محمَّــد إقبـــال فــي مرآة الأدباء والمفكرين العرب (2/1)
كتب  محمد عبد الشافي القوصي ▪ بتاريخ 20/03/2023 01:46 ▪ تعليقات (0) ▪ طباعة  أرسل لصديق  أرسل لصديق 

 

(مؤتمر شاعر الإسلام محمد إقبال، في رحاب إيوان إقبال بمدينة لاهور، في الباكستان، بالتعاون بين المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية في باكستان، والجامعة الأشرفية، وحكومة البنجاب المحلية، في المدة من 29-30 تشرين الأول (أكتوبر) 2016م). 

 

مقدِّمـــة:

       إنَّ هذا البحث يدور حول النجم الثاقب، والفلَك السيَّار، والكوكب الدُّريّ في عالَم الأدب والفن، والفكر والفلسفة، والسياسة والقانون.. إنه العلَّامة محمَّــــد إقبــــال.     إنه شاعر باكستان، وشاعر القارة الهندية، بلْ شاعر الإسلام، بلْ شاعر الإنسانية.. الشَّاعر الذي ملأ الدنيا، والفيلسوف الذي شغل الناس.

      نال "إقبال" ما لم ينله أحد سواه في القرن العشرين؛ من البحث والدراسة والشرح والنقد والتفسير، بمختلف اللغات، وشتى المذاهب، وفي سائر القارات. 

فقد كتب عنه معاصروه، وأشادوا بفكره، وتولَّهوا بشخصيته، وفي مقدمة هؤلاء: مولانا أبو الكلام آزاد، ومولانا شبلي النعماني، والشيخ أبو الحسن الندوي، ومحمد علي جناح، وطاغور، والسيد سليمان الندوي، وأبو الأعلى المودودي، ومسعود عالم الندوي، ومبشِّر الطرازي، والدكتور إحسان حقي الشامي، ومريم جميلة، والمفكر الباكستاني فضل الرحمن، وغيرهم.

لم يتوقف الأمر عند معاصريه، بلْ تخطَّى ذلك إلى عباقرة المفكرين والباحثين الغربيين، الذين توقفوا عند شواطئ فكره ومرافئ أدبه؛ الذي يخلب الأفئدة، أمثال: السير هاملتون جب، ومانويل فيشر، والشاعر الألماني هيرمان هيسه، والباحثة الألمانية آني ماري شميل؛ والمستشرق الإنجليزي نيكلسون الذي قال عنه: "لقد جَاءَ إقبالُ كرسول إنْ لم يكن لعصرِه فلسائرِ العصورِ".

ولا نكون مبالغين إذا قلنا: إنَّ (إقبـــال) نال إعجاب العرب أكثر من غيرهم من الشعوب والأمم الأخرى، وقد حظيَ بنصيب الأسد من اهتماماتهم الثقافية، وشغل ذاكرتهم الجمعية بصورة عجيبة؛ فهو الغائب الحاضر في المنتديات الأدبية والمؤتمرات الثقافية، وهو الذي ألهمَ الشعراء والكتَّاب، وهو الذي ألهبَ حماسة الفدائيين والمجاهدين، وهو الذي غُنِّيتْ أشعاره وقصائده في مختلف الحوادث وشتى المناسبات.

ليس هذا فحسب؛ بلْ لا يمكن حصر المؤلفات، والدراسات، والرسائل العلمية التي تناولت أدبه وفكره، وشخصيته، ومواقفه، وفلسفته في الحياة.. فهو القاسم المشترك بين الشعراء، والأدباء والكتَّاب، والنقَّاد، والأكاديميين؛ لاسيما في كليات التربية، والآداب، ودار العلوم، والدراسات الإسلامية، والمناهج الأزهرية، وغيرها.

ولا عجب أنْ يحتفي بــ"شاعر الإنسانية" عباقرة الفكر، وأرباب البيان، وكبار المفكرين، ومختلف الكتَّاب والمثقفين العرب بصفة عامة، والمصريين على وجه الخصوص؛ أمثال: طه حسين، وعباس محمود العقاد، وأحمد حسن الزيات، وأحمد زكي، وفتحي رضوان، وتوفيق الحكيم، والدكتور محمد حسين هيكل، وزكي مبارك، ورجب البيومي، وخالد محمد خالد، وحسين مؤنس، وأحمد شلبي، وأنور الجندي، ونجيب الكيلاني، وحسن الشافعي، وعبد الحليم عويس، وعبد اللطيف الجوهري، وغيرهم. بلْ ربما لا نجد كاتباً أوْ مفكراً  أوْ أديباً أوْ شاعراً؛ إلا وقد تناول شخصية (إقبال) بالدراسة المستفيضة، والتحليل العميق.. هذا؛ فضلاً عن الأطروحات العلمية التي أُنجِزتْ عنه بالجامعات المصرية والعربية والإسلامية.

لقد وجد هؤلاء في (إقبــال) ميلاد ثورة وفجرٍ جديد، ومصلِح آخر الزمان، وداعية وحدة، ومشروع نهضة، وحلقة وصل العرب بالعجم، وموضع فخار، ورمز عزَّةٍ وإباء، وقدوة للشباب، وقرة أعين للأجيال.

        أمَّـــا بعــــد؛ فإنَّ الحقيقة التي ينبغي تأكيدها؛ أنَّ السرَّ وراء الْتفاف الشعوب العربية حول أدب "إقبال" وهيامها بروائعه على هذا النحو؛ مرجعه إلى أنَّهم نظروا إلى "إقبال" كشاعرٍ من شعرائهم، وأديبٍ من أدبائهم، وفيلسوفٍ من فلاسفتهم؛ تغنَّى بمآثرهم، وتبنَّى قضاياهم، ولاسيما عندما ترجم أحاسيسهم، وعبَّر عن مشاعرهم، ونهل من تراثهم، ونافح عن تاريخهم.. فبادلوه حباً بحبٍّ جارف، وثناءً بثناءٍ منقطع النظير. 

أجل؛ فقد أحبَّ (إقبــال) العربَ، وزار بلدانهم، والتقى زعماءهم وقادتهم وعلماءهم، ونصحهم كثيراً، وحذَّرهم مراراً؛ وكان مما قاله في خطابه للعرب: "إنَّ حكمةَ الغرب قد أسَرت الأُممَ، وتركتْها سليبةً حزينة لا تملِك شيئًا. إنها مزقت وحدة العرب، واقتسمت تراثَهم. إنَّ العربَ لمَّا وقعوا في حبائلِهم تنكَّر لهم كل شيء، وقسا عليهم، ولم يجدوا من يرثي حالهم ويرفُقُ بهم، وضاقت عليهم الأرضُ بما رحبَتْ، وضاقت عليهم أنفسُهم. أيها العرب، قد مَنَّ الله عليكم إذْ جعلكم كالسيفِ البتَّارِ أوْ أحدَّ منه، وكنتم فيما قبْلُ ترعوْن الإبل، فأصبحتم مالكي أعنَّتها، فلوْ أقسمتم على اللهِ لأبَرَّكم، وهنالك دوَّتْ تكبيراتُكم وصلواتكم، وزمزمت حلبةُ حروبِكم ومغازيكم بين الخافقيْنِ، فارتجَّ ما بين المشرق والمغرب، فما أحسنَ تلك المغامراتِ! وما أجملَ تلك الغزوات!".

ثمَّ يمضي "إقبال" في استنهاضِ هِمَم العرب، وتذكيرهم بسر عزَّتهم، ومصدر قوتهم، فيخاطبهم قائلاً: "إنَّ اللهَ قد رزقكم البصيرةَ النافذة، ولا تزال فيكم الشرارةُ كامنةً، فقوموا أيها العرب، ورُدُّوا فيكم رُوحَ عمرَ بن الخطاب مرة أخرى، إن منبعَ القوة ومصدرها هو (الدينُ) منه يستمد المؤمنُ العزمَ والإخلاصَ واليقين، ما دامت ضمائرُكم أمينةً للسر الإلهي، فيا عُمَّار البادية، أنتم الحرَّاس للدِّين، إنَّ غريزتَكم العربية الإسلامية ميزانٌ للخير والشر، وأنتم ورثة الأرض، إذا تألَّق نجمُكم في آفاق السماء؛ أَفَلَتْ نجومُ الآخرين وطُوِيَ بِساطُهم، لن تسعكم الصَّحراءُ والفيافي، فاضربوا خيمتَكم في وجودكم الذى يسَعُ الآفاق".

جزاك الله خيراً يا "شاعر الإسلام"! وإنَّا على العهد محافظون، وفي الدرب سائرون، وبالهدي الحكيم مستمسكون، وبنصائحك عاملون، وسنظلُّ نردِّد مقولتك البليغة: "إذا رأيتَ النجومَ شاحبة منكدرة؛ فاعلم أنَّ الفجر اقترب".

*   *   *

حسبنا في (هذا البحث) الوقوف عند طائفةٍ من الأدباء والكتَّاب والعلماء والمفكرين؛ الذين أفصحوا عن مشاعرهم الجيَّاشة نحو ما جادتْ به قريحة "إقبال" من أدبٍ رفيع، وفنٍّ بديع، وفلسفةٍ إنسانية، ورؤى تنويرية، تهدي السائرين، وترشد التائهين، وتنبِّه الغافلين!.   

رضيَ الله عن (محمد إقبال) أديب العرب والعجم، وفيلسوف العصر، ومرآة الحضارة، ومفخرة المسلمين، وشاعر الإنسانية.. وأبصــــِر فســوف يبصــرون.

***

(إقبــــال) في مرآة الأدباء العرب 

    لا جرمَ أنَّ بيئة "محمد إقبال" الإيمانية، ونشأته تحت مظلَّة الإسلام؛ أمطرته بوابلٍ صيِّب من الإبداع الطيِّب، والألق الفنِّي، والتألُّق الشِّعري؛ الذي تبتهج به النفوس، وتسجد له القلوب، وتهيم به الأرواح.. يقول عن نفسه: "لمْ يستطع بريق العلوم الغربية أن يبهر لبي ويُعشِيَ بصري، لأني اكتحلتُ بإثْمِد المدينة المنوَّرة.. إنَّ تُربة المدينة أحبُّ إليَّ من العالم كله".

    محمد إقبال (1877- 1938م) عاش حياته مشبوب الحنين، مستطار اللُّب، هائماً بأمجاد المسلمين، يرسل شِعره كما الغيثُ الذي ينزل على الأرض الجُرُزِ، فتخرجُ به زرعاً يانعاً، وثمراتٍ مختلفاً ألوانها.. وفي هذا المعنى، يقول: "إنني هائم في شِعري وراء الشعلة التي ملأتْ العالم أمس نوراً وحرارة، وقد قضّيتُ حياتي في البحث عن تلك الأمجاد التي مضت، وأولئك الأبطال الذين رحلوا، وغابوا في غياهب الماضي.. إنَّ شِعري يوقظ العقول، ويهزّ النفوس، ويزرع الآمال في الصدور.. ولا عجب إذا كان شِعري يملأ القلوب حماسةً وإيماناً، وكان وقعه في النفس كبيراً وعميقاً؛ فقد سالتْ فيه دموعي ودمائي، وفاضت فيه مُهجتي".

 أجــل؛ لقد أيقظ شِعر "إقبال" العقول، وهزَّ النفوس، وفتح أبواب الأمل، وبشَّر بغدٍ مشرِق، ومستقبلٍ واعدٍ لأمَّتهِ.. مما جعل الملايين تلتف حول دعوتهِ الإصلاحية، من كل حدبٍ وصوب، باختلاف الأوطان والمذاهب والثقافات.

  ونظراً لحجم الدويّ الذي أحدثه فِكر "إقبال"، واتساع المساحة التي بلغها فنَّه، ومدى الصدى الذي يتردَّد حول سيرتهِ ومسيرته، وعمق إيماننا بصدق دعوته الإصلاحية.. فلنْ نتوسَّع في نقل آراء معاصريه، ودارسيه، ومادحيه، وناقديه؛ بلْ نكتفي بشهادة بعضهم، وقدر الشَّهادة قدر الشُّهود.

نعـــم؛ سنكتفي بشهادة نخبة من أرباب الأدب، وأساطين البيان، وسدنة الفكر، وأهل العِلْم والمعرفة؛ من عباقرة مصر، ونوابغ أرض الكنانة ... ماذا قالوا عن إقبال؟ وبماذا وصفوه؟ وكيف ثمَّنوا مشروعه الإصلاحي؟ وأين وضعوه بين الدعاة الثائرين؟ وما أثر دعوته الإصلاحية على حركات التحرر في المشرق الإسلامي؟ وما هو مستقبل مشروعه الفكري على الدعاة والمجاهدين والمصلحين؟  وماذا بقيَ من إقبال؟ وما هو واجبنا نحو تراثه الفكري والأدبي؟ وكيف نستلهم رؤاه الفلسفية والإصلاحية في مسيرتنا الحضارية؟

*   *   *

       لقد نجح الأديب الكبير (فتحــي رضـــوان) في التعريف بشخصية "إقبال" وتلخيص سيرته العلمية ومسيرته العملية، في قوله: “محمد إقبال رمز لأحسن ما في الحياة الإنسانية”.

وهذا ليس ببعيد؛ مما ذهب إليه (توفيـــق الحكيـــم) عندما قال: “إقبال مفخرة من مفاخر الشرق في عصوره الحديثة، فهو الخلاصة للمعرفة الكونية النابعة من الشرق، وللمعرفة العقلية الصادرة عن الغرب...، لذلك كان إقبال هو بحق المفكر المجدد في فهم الإسلام، والكاشف الصادق لجوهره العظيم”([1]).

وهو ذات المعنى الذي عناه (طــــه حسين) بقوله: "إقبال" كان يفخر بالعرب، ويشيد بهم، ويثني عليهم، ويتخذهم المثل الأعلى للإنسانية الجديرة بالوجود والحياة والبقاء".

 وقد رأى طه حسين أنَّ "إقبال" فرض نفسه على الزمان، وأن المسلمين احتاجوا إلى نحو عشرة قرون ليوجد بينهم ثانٍ للمعرِّي، فقال: "شاعران إسلاميّان رفعا مجد الآداب الإسلامية إلى الذّروة, وفرضا هذا المجد الأدبيَّ الإسلاميَّ على الزمان, أحدهما: (إقبــــال) شاعر الهند والباكستان، وثانيهما: (أبو العلاء) شاعر العرب"([2]).

وفي مقالة رائعة بعنوان: "تحية لذكرى إقبال"، جاءت ضمن كتاب «إقبال العرب على دراسات إقبال»، كتبها الأديب الكبير أحمد حسن الزيَّـــات –رئيس تحرير مجلة الرسالة- قال فيها: "لقد نبتَ جسمه في رياض كشمير، وانبثقتْ روحه من ضياء مكة، وتألَّفَ غناؤه من ألحان شيراز: إنسان لدين الله في العجم، يفسِّر القرآن بالحكمة، ويصوِّر الإيمان بالشِّعر، ويدعو إلى حضارة شرقية قوامها الله والروح، وينفّر من حضارة غربية تقدس الإنسان والمادة".

وقد أبرز الأستاذ الزيات دور إقبال في الدفاع عن الرسالة المحمَّدية، فقال: “إذا كان حسَّان شاعر الرسولe؛ فإنَّ "إقبال" شاعر الرسالة، وإذا كان لحسَّان مَن نازعه شرف الدفاع عن النبيّ محمَّد –صلوات الله عليه- فليس لإقبال مَن ينازعه شرف الدفاع عن الرسالة المحمدية في عصرنا...، وإذا كان في الشعراء الصوفيِّين من عطَّر مجالس الذِّكر بفضائل الإسلام, وشمائل النبوة, فليس فيهم مَن بلغَ مبلغ "إقبــــال" في فقه الشريعة, وعلم الحقيقة, والتأمُّل في كتاب الله, والنظر العلمي في كلام الرسول, والجمع بين قديم الشرق، وجديد الغرب في قوةٍ تمييز, وسلامة فهم, وصحة حكم...”([3]).

       هذا؛ وقد وقف الأديب والقاص الدكتور محمد حسين هيكـــل أمام فلسفة إقبال الشِّعرية، وما انطوتْ عليه من معانٍ بعيدة، وحِكَمٍ رفيعة، فقال: "لقد طلع هذا الرجل على العالَم الإسلاميِّ, وعلى العالَم كلِّه بفلسفةٍ جديدةٍ صاغها شِعراً, فإذا هي تهزُّ المشاعر والقلوب, وإذا هي تُثير كثيرين من عظماء العالم, فينظرون نظرات إعجابٍ إلى هذا المسلم الَّذي وُلد في الهند, ونشأ بين أهلها, ثمَّ أعلن على الناس فلسفةً شِعريةً سائغةً لا تتفق مع الفلسفة الهندية في شيء".

       ولعلَّ الشيخ (الصّـــاوي شــــعلان) من أفقه الناس بأدب إقبال، وأعلمهم بشِعره، بلْ إنه أفضل مَن ترجم روائع إقبال إلى العربية... لذا؛ فقد كانت شهادته ذات دلالةٍ بعيدة، وقيمةٍ كبيرة؛ إذْ يقول: "لمْ يهتم شاعرٌ أعجميّ قبل (إقبال) بأمجاد العرب والإسلام اهتمامه بهما, فهو الَّذي فتح الباب على مصراعيه في هذا المجال أمام الَّذين عاصروه ومن جاء بعده من الشعراء. تكلَّم عن مجد العروبة, وأثر الإسلام في رقيِّ الأمم, وتناول قضايا عربية بحتةً, مثل قضية فلسطين, وسجَّل أمجاد العرب في صقلية, وقرطبة, ونعى على العرب تفرقهم, ووجَّه إليهم في دواوينه أكثر من خطاب...".

أمَّا عملاق الفكر والأدب العربي عبــاس محمود العقَّــاد؛ فقد ذهب إلى أبعد مما ذهب إليه زملاؤه ومجايلوه في تحليل جوانب العبقرية في شخصية إقبال، فقال: "إنَّ إقبـــال هو طرازُ العظمة الّذي يتطلبه الشرق في الوقت الحاضر, وفي كلِّ حين؛ لأنها عظمةٌ ليست بالدنيويَّة المادِّيَّة, وعظمة ليست بالأخروية المُعرِضة عن هذه الدنيا, وهو زعيم العمل بين العدوتَيْن من الدنيا والآخرة، قوَّام بين العالمين كأحسن ما يكون القوَّام".

"إقبـال" شاعر نابغة وفيلسوف مُبدع

       في كتابه (إقبال: سيرته وفلسفته وشِعره) يروي المؤلف العلَّامة عبد الوهـــاب عـــزام حكايات عجيبة عن عبقرية "إقبال" ونبوغه، وجهاده، وهِمَّتهِ العالية؛ فوصفَ "إقبال" بأنه شاعرٌ نابغة، وفيلسوف مُبدع، شاع ذِكره وانتشر شِعره وفلسفته في الهند، خاصةً بين المسلمين فيها، ثمَّ اتسع صيته وشاعت آراؤه في العالم، لاسيما بعد أن قامت دولة باكستان، وهي حقيقة تخيلها والناس منه يضحكون، ويقظة حلم بها والبائسون منه يسخرون، ولا يزال أنصاره وتلاميذه يكثرون على مر الأيام إعجاباً بفلسفته؛ فلسفة الحياة والأمل والعمل، وإكباراً للمفكر المؤمن، والفليسوف الذي لا يأسره الزمان، ولا يخضعه تقلُّب الحدثان، والشاعر الذي ينفخ الحياة في الموات، وينضر في القفر ألوان النبات، ويشعل الجمر الخامد في الرماد الهامد”.

ولمَّا كان "عـــزَّام" شديد الإعجاب بشخصية إقبال الصُّوفية، أراد أن يُترجِم أعماله ترجمةً وافية توفِّيه حقَّه، وتقدِّم لفهم دواوينه مُترجمَةً إلى العربيَّة، وذلك بعد سنواتٍ مرَّت على وفاته التي هزَّت "لاهور" والعالم الإسلامي بأسره عام ١٩٣٨م. وقد عرض "المؤلف" حياة إقبال بدءاً من نشأته الأولى وأسرته، وكيف أسهمتْ أسفاره في نموِّه الفكريِّ واتساع ثقافته متعلِّماً ومعلِّماً، وأثر ذلك على شِعره وفلسفته. وقال عنه "كان إقبال صاحبَ مذهبٍ فريد في الشِّعر والفنون، فالفن عنده هو الذي يمدُّ الإنسان بإلهامٍ لا ينقطع، ويقوِّي ذاتيَّته التي هي مقصود الحياة، وهذه الروح أسهمت في جعل كثير من قصائده أقرب إلى الفلسفة منها إلى الشعر([4]).

        رائـــد الوعــــي الإنساني:

   في كتابه (رواد الوعي الإنساني في المشرق الإسلامي) اختار الدكتور عثمان أمين([5]) أربعة عباقرة؛ من جنسيات مختلفة، تركوا أثراً كبيراً، يندر أن يكون لهم نظير في آداب الأمم الأخرى، هم: (الأفغاني، ومحمَّد عبده، والكواكبي، وإقبال) الذين قادوا حركة التحرر الفكري في العالم الإسلامي، ونبَّهوا الناس إلى الأخطار المحدقة بهم في الخارج والداخل...، فالمبادئ التي دعا إليها هؤلاء النوابغ، هي ذاتها المبادئ الضرورية لقيام وعي الإنسان بما هو إنسان: كرامة الإنسان ويمثلها الأفغاني، تنوير الأذهان ويمثلها محمد عبده، صيحة الحرية ويمثلها الكواكبي، فلسفة الذات ويمثلها إقبال. 

والواقع التاريخي خير شاهد على ذلك؛ فقد قيل في وصف جمال الدين الأفغاني: إنه رجل "يتناول السوط بيمناه، ويوزِّع الثورة بيسراه". وقيل عن محمَّد عبده: "إنَّ دعوته لتحرير الفكر من قيد التقليد تفوق ما صنعته الجيوش من فتح البلدان أوْ رد العدوان". وقيل عن الكواكبي: إنَّ "كتابه طبائع الاستبداد من أبرز الكتب التي عرفها الفكر العربي في العصر الحديث عن الحرية، فقد كان ينفخ الروح في الفكر والسياسة القومية العربية". أمَّا دعوة إقبال؛ فقد وصِفتْ في حينها بأنها ضرب من الجنون، لكن سرعان ما استجابت لها النفوس، حتى أصبحت حقيقة واقعة بإنشاء "باكستان" دولة إسلامية مستقلة.

في حديثه عن  العلَّامة (محمَّد إقبال) الذي أفرد له أكثر من أربعين صفحة من الكتاب؛ يقول عثمان أمين: يظل "إقبال" رائد الوعي الإنساني في الفلسفة والدِّين، وشاعر وفيلسوف وهب عقله وقلبه للمسلمين، والبشر أجمعين.

إنَّ شخصية "إقبال" شخصية جذابة، لها على القراء سحر عجيب، ومرجع ذلك أنه شاعر يغوص على المعاني الفلسفية العميقة، فيحسِن تناولها وسبكها، ويجلِّيها للناس ببيانه الألمعي، وشِعره الناصع، وتشبيهه الرائق، فيجعل كتبه –على غزارة مادتها وعمق موضوعاتها- روضةً غنَّاء تسرُّ الناظرين.

وعن فلسفة الدِّين عند فيلسوف باكستان؛ يقول عثمان أمين: كان محمد إقبال من أكثر مفكري المسلمين إحاطة، ومن أوفرهم ابتكاراً في الوقت ذاته، كان واسع المعرفة بمذاهب الفكر في الشرق والغرب؛ فأمدته هذه المعرفة بمادة خصبة صاغتها عبقريته مذهباً صافياً جمع فيه بين العلم والدِّين والفن، وكانت فيه نفحات من التصوف الإسلامي.

إن فلسفة إقبال في جوهرها ذات طابع ديني عميق، وهي في جوهرها تمجيد للإسلام، وبعث للحياة والقوة في المسلمين، وتبشير لهم بمستقبل مشرق وفخار؛ إذا ساروا في حياتهم على هدي دينهم الحنيف.

ظل "إقبال" متغنياً بمآثر الإسلام، وفي غنائه دعوة إلى النهوض، وحث الخطى على مواصلة السير مع القافلة، حيث يقول: "الغاية القصوى للنشاط الإنساني هي حياة مجيدة فتية مبتهجة، وكل فن إنساني يجب أن يخضع لتلك الغاية، وقيمة كل شيء يجب أن تحدد بالقياس إلى تلك القوة على إيجاد الحياة وازدهارها، وأعلى فن هو ذلك الذي يوقظ قوة الإرادة النائمة فينا، ويستحثنا على مواجهة الحياة في رجولة...".

إنه "يجب على أمم الشرق أن تدرك أن الحياة لا يمكن أن تغيِّر ما حولها، حتى يكون تغيراً في أعماقها، وأن عالماً جديداً لا يستطيع أن يتخذ وجوده الخارجي، حتى يوجد أولاً في ضمائر الناس؛ هذا ناموس الكون الثابت الذي بيَّنه القرآن الكريم في كلمات بليغة يسيرة، حين قال: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد:11].

ويرى المؤلفُ أنَّ "إقبال" كان شديد الإيمان بأهمية الدِّين العظمى، والأثر الفعَّال في صياغة حياة الشعوب والأمم، وأنَّ الإسلام رسالة إنسانية، ليس لها حدود زمانية أوْ مكانية، وأنَّ به قوة كامنة قادرة على تحرير النفوس البشرية من قيود الأجناس والألوان والعصبيات، وبذلك أعاد إقبال إلى الأجيال الجديدة من المسلمين ما افتقدوه من الثقة بالثقافة الإسلامية...، فخلاصة رسالة الإسلام عند  إقبال، هي: إقرار الحرية، وتدعيم العدالة، وتوطيد المحبة بين البشر.

لقد كان "إقبال" من أشد الناس وطنية، وأرهفهم إحساساً بآلام مجتمعه، فعمل جاهداً على تحرير وطنه من الاحتلال الأجنبي، كما كان شديد الحساسية والألم لِما آلتْ إليه أحوال المسلمين، فكان دائم التفكير فيما يعلي من شأنهم، ويجعلهم أمة حية قوية...، فقد كان صاحب فكرة إنشاء "باكستان الإسلامية". فالهدف الذي كان يصبو إليه هو كما قيل: "إشهاد العالم أُمَّة مثالية، تؤثر في حياة المسلمين جميعا، وقد يمتد أثرها إلى سائر أقطار المعمورة".

هذا؛ ويؤكد عثمان أمين أنَّ "إقبال" لم يكن يقف بفكره عند مرحلة ذلك الضرب من القوميات والإمبراطوريات التي تقضي على عواطف المحبة والأخوة، وتبذر بذور الحروب والبغضاء، بلْ كان يحلم بعالم مطمئن لا يخضع لسلطان السياسة، ولا يساوره الهم والخوف واليأس؛ عالم سعيد يهتدي بهدي الدِّين، ويؤمن بالقيم الرفيعة، ويجعل المادة خادمة للروح؛ لأنَّ المادة ظلمة وتشتُّت وفناء، أمَّا الروح فهي نور ووحدة وبقاء.

هذا؛ ويرى "إقبال" أنه لا أمل للإنسانية في تحقيق السلام إلَّا بأنْ تعمل على التوفيق بين عقل "الغرب" وقلب "الشرق"، والنهوض لإقامة دعائم عالم جديد تسوده معاني الحب والعدالة والأخوة الإنسانية... تلك هي الرسالة التي وجهها "فيلسوف الإسلام" إلى ضمير الإنسانية في كل زمان ومكان!

 

"إقبـــال" الشَّــاعــر الثائر:

في كتابه (إقبال الشَّاعر الثائر) يقول الأديب والروائي الكبير نجيب الكيلانــــي([6]): إن إقبال شاعر الإسلام، وفليسوف كبير، وصاحب فكرة إنشاء دولة باكستان، وهو أول أديب مسلم في العصر الحالي، استطاع أن يستلهم الإسلام في وضع فلسفته المشهورة فلسفة الذات أوْ (خودي)، وكان شِعره وعاء لهذه الفلسفة التي آمن بها، ودعا إليها في صدق وحرارة، ولمْ يحظَ شاعر أوْ فيلسوف مسلم بشهرة تضارع شهرة "إقبال" في هذا العصر”.

هذا؛ ويرى نجيب الكيلاني أنَّ إقبال "لم يرِد للشِّعر أن يكون فلسفةً محضة، فيُجلب من رياض الزهر، وهمسات النسائم، وغفوات النجوم؛ إلى مجالس الجدل وصوامع السفسطة، بلْ يريد له أن يمتزج بألوان الفكر، وصادق النظرات، وحقائق الوجود، وكُنه الكائنات، وأن يُناجي النسائم، ويصقل العقول، ويسطّر وثائق التحرير والكفاح، ويحكم في قضايا الناس والمدنيات...، فإقبــــال ينشد مزج الخيال برحيق الحقائق، والتقاء العقليات مع العاطفيات. وإنَّ مذهبه الشِّعري والفكري؛ قائم على الثورة والحركة والقلق، وعلى التجديد وتحطيم القيود وتحرير "الذات"، يقول: "كل حياةٍ لا تجديد فيها ولا ثورة، أشبه بالموت، وإنَّ الصراع هو روح حياة الأمم، وإنَّ أمةً تحاسب عملها في كل زمان؛ سيف بتَّار في يد القدر؛ لا يقاومه ولا يقف في وجهه شيء".

داعيـــة الوحدة والتضامن الإسلامي

من جانبه؛ يقول الدكتور حسين مجيب المصري –عميد الأدب الإسلامي المقارن، ورائد الدراسات الشرقية-: "إنَّ عبقرية إقبال لا تخفى؛ لأنه علم مرموق المنزلة، وله ميزة على كثيرٍ من المصلحين الإسلاميين بأنه جمع بين ثقافة الشرق والغرب، وتجاوز عِلمه وفكره الشرق الإسلامي إلى الغرب، وبذلك عرض على الغربيين صورةً واضحة المعالم، ناطقة بالحق عن الإسلام وحضارته المزدهرة التي شكَّلتْ كياناً لحضارة الغرب، وبذلك فقد أطلع الغربيين على ما لم يكونوا يعلمون!. وإنَّ "إقبال" جمع في نزعته الإصلاحية بين العقل والقلب في نسق جميل، فتأتَّى له بذلك أنْ يعرض في مؤلفاته البدائع والروائع".

وفي كتابه (الأندلس بين شوقي وإقبال)([7]) يذهب الدكتور حسين مجيب المصري إلى أنَّ لإقبال صلة أخرى بالعرب في مصر، فقد اتفق له أن اجتاز القاهرة في سفره إلى بيت المقدس لحضور المؤتمر الإسلامي، وفي مصر استقبلته "جمعية الشبان المسلمين"، وتلقَّته بالتوقير والتقدير، حيث قدَّمه الدكتور عبد الوهاب عزام إلى الحاضرين، فأنشد أبياتاً من شِعره؛ فوقعتْ من نفوسهم موقع الإعجاب، ولعلَّه أول شِعر عُرِفَ له في بلاد العرب.

ولمَّا توفي إقبال؛ قام الدكتور عـــزام بتأبينه في بيت المقدس، وقال: إنه شاعر الإسلام العظيم، وينبغي أن يُنعى إلى المسلمين كافة من "بيت المقدس" قِبلة المسلمين الأولى.

ومما يدلُّ على أنَّ "إقبال" كان وثيق الصلة بأهل مصر؛ لِما لمصر من مكانة بين الشعوب العربية؛ أنه وجَّه خطاباً للملِك فؤاد "مِلك مصر" حينما أُشيع نبأ تنصيبه خليفة للمسلمين؛ ونصحه بأنْ يقتدي في عدله بالفاروق عمر بن الخطاب، ومما أوصاه به، قوله:

وما تلك الخلافة غير فقرٍ
تمسَّك يا فتى دوماً بفقرٍ


 

 

له تاج فكان دوام أمر
بغير الفقر مُلْكك عند قبر

 

هذا؛ ويرى الدكتور مجيب المصري أنَّ "إقبال" كان يخشى على العرب من مؤامرات الاستعمار، فظلَّ يحذِّرهم من مطامع الغرب، ويدعوهم إلى الوحدة والتضامن، ونبذ الفرقة والشتات، لاسيما أنه عرف المستعمرين عن قرب، وله معهم في الهند تجربة طويلة، فهو يبني حكمه على خبرته بهم في بلده وغيرها من البلاد.. إنه بلا شك يريد الخير كل الخير للعرب، وينصح لهم ألَّا يتردَّوا فيما ينصبه المستعمرون من حبائل.

وفي كتابه "جاويد نامه" ذكَّر "إقبال" ملوك العرب بما استخلفهم الله فيه، وأوصاهم بإصلاح حال شعوبهم بالوقوف عند حدود الدِّين، وذكَّرهم أيضاً بأنَّ صلاح دنياهم مرهون بصلاح دِينهم، وتمنَّى لوادي البطحاء أنْ ينجب مثل خالد بن الوليد، وهتف بهم هتاف من يرغب في تحريك هِممهم، واستنهض عزائمهم، وحثَّهم على مجاهدة الغربيين الذين يستعبدون شعوبهم، وذكَّرهم بما ضاع من حقهم، ووجوب أنْ يستردوه ممن سلبوه، فقال:

أُمَّةَ الإيمان يا سود الجلود
فإلامَ تجهلون سِرَّكم


 

 

منكمُ أستافُ عِطراً للخدود
وتولُّون سواكم أمركم؟

 

بهذه الصراحة الصارخة؛ يوقِظ من بيدهم مصائر العرب من سباتٍ غفلتهم، ويحذِّرهم من خور عزيمتهم.

وفي كتابه (ضرب الكليم) يضرب "إقبال" على ذات الوتر، ففي مواضع عدة منه يتوجه بالخطاب إلى أمراء العرب، وحديثه معهم حديث ناصح لهم، لا يبغي من وراء هذا النصح سوى خيرهم وفلاحهم.. إنه يذكِّرهم بأنَّ العرب كان لهم فضل السبق في الدخول إلى دِين الله، وأنَّ أرضهم أشرقت به؛ فانتشر منها إلى الآفاق، فيقول لهم: إنَّ شر الأمور أن تخضعوا، وتتقاعسوا في حاضركم عما كان عليه أسلافكم الأوائل. 

وفي الكتاب ذاته، تحت عنوان "الشام وفلسطين"؛ يذكر مدينة حلب، وكيف دخلها الفرنجة بتقاليدهم الرذيلة، فكره أن يكون ذلك في بلد عربي، وشدَّد النكير على الاستعمار البريطاني وسياساته الخادعة للعرب.

       وتحت عنوان "إلى عرب فلسطين" أيقظ هِممهم، وذكَّرهم بحرصهم على حقهم من الضياع، وأن يجاهدوا المغيرين المغتصبين، كما ذكَّرهم كيف استطاع العرب الأوائل أنْ يطوِّعوا التاريخ لإرادتهم، كما أنكر جدوى المؤتمرات في حل مشكلة فلسطين؛ فقال: "إن لليهود قبضة قوية يشددونها على مجرى الدم في سواعد أهل الغرب، وبذلك تكون لهم السيطرة كل السيطرة.. وإذا زعم اليهود أن لهم حقاً في فلسطين؛ فعلى العرب أن يطالبوا بحقهم في إسبانيا".  (يتبع:2/2)


([1]) توفيق الحكيم، "إقبال العظيم"، من كتاب "محمد إقبال قصائد ودراسات".

([2]) طه حسين، إقبال فرض نفسه على الزمان، مجلة الوعي الباكستانية.

 ([3])  أحمد حسن الزيات، تحية لذكرى إقبال، كتاب «إقبال العرب على دراسات إقبال».

([4]) عبد الوهاب عزام، فلسفة إقبال وأساسها، من كتاب "إقبال العرب على دراسات إقبال".

([5]) عثمان أمين، رواد الوعي الإنساني في المشرق الإسلامي.

([6])  نجيب الكيلاني، إقبال الشاعر الثائر.

([7])  حسين مجيب المصري؛ الأندلس بين شوقي وإقبال، الدار الثقافية للنشر، 1999م، القاهرة.

تعليقات القراء
لاتوجد تعليقات على هذا المقال الى اﻷن

علق برجاء التدقيق اللغوي لما يكتب