكان أجود الناس صدراً، وأصدقهم لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه: ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لا يحدث حديثاً إلا تبسم، وكان من أضحك الناس، وأطيبهم نفساً، ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً، كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله تعالى" .


وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على الرفق والحب واللين في الحياة: فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه"، وقال: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه"، وقال: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا"، وقال: من يحرم الرفق يحرم الخير كله"، قال رجل للرسول صلى الله عليه وسلم: أوصيني، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تغضب، فردد مراراً، قال لا تغضب"، وقال: "ألا أخبركم بمن يحرم علي النار أو بمن تحرم عليه النار؟، تحرم على كل قريب هين لين سهل" .


وإن الحب والابتسامة إكسير يذوب فيه الحقد والضغينة، كما يذوب الملح في الماء، وعصا سحرية تسحر القلوب المتحجرة والأفئدة الجافة، والطبائع المتمردة العاصية والنفوس الجاحدة القاسية، وفي العصر المادي الجامح الذي نعيشه، نحن بأمس حاجة إلى هذا الاكسير، ولا يمكن للداعية أن يقوم بالعمل الدعوي بين الناس وقلبه لم يذق حلاوة الحب، ويحلو لي أن أنقل ما كتبه فقيد الدعوة الإسلامية الكاتب الإسلامي القدير محمد الحسني ـ رحمه الله ـ في إحدى مقالاته:


"إن المنطق والقانون لا يجذبان القلوب، ولا يقنعا


ن الوجدان، إنهما يهزمان الرجل ويصرعانه، وربما يحدثان فيه بعض النقمة وبعض الحقد والضغينة، تجاه هذه الدعوة، إنما الشيء الذي تنجذب إليه القلوب كالمغناطيس، وتهوي إليه الأفئدة، ويخضع له الجبابرة، يلين به القساة، والعصاة، الغلاظ الشداد، فهو الحب والإخلاص".


وكتب الأستاذ محمد قطب: "لا يكفي المال وحده لتأليف القلوب، ولا تكفي التنظيمات الاقتصادية لتعديل الأوضاع المادية، لابد أن يشملها ويغلفها ذلك الروح الشفيف، المستمد من روح الله، ألا هو الحب، الحب الذي يطلق البسمة من القلوب، فينشرح لها الصدر، وتنفرج القسمات فيلقي الإنسان أخاه بوجه طليق".

وقال الشاعر:


هشت لك الدنيا فمالك واجم = وتبسمت فعلام لا تتبسم!؟

إن كنت مكتئبًا لعز قد مضى = هيهات يرجعه إليك تندُّم


وإن كانت هناك منكرات تحتاج إلى قوة وحزم، ولكن في أحيان كثيرة لا ينفع إلا الحب والابتسامة وطلاقة الوجه، وإذا اتصلت برجل وتحدثت معه وأقنعته بدلائل قوية، وشرحت القضية شرحًا وافيًا، وقلبك جاف، غليظ، ولسانك قاطع كالسيف، وكلماتك نابية حادة كالسهام المسمومة ووجهك كالح عبوس، أبعدته عن الهدف، وملأت قلبه غيظًا ونفورًا، ولو لم يستطع أن يرد عليك جوابًا. وبالعكس من ذلك إذا كان قلبك عامرًا بالحب والرفق والحنو والعطف، وتعلو شفتيك ابتسامة حلوة حانية، كسبت قلبه وقربته إلي الهدف، وقصة عمر بن الخطاب والوليد بن المغيرة وغيرهما خير شاهد على ذلك.


فيجب على العاملين في حقل الدعوة والعمل الإسلامي أن يتصفوا بالحب والابتسامة إذا أرادوا التأثير في القلوب والنفوس، والحب الخالص والابتسامة الصادقة، لا الحب الكاذب، والابتسامة المصطنعة، وإن الحياة المعاصرة التي أصبحت جحيماً لا تطاق بتأثير الحضارة المادية الجامحة تحن إلى هذا الحب والابتسامة كما تحن الأرض المجدبة إلى قطرة من الماء، وإن ما يعترض اليوم العمل الإسلامي من مشكلات وعقبات، مرجعه إلى عدم العناية بالحب والابتسامة الحلوة، والاستهانة بأهميتهما وضرورتهما للمجتمع الإنساني الذي يعاني الشقاء وفقدان الرحمة والعطف، وما أحوجنا اليوم إلى هذا العنصر.

 

 

 

تعليقات القراء
لاتوجد تعليقات على هذا المقال الى اﻷن

علق برجاء التدقيق اللغوي لما يكتب