جغرافية القصيدة العربية التشادية عند الشاعر عيسى عبد الله القضية الفلسطينية نموذجًا
كتب   ▪ بتاريخ 19/04/2023 11:16 ▪ تعليقات (0) ▪ طباعة  أرسل لصديق  أرسل لصديق 

 

 د.محمود شريف محمد نور - تشاد

 

 

(عندما عانتْ الكويت كتبنا عن معاناة شعب الكويت، والآن لأن العراق تعاني فقد كتبتُ في معاناة شعب العراق، فنحن مع نبض الشعب نعاني معاناته، ونعيش معه مأساته التي هي مأساة كل الشعوب الباحثة عن الحرية". الشاعر الراحل عبد الواحد حسن السنوسي رحمه الله).

 


إنها جُملٌ متلاحقة تحدد نفوذ القصيدة العربية التشادية، واتساع حدودها الموضوعية. والحديث عن جغرافية المكان في الشعر يبين مدى ثقافة ذاك المجتمع، ومستوى متابعة أدبائه للقضايا التي تدور من حولهم، واهتماماتهم، وتوجهاتهم السياسية والثقافية والإيديو لوجية أيضا، وسعة آفاقهم، ونظرتهم لتلك الأحداث وأسلوب تناولها في أشعارهم وأعمالهم الأدبية الأخرى. ولعلنا في مقالات لاحقة نتطرق لهذا الجانب من القصيدة العربية التشادية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

والشعر العربي التشادي وإن تخلف عن مثيلاته في الدول العربية، إلا أنه لم يتأخر في متابعة قضاياه متفاعلا ومتعاطفا، مسجلا بذلك مواقف مشرفة.

● من الشرارة الأولى:

لم يتخلف الشعب التشادي باختلاف مكوناته الدينية والفكرية عن إعلان موقفه من القضية الفلسطينية، وكانت مواقفه واضحة وصريحة.

ويكفي هذا الشعب شرفا أن تكون أول أسيرة في  سجون الاحتلال الإسرائيلي امرأة تشادية تدعى فاطمة البرناوية، وهي إشارة إلى أن التشاديين اكتووا  بعذابات المحتل منذ الأيام الأولى للقضية وما تلاها من حروب ومجازر.

والجالية التشادية من أقدم الجاليات التي تعيش في مدينة القدس القديمة. ويستحسن أن أشير هنا إلى الفقرة التي خصصها الروائي الإريتري حجي جابر في روايته "رغوة سوداء" تحدث فيها عن شخصية ماريل التشادي أحد أبناء المهاجرين الذين قدموا إلى القدس قبل قرن من تشاد، وعن اللوحة التي تحمل صورة لشاب أسود يحمل بندقية، ويتحلق حوله عدد من الفلسطينيين، مكتوب تحتها: "البطل طارق الإفريقي الذي دافع عن الحارة الجنوبية من جبل المكبر".

وأسرة ماريل رمز لكل الجالية التشادية المرابطة في القدس الشريف منذ عقود طويلة، وأخذت وأعطت نصيبها من الكفاح والمقاومة.

● شاعر وثورة:

يعد الشاعر عيسى عبد الله فضل أكثر الشعراء التشاديين في اتساع مساحة القصيدة عنده، واهتمامه بقضايا القارة الإفريقية إلى جانب العربية أيضا، ويعلن ذلك في بيت شعري طريف:

             فإنْ يعلُ شاري بقلبي مكاناً =   ففي القلبِ أيضا فراتٌ ونيلُ

وهو شاعر الثورات، تشده كل ثورة تسعى إلى الخلاص والانعتاق من نير الاستعمار والتبعية، ويعيش أحداثها كما لو أنه جزء منها، متتبعا تفاصيلها اليومية، موآزرا وداعما لها.

والنطاق المكاني لقصائده تمددت لتصل إلى كل الثورات في إفريقيا وآسيا حتى كأن ثورة فرولينا ألهمته، ومنحته قلبا وعقلا يتسع لكل الثورات التي تسعى لذات الهدف الذي تنشده ثورة فرولينا.

والشاعر عيسى عبد الله فضل ولد في ١٣ من نوفمبر عام ١٩٤٨م، في قرية شكين. عاش في مدينة أم روابة الكردفانية، وتلقى فيها المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية. انتقل إلى جامعة الخرطوم والتحق بكلية الآداب، ولم يكمل دراسته فيها لانضمامه لحركة فرولينا.

من إنتاجه الأدبي: باقة من لباقة (شعر)، حذو ما قالت حزام (شعر)، كلام ورايا كلام (شعر بالعامية التشادية)،  وكشف المطمورة (شعر) في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم. (عبد الله مصطفى، ص: 85-86).

توفي الشاعر عيسى عبد الله عام 2013م، ومازالت جذوة الثورة متقدة فيه، ولم يكن شيء يقدر على إطفائها سوى نفحة الموت الباردة.

● نموذج:

إن القضية الفلسطينية تمثل للشعراء التشاديين أنموذجًا للتضحيات والكفاح والسير في طريق الحرية الدامي. والشاعر التشادي حين الحديث عن الحرية والنضال يحيلهم ذلك إلى التطرق للقضية الفلسطينية، مدعمين ذلك بالبُعد التاريخي وتحرير القدس على يد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.

والشاعر عبد الواحد حسن السنوسي في قصيدته (معلقة وارا) عندما يكتب عن مذبحة (كبكب) يعود إلى الماضي المجيد للإسلام وانتصارات المسلمين:


قامت حروب للصليب مجددا =  لتكيد للإسلام كيدا بائدا

كادوا لنور الله إطفاء له  = هيهات أن يطفأ أو أن يخمدا

من قاد حربا للصليب فإنما  = تحت الرماد يثير جمرا كامدا

ويكاد ينسى قصة الحرب التي = جرّت مليكا في القيود مصفدا

لما تولاها صلاح الدين في = حرب الصليب فنال نصرا رائدا

إذ حرّر القدسَ الشريفة يومها = رغم الصليب مظفَّرا ومؤيَّدا


ولم يغفل الشاعر التشادي -وهو يجمع أشعاره في ديوان- أن يضم إليها قصيدة أو قصائد عن القضية الفلسطينية، والإشارة إليها ضمن أشعاره في موضوعات أخرى على صلة بها.


وطالعتُ ديوان الشاعر عيسى عبد الله "حذو ما قالت حزام"، واخترت منه أبياتاً من قصيدتيه: "أي صحوٍ"، و"وداعاً للرواغ"، تناولتا القضية الفلسطينية.


1- القصيدة الأولى: " آي صحو":


إن فلسطين ليست قطعة أرض، إنها محور قضايانا ونقطة ارتكازها، واحتلالها بداية لمخطط كبير يشمل أراضي أخرى للعالم الإسلامي، ولم يقف أمام تدفق أحلامهم إلا أولئك النفر الذين هم "ملح الأرض"، يفدون الأمكنة المقدسة بأرواحهم،  ويعيدون توازن ميزان القوى. فإذا كانوا صامدين واقفين على أقدامهم حتى الساعة، فإن سرّ ذلك هو الحب الذي يحملونه لقضيتهم وأرضهم.


إن ادعاء الصهاينة حقهم في فلسطين كادعائهم الانتساب لنسل النبي يعقوب عليه السلام. تلك الانتفاضات الشعبية هي دليل صحو ويقظة، ولا توجد قوة في الأرض تحتجز هذي الانتفاضات وتضعها في دائرة محكمة..


ما فلسطين التي يهوون أرضا = عندهم، بل إنها مغزى المغازي

هؤلاء الخضر هم ملح الأراضي  = هم -إذا ارتجت- أساس الارتكاز

وانتفاضات الأراضي آي صحو = مستحيل وضعه في الاحتجاز

فالجهاد المستمر الآن روح  =  والخلود الحق موت (الكامكازي)

كم شهيدٍ كل يوم في الأراضي = كلهم مستبشر يا للمفاز

يقبل الأهلون فيهم تضحيات = من يُحَيّي يوم عرس بالتعازي


2- القصيدة الثانية: وداعًا للرواغ:


وقع العالم الإسلامي في فترة ركود وتراجع عن الركب الحضاري، وأصوات الانتفاضات يتردد صداها في الفراغ، غير أن خروج المسلمين من المعادلة لا يعني أنهم تخلوا عن قضاياهم أو نسوها، لكن سياسات دولهم تلجمهم وتلجئهم إلى السكوت والتغاضي، واستغلّ المستعمرون الجدد هذه الفرصة فانقضوا على العراق بعد فلسطين، ولا يمكن أن يقولوا: إنها أراض سهلة، ففيها الفدائيون الذين يعطون دروسا في التضحية والذود عن الحمى والأرض والعرض، وبإيمانهم دحروا قوى الشر، وبدمائهم غسلوا آثار الغزاة.


فإن ناديت: يا أمة الإسلام ذودي = فهل ناديت إلا فراغا في فراغ

ورب القدس ما خانت الأقصى الشعوب = هوى بغداد فيها، كمثل الأمس طاغ

ولكن الملايين قد أمسوا -على ما = رأى الحكام- في لجام أو رساغ

ففي إيمانهم دَفْن من زاغوا وراغوا = وباستشهادهم غلق أبواب الزواغ

ومنهم -يا عراق العلا- نصر وفتح = وصبح -يا فلسطين- منّى بانبزاغ


● وهكذا:


فالقضية الفلسطينية ليسست قضية عابرة ينظمها الشعراء التشاديون وغيرهم في أشعار حزينة،  بل تعد محور القضايا الإسلامية وقطبها. والمسلمون رغم كل التمزق والانشطار والإنكسارات المتعددة تعود تلك القطع المتشظية لتعيد ترميم نفسها حول المسألة الفلسطينية، فالصراع في تلك البقعة لم يكن صراع أراض محتلة فحسب، بل صراع حضارات، ومواجهة سياسية، وحربُ عقيدةٍ، ومسألةُ بقاءٍ أو فناءٍ.


و"...فلسطين عينُ القلب من العالم الإسلامي لا جغرافيا فحسب، بل ودينيا أولاً وقبل كل شيء" (جمال حمدان، ص:١٥٤- ١٥٥).

 

 

تعليقات القراء
لاتوجد تعليقات على هذا المقال الى اﻷن

علق برجاء التدقيق اللغوي لما يكتب