صاحب الفكرة الإسلامية الصافية
في كتابه "منهج الفن الإسلامي"؛ يقول الأستاذ محمد قطــــب: "إقبال فيلسوف مسلم، له في عالم الفلسفة والفِكر إنتاج ليس بالقليل، ولكنه كذلك شاعر، وفي غير قليل من شِعره يَمتزِج الشعر بالفلسفة، وتَلمس بصورة واضحة أنه يصوغ أفكاره -أوْ بالأحرى تَجارِبه الفلسفية- في شِعره، لكنه حتى عندئذٍ لا يُعطيك تجرِبة فلسفية ذهنيَّة، وإنما يعطيك تجربة عاناها في شعوره، وانفعل بها وجدانه، وجاشت بها نفسه، فعبَّر عنها في نَسقٍ مُنغَّم موزون، ولم يُعبِّر عنها بالنثر.
ثم إن له إلى جانب ذلك شعراً خالصاً تَحرَّر من جفاف الفكر، ومن قيد الذهن، وانطلق في خفَّة وطلاقة يُعبِّر عن حرارة الوِجدان، وهو في معظم حالاته يُعبِّر عن تَصور مسلم.. وأشد ما يَروعه من الفكرة الإسلامية الصافية، وأشدها ما تنفعل به نفسك كذلك؛ هو الحركة الحية في كل شيء في هذا الوجود.
إنه لا يوجد شيء ساكن على الإطلاق، لا في الأحياء ولا في غير الأحياء، كل شيء حي، وكل شيء متحرِّك، وكل شيء يقتحم الكون لكي يوجد؛ لأنه طاقة، والطاقة لا تُطيق السكون، وإذا أراد شيءٌ لنفسه السكونَ، فقد أراد الموت، وقد خرج بذلك من الناموس.
وشيء آخر من الفكرة الإسلامية الصافية يَروعه كذلك وتنفعل نفسه، هو النفس الإنسانية، فالإنسان في حِسِّ إقبال طاقة كونيَّة ضخمة، تتمثَّل فيها كل طاقات الوجود، إنها قَبَس من النور، قبس من القدرة الخالقة؛ وذلك معنى أن الإنسان خليفة الله في الأرض، وهو بذلك أثمن ما في الوجود كله، وأقدر ما في الوجود كله، وذلك حين يَستمِدُّ من الله، فهكذا خُلِقتْ الروح الإنسانية أو النفس، بحيث تستمد من قوة الأزل والأبد؛ فتُشرِق وتَشتعل، وتصبح طاقةً كونيةً مريدة فاعلة"([1]).
عبقريـــة إقبــــال المؤمنة
هذا؛ وقد أفصح الأديب الشَّاعر عبد اللطيف الجوهري عن مدى إعجابه يشاعرية إقبال وفِكره، وقد عبَّر عن ذلك بالشِّعر والنثر معاً؛ فكتب يقول: إنَّ "إقبال" رجلٌ عبقري، لا يكاد يُشبهه أحدٌ من أفذاذِ العصر الحديث؛ فما تمتَّع به من قدراتٍ ومواهب، وما اضطلع به من مهام لخدمة قضايا المسلمين في شبه القارة الهندية بخاصة، وقضايا المسلمين في العالَم بعامة؛ بوَّأَه منزلةً يغبِطُه عليها رجالاتُ الأمَّة وأفذاذُها، وقد غلبَتْ شهرتُه كشاعرٍ على شهرتِه كفيلسوفٍ ورجُلِ دولةٍ وقانون؛ لِما تميز به شِعره من سموِّ المعنى ونُبل الغاية، وهو الشاعر الذي أوقف شِعرَه على قضيةِ نهوض المسلمين ووحدتهم؛ ليستردُّوا حقوقَهم، وليضطلعوا بدورِهم في هداية البشرية التي أعمَتْها الأطماعُ المادية عن قِيَم الحقِّ والعدل والحرية، والأخْذِ بيد المستضعَفين، ونُصرة المظلومين، ولِما تميَّز به شِعره –أيضاً- من قوة التأثير في النفس؛ لِما اشتمل عليه من قوةِ العاطفة، وصِدْق النيّة، وسلامة الطويَّة، ولِما ضمَّنه من عمقِ الفكرة، وثاقب النَّظرة، وجمال الصياغة، وروعة الخيال.
لذا؛ لم يكنْ غريباً أن يلقِّبَه حكيم القارة الهندية، مولانا أبو الحسن الندوي شاعرَ الطُّموح والحبِّ والإيمان"، كما لقَّبه الأديب الدكتور زكي علي شاعرَ الحكماء وحَكيم الشعراء"؛ فإقبال -رحمه الله- شاعرٌ بين الفلاسفة، وفيلسوف بين الشعراء، ورجُل دولةٍ وقانون عند الساسة وأهل الحُكْم، ولكن أهم ما يَلفت النظر في شخصية إقبال وعبقريته؛ تلك المقدرة على استشراف آفاقِ المستقبل، وتحذيره من الأخطار المستقبلية في مسيرة الأمَّة، وليس ذلك بمستغربٍ على المؤمن المفكِّر الذي مَنَّ الله –سبحانه- عليه بمثل تلك القدراتِ الفذَّة، وتلك الطاقاتِ الإبداعيةَ، فنظر إلى المستقبل بنورِ الله.
وقد استنتج الأستاذ عبد اللطيف الجوهري أنَّ وراء عبقرية إقبال المؤمنة، وشاعريته المحرِّكة لطاقاتِ البعث والنهضة واليقظة: بيئةً صالحة، وتربية نبيلة، وتعليماً ناجحًا، وثقافة موسوعية، جَمعت في مزيجٍ عبقري حكمةَ الشَّرق والغرب، وحملت لواءَ الإصلاح والتجديد على طريق الإسلام ونور القرآن، وهَدي النبيّ المصطفىe، المثلِ الأعلى للإنسان الكامل، والسَّلف الصالح من القادة المتخرِّجين في مدرسة النبوة، والتابعين بإحسان، والصالحين.
(إقبــــال) في مرآة العلماء والمفكرين
تجاوز (الأزهـر الشريف) ألف عامٍ؛ ولا يزال منارة العلم المضيئة، ومصنع الدعاة إلى الله في مشارق الأرض ومغاربها؛ بتراثه وإمكاناته، وعلمائه، وجامعاته التي يتخرَّج فيها آلاف الأساتذة والمعلّمين، والدعاة الذين يحملون دعوة الإسلام إلى كل مكان.
فالأزهر حامي حِمى الدِّين، وحارس لغة القرآن، وناشر العلم والثقافة، وحامل لواء التربية والتوجيه.. فمن أبنائه المعلِّمون والقضاة والوعّاظ والأئمة والخطباء والكُتّاب والشعراء والمؤلفون والباحثون والعلماء والرياضيون والطبيعيون والإعلاميون والفلاسفة والثوّار!
ومنذ إنشائه؛ احتفظ بشخصية متفردة, عادلتْ بين النقل والعقل, ووازنتْ بين التراث والتجديد, وآختْ بين القديم والحديث, ومضت السنون بالأزهر وهو يجمع في إطار شخصيته المتفردة جموع المسلمين في شرق الدنيا وغربها, وخلال تلك السنين كان الأزهر مركز الفاعلية في العالم الإسلامي بغير استعلاء، ولا زال التاريخ يسطِّر بحروفٍ من نور دور الأزهر نحو المسلمين غير الناطقين بالعربية، وجهوده لمساعدة الأقليات الإسلامية في الحفاظ على هويتها من خطر الذوبان.
لذا؛ فقد كان (محمـــد إقبــــال) حفيًّا بمصر، ومتيَّماً بأزهرها الشريف، وقد هام بها حباً أكثر من أيّ بلدٍ إسلامي آخر، وهو القائل: "إنَّ الأزهر الشريف ذو أهمية كبيرة في العالم الإسلامي، فهو مركز علمي فريد، لذلك يسارع إليه كل ظمآن؛ كيْ يغترف من بحاره، وهو المشار إليه عند كل حاجة علمية ودينية".
من هنا؛ سارع "إقبـــال" إلى عقد الصلات، وتأكيد الروابط مع علماء الدين، وأرباب الأدب والفكر والسياسة.. وقد بادله علماء مصر ووجهاؤها حباً بحب، وثناءً بثناء؛ لأنه كان ينهج نهجهم، وينهل من معينهم، فلم تكن هناك ثمة فجوات فكرية، ولا مزالق مذهبية.
ولا نكون مبالغين إذا قلنا: إنَّ الأزهريين يحبون "إقبال"، ويحتفون بتراثه الأدبي والفكري، ويدرسون تراثه في المعاهد والجامعات كواحدٍ من أكبر المصلحين الإسلاميين في العصر الحديث؛ كالأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، والشيخ محمد الغزالي، وغيرهم.
لقد كان "إقبال" على يقين بأنَّ الأزهر الشريف وجامعته العريقة؛ النموذج الأمثل الذي ينبغي أن يحتذى في كل أقطار العالم الإسلامي؛ من هنا فكَّر في إنشاء معهد إسلامي في إقليم "بنجاب" شبيه بالأزهر الشريف، وقد بعث رسالة بتاريخ 15/8/1937م إلى شيخ الأزهر آنذاك الإمام محمد مصطفى المراغي، وطلب منه أنْ يبعث إليه مبعوثاً من علماء الأزهر ليعاونه في إنشاء ذلك المعهد.
فأجابه الشيخ المراغي برسالة مفادها، أنه لن يتأخر في تلبية هذا الطلب الكريم، ولكن بعد عودة البعثة العلمية التي سافرت إلى إنجلترا، والتي تجيد التحدث بالإنجليزية.
روح "إقبــــال" ترفرف على الأزهر الشريف
لا جرمَ أنَّ "علماء الأزهـر" هم ورثة النبوة، وحملة الرسالة هم هداة الخلق، ودعاة الحق، ورسل الخير، ومفاتيح الهدى، ومصابيح الدجى. وإنَّ وظيفتهم أشرف وظيفة في الوجود؛ لأنها وظيفة النبيين والمرسلين؛ الدعوة إلى الله على بصيرة، وقيادة الناس إلى نور الله وصراطه المستقيم، وتذكيرهم بأيام الله، وتذكيرهم –كذلك- بأعلام الأمة، ورموزها الفكرية والثقافية.
من هنا؛ كان نبأ وفاة العلَّامة محمد إقبال في الحادي والعشرين من شهر أبريل سنة 1938م، له أثر بالغ في نفوس المصريين، والأزهريين على وجه الخصوص؛ أولئك الذين يعرفون منزلته الأدبية، ومكانته العالمية.. ومن أشهر من رثاه صديق الشَّاعر الأديب محمد عبد الغني حسن، فنظم مرثيةً شجية، وبعدها كتب مقالة نثرية مستفيضة، قال فيها: "إلى الروح الخالدة؛ أهدي هذه الكلمات، بعد أن نفضتْ عنها ثوب الجسم الكثيف، وصعدتْ ترفرف في عالمها العلوي الخفيف اللطيف؛ إلى الذي كانت لنا في حياته عظات، وهو الآن أوعظ منه حياً؛ إلى الذي ملأ الوجود بشِعره، فغنَّى على إشراقة الصباح".
كما نعته "جماعة الأخوة الإسلامية" برئاسة الدكتور عبد الوهاب عزام في حفل تأبين واسع، وقد نظم عزَّام أبياتاً من منظومته "اللمعات" التي أهداها إلى روح إقبال، هذه المنظومة تقع في (482 بيتاً)، ثمَّ واصل عزَّام التعريف بإقبال وفلسفته ودعوته الإصلاحية.
ذِكرى العلَّامـــة/ محمد إقبـــال
هذا؛ وقد احتفلت جامعة الأزهر بذكرى ميلاده التسعين، وذلك في 28/9/1967م، وقد حضر هذا الاحتفال الشيخ حسن مأمون مفتي الديار المصرية، والشيخ أحمد حسن الباقوري مدير جامعة الأزهر، وكبار العلماء، وأعضاء هيئة التدريس، وسفراء الدول الإسلامية.. وقد نُشِر كتاب تذكاري بهذه المناسبة، بعنوان "إقبال فيلسوف الإسلام وشاعر باكستان".
من جانبه؛ فقد رأى الشيخ أحمد الشرباصـــي في نموذج "إقبال" الشخصية المتفردة في عالم الشِّعر والشعراء، إذْ يقول: "لمْ أر شاعراً يتصوَّر للمسلم صورةً مثاليةً عاليةً كتلك الصُّورة التي يرسمها "إقبـــــال" في مواضع كثيرةٍ من شِعره, إنَّه يصوِّر المسلم حيناً كأنَّه ماءٌ في رقَّته, وحديدٌ في شدَّته يهزأ بالصعاب, ويعلو على التراب, ويسري مع الأفلاك, ويجري مع الأملاك... وأظنُّ أنه ما وقع كتابٌ في يد إقبال إلَّا التهمه كما يلتهم الطعام".
"إقبال" المجاهد من أجل إعلاء كلمة الله
يقول صاحب الفضيلة، الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر السابق: "إقبال رجل قضى حياته كلها مجاهداً من أجل إعلاء كلمة الله -عزَّ وجل-، ومن أجل خدمة دينه، وخدمة أمته. ولعلَّ أشعاره التي تُرجِمتْ إلى العربية؛ فيها من الحِكم الرفيعة، والمعاني السامية، والغايات النبيلة التي سخَّر قلمه وعقله وفكره من أجل نشرها، فقد كان إقبال متجرداً من العنصرية البغيضة، ومن العصبية الذميمة. لقد كانت روحه الوثَّابة ليست في خدمة دولته وحدها، إنما كانت في خدمة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وعندما تحتفل سفارة باكستان بالتعاون مع الأزهر الشريف في إحياء ذِكرى إقبال؛ إنما نقصد من وراء ذلك تذكير أبنائنا بهؤلاء الرواد الذين خدموا دينهم وخدموا أمتهم، وأنْ نذكِّرهم بجهاد "شاعر الإسلام"، وبما كان عليه من خُلُقٍ قويم، وأدبٍ وفير، ودعوته إلى الله سبحانه بالحكمة والموعظة الحسنة"([2]).
"إقبال" أهم شخصية أثَّرتْ في الأدب الإسلامي
بينما ذهب الدكتور أحمد عمر هاشم مدير جامعة الأزهر الأسبق: إلى أن "شخصية إقبال من أهم الشخصيات التي أثَّرتْ في الفكر الإسلامي والأدب الديني بعاطفةٍ جياشة، وعقل حصيفٍ، وذكاءٍ خارق، وقوةٍ روحيةٍ عظيمة.. وإنه لجدير بأن نحتضن محفله وذِكراه، وأولى مَن يحتضن ذلك هي جامعة الألف عام؛ جامعة الأزهر الشريف. وقد كان لبيئته ولعقيدته أكبر الأثر في تكوينه الفكري والثقافي؛ فقد استمدَّ ثقافته من القرآن الكريم، والسنَّة المطهرة، ولم يجنح إلى المذاهب المادية، ومن هنا كان البوْن شاسعاً بينه وبين سائر الفلاسفة والأدباء... فانطلق بفكره الإسلامي الصافي من الشوائب؛ يدعو إلى منهجه الإصلاحي القائم على وحدة المسلمين وتضامنهم، لمجابهة أعداء الأمة، ومقاومة كل أشكال الجهل والتخلف والغزو الفكري... وقد صاغ فكره وفلسفته وأدبه في قالب أدبي جذاب، وفي صور الفلسفة المعرفية المشرقة حيناً آخر، وكل ذلك كان على عِلْمٍ وبصيرةٍ وهدى"([3]).
من جانبه؛ أوضح الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي عميد كلية اللغة العربية الأسبق، ورئيس رابطة الأدب الحديث بالقاهرة: "أنَّ الصلة بين إقبال والأزهر؛ قامت منذ حياة إقبال عندما كان متواصلاً مع الشيخ المراغي شيخ الأزهر آنذاك، ولا تزال قائمة، ولن تنقطع في يومٍ من الأيام.. لاسيما أن فِكر إقبال وأدبه الإسلامي يستحقان كل حفاوة من كل قارئ عربي ومسلم، فقد عاش إقبال مخلصاً لعقيدته ودينه، وجاهد في ذلك إلى آخر لحظة في حياته"([4]).
وفي مقالة بمجلة الأزهر، تحت عنوان: "إقبال أمير شعراء الإسلام" لفضيلة الدكتور عبد الودود شلبي قال فيها: “إذا كان للعرب في عصرهم الحاضر شاعر يلقَّب بأمير الشعراء هو أحمد شوقي؛ فأمير شعراء الإسلام في عصرنا الحاضر دون منازع هو شاعر باكستان الدكتور محمد إقبال؛ الذي وظَّف أشعاره وقصائده لخدمة دينه، ولم يبرح هذا الميدان إلى آخر لحظة في حياته"([5]).
إقبــــال شاعـــر الإنسانية
هذا؛ وقال عنه علّامة الشام، الداعية الأزهري، محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله: "إقبــــال شاعر الإنسانية؛ عاش مع الهموم التي كان يتقلَّب فيها الإنسان في شتَّى أطراف المعمورة, لاسيما الإنسان المسلم, فقد كان يعلم مشكلات الرأسمالية, ومشكلة الظلم, ويعلم المشكلات الإقتصادية, ويعلم المشكلات السياسية, ويعلم مشكلات الاستعباد والاضطهاد, كان يعلم ذلك كلَّه. ولكنه –أي إقبــــال- زاد على ذلك أنَّه عثر على المفتاح الَّذي إذا استعمله المسلمون وأداروه على وجهه؛ تخلَّصوا من سائر المشكلات الاقتصادية, وتخلَّصوا من الذُّلِّ, والاستعباد, وتخلَّصوا من التفرُّق والتمزُّق, فتضاعفت همومه بسبب ذلك, فراح يصرخ ويُنادي دائماً: "أيها الناس! إنَّ مشكلاتكم التي تضجُّون منها حلُّها بيدي, وهذا هو المفتاح! فما عليكم إلَّا أن تتعرَّفوا عليه, ثمَّ تستعملوه على وجهه".
وهذا المعنى الَّذي كان يتكرَّر في شِعر "إقبــــال"، ويُنادي به من حوله, لا يزال يُنادي به من خلال ما تركه من آثارٍ, وأشعارٍ مضرجة لا بدموعه، بلْ بدماء قلبه.
لقد كان ينبِّه إلى أنَّ سائر ما نراه حولنا من المشكلات؛ إنما هي فروعٌ لمشكلةٍ جذريةٍ واحدةٍ هي: ضياعنا عن (الذّات) وذاتنا الحقيقية لا يمكن العثور عليها في شرق ولا غرب, وإنما يمكن أن نعثر عليها بين جوانحنا, يمكن أن نعثر عليها من خلال إدراك هويتنا".
إقبـــال وفلسفة القــــوة
وعن اتجاهات إقبال الفكرية؛ يقول الدكتور محمد رجـــب البيومـــي عميد كلية اللغة العربية الأسبق، وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر: "لقد كانت إقامة "إقبال" في أوروبا ذات أثر قوي في اتجاهه، لا لأنه اقتنع بما يجري بها من تيارات منحرفة، بلْ لأنه أحسَّ في أعماقه بأنَّ ما تدعو إليه من القومية؛ هو الذي فتن أبناء المسلمين ممن يتعلمون بأوروبا، وصرفهم عن عالمية الإسلام وإنسانيته، إذْ إنَّ الوطنية الجغرافية هي التي تنخر في الجسم الإسلامي؛ فتجعله أجزاء متخاذلة لا ينهض برسالة، ولابد من فكرة إسلامية شاملة تجعل بلاد الإسلام داراً واحدة، فمن المؤسف أن معارضيه من أبناء الدول الإسلامية لم يرتفعوا إلى مستواه، لأنهم ذهبوا إلى أوروبا دون أن يفهموا شيئاً عن مبادئ الإسلام، وقد سحرهم بريق التقدم الصناعي؛ فظنوا أن أوروبا بهذا التقدم هي المنار الذي يرسل الشعاع، وهذا ظن بدَّده إقبال في قصائد ثائرة مثل قصيدته في رثاء "صقلية المسلمة" حين مرَّ بها، وهتافاته بمجد الحجاز، ورسالة مكة، وصرخة الألم أمام قبر رسول الله -صلوات الله عليه- حين وقف أمامه يبكي حاضر العالم الإسلامي، متحسراً على ذهاب ماضيه... ومن أحسن ما قاله في هذا الصدد قصيدته الشهيرة “منارة الساري” التي تحدث فيها -إقبال- بلسان الخضر عن مشاكل السياسة الأوروبية وفظائعها الاستعمارية، وحذَّر المسلمين من الوقوع في شراكها.
هذا؛ وقد كانت للشَّاعر الكبير محمد إقبال -كما يقول الدكتور رجب البيومي- فلسفة رائعة؛ أطلق عليها النقاد “فلسفة القوة”؛ تبرِز هذه الفلسفة مجموعة من الحكم العالية التي تبناها إقبال، وتجعل ذات المسلم مصدر قوته، إذا فهم أسرارها، وبهذا الفهم يُخضِع الطبيعة لمشيئته، إذْ لا يكرم في الدنيا من لا يكرِم نفسه، ويُري العالمين مبلغ إبائه وسموه، يقول إقبال: “اتخذ قوتك الذاتية، واجعلها في مكانة من العلو. وإنَّ ابتغاء مرضاة الله لعبده لن يكون إلَّا حين يكون قوياً غير مستكين”.
ثمَّ نراه يرجع إلى أيام العزة في عصر المجاهدين الأوائل، فيقول: “كلما حانت الصلاة أثناء صليل السيوف، ولَّتْ الأمة الحجازية وجهها شطر القِبلة، ووقف محمود (السلطان الغزنوي) جوار خادمه في صفٍ واحد، فلمْ يبقَ هناك عبد ولا مولى، أصبحوا جميعاً لله عبيدًا، ولمَّا وصلوا إلى حضرتك صاروا كتلة واحدة”.
وفي قصيدة بلغ عدد أبياتها (42 بيتاً) بعنوان (محمد إقبال) للنابغة الأزهري الدكتور محمد رجب البيومي، قال فيها:
علوتَ بروض العبقريين ساعةً |
|
أسائلُ من ألقاه عن أيكِ إقبال |
كما نظم الدكتور ســـعد ظــــلام عميد كلية اللغة العربية الأسبق؛ قصيدة ميمية، في مدح إقبال، بلغتْ (68 بيتاً) بعنوان (إقبال أمير الكلمة) استهلَّها قائلاً:
في صفاءٍ كصفاء المسلم |
|
وخشوعٍ كخشوع المحرمِ |
تراجـــم روائــــع إقبــــال
ترك (شاعر الإسلام) وديعةً أدبيةً وفكريةً للأجيال من بعده، تمثَّلت في مؤلفاته، وإبداعاته، في مقدمتها؛ دواوينه الشِّعرية: (الأسرار والرموز، رسالة الشرق، رسالة الخلود، هوية الحجاز، صلصلة الجرس، جناح جبريل، وعصا موسى). وقد تُرجِمتْ هذه الروائع إلى اللغة العربية الطاهرة، اضطلع بترجمتها عدد غير قليل من الأدباء المصريين، أمثال: عبد الوهاب عزَّام، وسمير عبد الحميد، وحسين مجيب المصري، وحسن الشافعي، ومحمد السعيد جمال الدين، وأميرة نور الدين، وطه عبدالباقي، ومحمد عبدالمنعم إبراهيم، وجلال الحفناوي، وكثير من دارسي اللغات الشرقية، وأساتذة الأدب المقارن، وغيرهم.. لكن يعدُّ "الصاوي شعلان" أبرع من نقل روائع "إقبال" إلى لغة الضاد، فاستمع إلى شِعره في "مسجد قرطبـــة" عندما زار إسبانيا:
نسيمكَ عذْبٌ رقيق الهبوب |
|
أيا جامعاً فيك جمع القلوب |
كان "إقبال" مفتوناً بتتبع آثار العرب الأوائل في شتى أرجاء العالم، وقد كان يبكي أطلالهم في لوعةٍ وحسرةٍ ومرارة، ويخلّد مآثرهم بإعجاب ودهشة، فهذه بعض دموعه التي سكبها في صقلية؛ إذْ يقول لصاحبه: "ابكِ أيها الرجل دماً لا أدمعًا، فهذا مدفن الحضارة الحجازية"، ثمَّ ما لبثَ أنْ نهض منشدًا:
فوا أسفا والذكرياتُ تهدُّني |
|
وأين الذي أبكي فيبكي أسىً معي!؟ |
بل استمع إليه؛ وهو يسترجع شريط ذكريات الحضارة الإسلامية، فيقول:
أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أين؟ |
|
إنَّ نور الله في قلبي، وهذا ما أراه |
في عام 1931م؛ زار محمد إقبال (فلسطين)، وألقى كلمةً افتتاح المؤتمر الإسلامي، قال فيها: "ينبغي على كل مسلم، يشهد أن: (لا إله إلا الله)؛ أنْ يقطع على نفسه العهد على إنقاذ الأقصى". وهناك استرجع "إقبال" شريط ذكريات الحضارة الإسلامية، فأنشد قائلاً:
ولمَّا نزلنا منزلاً طلَّه الندى |
|
أنيقاً وبستاناً من النور حاليا |
لكن؛ تظل قصيدته (فاطمــــة الزهــــــــراء) من عيون شِعره، بلْ من عيون الشِّعر قاطبةً، ولِمَ لا؟ فالزهراء –عليها سلام الله- بنت نبيّ، وزوج إمام، وأُم لشهداء، وقد استهلَّ القصيدة، قائلاً:
هيَ بنتُ مَن؟ هيَ زوج مَن؟ هي أُم |
|
مَن؟ مَن ذا يفاخر في الأنام علاها؟ |
ومن روائع "إقبال" الخالدة؛ قصيدة (شكوى وجواب) من ديوان "صلصلة الجرس"، إذْ جمعتْ فلسفته بين حرارة الإيمان، وصفاء التأمل العقلي، فجاءت الحقائق الفلسفية في أبياتها متلفّعة بمزيج العواطف، متحررة من قيود المادة، متطلّعة إلى السماوات العلى، وقد ترجم هذه القصيدة إلى العربية "الصاوي شعلان"، واعتبرها النقَّاد من روائع الأدب العالمي، يقول فيها:
مَن ذا الذي رفع السيوفَ ليرفع اسمك |
|
فوق هامات النجومِ منارا |
كان (إقبــــال) يتميز غيظاً، ويتقطَّع حسرات؛ لِمَا آلت إليه أحوال المسلمين.. لذا؛ جاءت قصائده مغسولة بالدموع، وممزوجة بالدماء.. فاستمع إليه؛ وهو يتألَّمُ شِعراً:
يا ليتَ قومي يسمعون شِكايةً |
|
هي في ضميري صرخة الوجدان |
ومن أبيات قصيدة "حديث الروح":
حديث الروح للأرواح يسري |
|
وتدركه القلوبُ بلا عناء |
ولعلَّ أجمل ما نختم به رحلتنا هذه؛ حكمة (إقبـــال) الرفيعة التي قال فيها:
إذا الإيمانُ ضاع فلا أمان |
|
ولا دنيا لمن لمْ يحيِ دينا |
أخــــيراً:
رضيَ الله عن (شاعر الإسلام) الذي أنشأ دولة، وحمل على عاتقه الدعوة إلى الوحدة والتضامن، ونبذ الفُرقة والتشرذم... وفي سبيل ذلك؛ ما ترك باباً إلَّا طرقه، ولا سبيلاً إلَّا قصده، ولا طريقاً إلَّا سلكه... حتى مات وعرقه يتصبَّبُ عليه، وتراب الطريق على قدميه.
نضَّر الله وجه (فيلسوف الإسلام) القائل: "أعطني القوة لأقول: لا، وأعطني العقل لأعرف كيف أقولها، وأعطني الكفاية لأعرف متى أقولها".
رحم الله (قيثارة الإسلام) الذي قال عنه سماحة الشيخ أبو الحسن الندوي: "إنَّ إقبال أنبغ عقلٍ أنتجته الثقافة الجديدة، التي ظلت تشتعل وتنتج في العالم الإسلامي طوال قرنٍ كامل، وأعمق مفكر أوجده الشرق في عصرنا الحاضر. إنَّ جُلّ ما أعتقده أنَّ إقبـــال شاعرٌ أنطقه اللهُ ببعض الحكم والحقائق في هذا العصر، أنطقه اللهُ الذي أنطق كل شيء، أنطقه كما أنطق الشعراء والحكماء، قبل عصره، وفي غير عصره".
أكتفي بهذا القدر؛ ولا أريد أنْ أفيضَ في الحديث من حيث أفاض الناس.
***
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجــــع:
- أحمد حسن الزيات، تحية لذكرى إقبال، من كتاب «إقبال العرب على دراسات إقبال».
- حازم محفوظ، ونبيلة إسحاق، إقبال والأزهر، الكتاب التذكاري الأول في ذكرى ميلاد ورحيل إقبال، 1990م.
- حسين مجيب المصري؛ الأندلس بين شوقي وإقبال، الدار الثقافية للنشر، 1999م، القاهرة.
- عبد الوهاب عزام، فلسفة إقبال وأساسها، كتاب "إقبال العرب على دراسات إقبال".
- عثمان أمين، رواد الوعي الإنساني في المشرق الإسلامي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001م، القاهرة.
- محمد قطب، منهج الفن الإسلامي، دار الشروق، القاهرة، ط6، 1983م.
- نجيب الكيلاني، إقبال الشاعر الثائر، مؤسسة الرسالة، بيروت، 2003م.