العدد 131
ترتكز هذه المداخلة على تجربة الشاعر د.نور الديّن صمّود باعتباره واحداً من كوكبة الشّعراء الذين تدّفق عطاؤهم في مرحلة ما بعد الاستقلال (1956م). فقد تكرّرت عبارات الإعجاب لدى الباحثين والنقاد بثقافة د.نور الدّين صمّود العربيّة والإيقاعية، وبطاقاته التّعبيريّة التّي تعرض ما تمور به الذات المبدعة في توتر وخلجات تبلغ المتّلقي ولكنّ إنكاراً واضحاً يوجّهه د.محمد صالح الجابري إلى هلاميّة الموقف في الحياة إبان المرحلة الرّومانسيّة.
ويرى د.حمّادي صمّود أنّ المشكلة أعمّ كأنّ هذا الشاعر لا يحمل همًّا حقيقيّا أو قضيّة متبلورة...(1) غير أننّا نلحظ أنّ الجابري تفاءل بالتحول الذّي أنجزه د.نورالدين صمّود بعد (1967م) في ألوانه الجديدة. فقد نزع منزع القصّة الشعريّة التّي تعتمد المفاجأة في قصائده "المدخنة"، و"من مذّكرات راقصة محترفة"، وكان في هذه القصائد أشد عناية بالوحدة الموضوعية والعضوية للقصيدة، فاستّغل إتقانه الجيّد لبحور الشعر وثقافته العربية الواسعة لإضافة عناصر جديدة للقصيدة الشعريّة بأن جعلها ذات موضوع ولها نهاية...(2)
ويعّد الشاعر د.نور الدّين صمّود مع محيي الدّين خريف وجعفر ماجد وشعراء آخرين من نفس الجيل صوتاً آخر بعد أبي القاسم الشابي الذي تعرفه الأجيال العربية في مناهج الدّراسة، وترّدد أبياتاً من قصيدته "إرادة الحياة"، حيث تمتزج صور من العنفوان وحب الحياة، والنّهاية التّراجيديّة.
نشير قبل الخوض في رحلة الشاعر إلى أنّ لقاءات الأدباء العرب وحلقات المتّخصصين تعرف أسماء لشعراء من تونس مثل محمد العروسي المطوي والميداني بن صالح ونور الديّن صمّود ومحمد الغزي ومنصف المزغنيّ وسمير العيّادي وإن تكن صورة الأخير مقرونة بالمسرح. ونلحظ أنّ هذه المعرفة لم تتّحول إلى اهتمام نقدي يقدمهم إلى الجمهور العربي الواسع في الوطن العربي الكبير باستثناء جهود قلة، ومنهم الناقد المصري رجاء النقاش، والباحث د.محمد جابر الأنصاري، والناقد السوري د.فايز الداية.
اجتمع لدى القارئ كما لدى الباحث أربعة من المصادر والمراجع، بالإضافة إلى دواوين الشاعر وقصائده المنشورة في الصحف والمجلات التونسية والعربية، فنسعى بين سطورها نلتمس نبض الشعر في كلمات د.نور الدين صمّود، ذلك أنّ هذه المؤلفات الأربعة من المصادر والمراجع ضمّت نصوصا ومقدّمات حول تيّارات الحركة الشعريّة في تونس منذ مطلع القرن العشرين، وكذلك حول شخصية د.نور الدّين صمّود الإنسانيّة والفكريّة والفنيّة:
1- "ديوان الشعر التونسي الحديث"، وقد ضمّ نصوصا وتعريفا بأصحابها بدءا من "محمود قابادو 1812-1871م"؛ حتّى "محمد الشابي المولود في 1949م". وقد ألف هذا الكتاب سنة 1976م الدكتور محمد صالح الجابري ملحقا لدراسته عن الشعر التونسيّ المعاصر.
2- مختارات من الشعر العربي في القرن العشرين"، وقد صدر هذا المصنّف عن مؤسسّة البابطين في الكويت 2001م، ويحتوي المجّلد الأوّل قسما لشعراء تونس اختاره وقدّم له بدراسة مرّكزة د.محمد صالح الجابري.
3- "مختارات لشعراء تونسييّن"، وقد أعدّ هذا المصنّف د.عمر بن سالم في إطار اتحاد الكتّاب التونسييّن بناء على اختيارات قدّمها الشعراء في الاتحاد من شعرهم 1992م.
4- "معجم البابطين للشعراء العرب في القرن العشرين"، وقد اشتمل على تعريف وقصائد للشاعر صمّود؛ إضافة إلى دراسة إجمالية عن الشعر التونسي قدّمها الباحث الدكتور حمّادي صمّود في المجلّد السادس المخصص لدراسات تضيء الشعر المعاصر في أرجاء ديار العروبة. وكانت العتبة الأولى مع قسمات الشاعر، فهو من أبناء مدينة "قليبية»1932م، في الشمال التونسي، وقادته خطوات العلم إلى جامع الزيتونة ودروسه، ثم إلى القاهرة فبيروت.
واكتمل التّرحال بتحصيل الدكتوراه في الأدب العربي من الزيتونة، وقد تضافرت لديه رسالتا العلم والفن فعرفته المعاهد والأوراق أستاذاً معلمّا للكلمة، وتلقى الجمهور أشعاره في عدد من المؤلفات، مثل: "رحلة في العبير1969م"، و"صمود: أغنيات عربية1980م، و"نور على نور؛ شعر من وحي القرآن 1986م"، وكتب للأطفال: "طيور وزهور1979م"، و"حديقة الحيوان1991م". وثمة دراسات نقدية ولغوية وإيقاعية في رصيده...(3).
أمّا العتبة الثانية فتحمل إلى القارئ الدّهشة والحيرة، وتدفعه إلى البحث عن النصوص الشعريّة ليربط بين الأحكام التّي أطلقت وما تفصح عنه تجارب الشاعر، فقد تكرّرت عبارات الإعجاب بثقافة د.نور الدين صمّود العربية والإيقاعيّة، وبطاقاته التعبيرية التّي تعرض ما تمور به الذات المبدعة في توتّر وخلجات تبلغ المتلقي، ولكن إنكارا واضحا يوّجهه د.محمد صالح الجابري إلى هلامية الموقف في الحياة إبّان المرحلة الرومانسيّة. ويرى د.حمادي صمود أن المشكلة أعمّ كأن الشاعر لا يحمل همّا حقيقيا أو قضية متبلورة.
إنّ د.نور الدين صمّود واحد من كوكبة الشعراء الذّين تدفَّق عطاؤهم في مرحلة ما بعد الاستقلال (1956م)، ونترك السطور إلى كلمات النقاد والباحثين فالجابري يقول: "وممّا لا شّك فيه أنّ هذا الجيل الذّي آمن بالشّعر إيمانا حقيقيّا وعميقا هو الذّي حافظ على نبض القصيدة العربية، ورسخّها في وجدان النّاس لأنّه كان يعتبر الشعر رسالة وأمانة، ولعّل هذا الدّافع هو الذي فرض على هؤلاء مواصلة كتابة الشعر في إصرار والتزام حتّى اليوم، وأفضى إلى ولادة شعراء مثابرين برغم الإحباطات والمثبطات التي حاقت وتحيق بالشعر دائماً، وأبرز من يمكن الإشارة إليهم من شعراء هذه المرحلة: منّور صمادح، ومحيي الدين خريف، والميداني بن صالح، ونورالدين صمّود ممّن صدر لهم أكثر من ديوان وتتابع حضورهم"...(4). ويفصّل الدكتور حمادي صمّود: "فأبرز ما حقق هذا الجيل هو تثبيت القصيدة ذات المرجعيّة الرّومانسيّة في البيئة التونسية مواصلة لما افتتحه أبو القاسم الشابي في وقت طغى فيه هذا الاتجاه على الشعر العربي، ووصولا بها إلى تجاربها المتّطورة شكلاً وإيقاعاً وتصديراً، ورؤية شعرية مثلما تتّجلى في شعر وشاعرها الأكبر نزار قباني، ومن أبرز ممثلي هذا الاتجاه في تونس جعفر ماجد (1940م)، ونور الدين صمّود (1932م)..."(5(
ونقترب أكثر من السّمات الإيجابيّة التّي أسبغها النّاقدان على الشاعر على نحو خاص بعد أن قدّما رؤية لجيل من الشعراء أدّى مهام الإبداع في الثقافة العربية بتونس. إننّا نلحظ أنّ الجابري تفاءل بالتّحوّل الذي أنجزه نورالدين صمّود بعد (1967م) في ألوانه الجديدة فقد نزع منزع القصة الشعرية التّي تعتمد المفاجأة في قصائده: "المدخنة" و"من مذكرات راقصة محترفة"، وكان في هذه القصائد أشّد عناية بالوحدة الموضوعية والعضوية للقصيدة، فاستغل إتقانه الجيّد لبحور الشعر وثقافته العربية الواسعة لإضافة عناصر جديدة للقصيدة الشعرية بأن جعلها ذات موضوع، ولها نهاية وقصد متّجنبا الغموض والرمز والإيحاء معتمداً على التّعبير المباشر السهل إلى حد بعيد"...(6)
أمّا نظرة الدكتور حمادي صمّود فدارت حول أعمال الشاعر من غير تحديد المراحل ونقرأ منها قوله: "زاوج نورالدين صمّود بين الشعر الحرّ والشعر العمودي، وثقافته الشعرية العربية واسعة ليس لأحد من جيله ماله فيها، ومعرفته بأصول صناعة الشعر عميقة، فهو في العروض والقوافي على النهج القديم مرجع، وقد غلبت عليه القصيدة العمودية، فكانت عنده قالبا صبّ فيه أغلب شعره، وفي ميدانه أجرى مختلف تجاربه، وإن كان أقل تصّلبا في الدّفاع عنه، وأكثر إقبالاً على الشعر الحرّ يعود إليه في فترات متّقطعة في مواضيع مختلفة"...(7(
أمّا الضفة الأخرى للنقد فنرى فيها استعراضا لمواضع الوهن في هذه الحالة الشعريّة، وإبرازا لجوانب سلبيّة في تفاعل الشاعر مع الأيّام التّي تنتظر غدها يحفل بالبناء وعمارة حيويّة. ولقد انصبّ نقد الجابري على المرحلة الأولى يقول: "ذلك أنّ شعره مرحلتان منفصلتان امتّدت المرحلة الأولى عشر سنوات (1957-1967م)، وطغت عليها نزعة الشاعر الرّومانسية فاكتست باللّون والعطر، والسحر والأطياف وبكاء الأيّام، والسنا وسياط النور والعباب والفراش والسنونو؛ وما إلى ذلك من الألفاظ التي يزخربها ديوانه الأوّل: "رحلة في العبير" الذي قسمّه إلى أربعة أقسام: 1- في موكب الشمس، 2- أغاني حزينة، 3- سحر وعطر، 4- جداول النبيذ، وخلال هذه المرحلة لا نتبيّن للشاعر نزعة أو اتجاها أو قضية.. وتتداخل هذه الألوان بين العاطفة والذّكريات والحنين، وتغلب فيها الصّنعة على الشاعرية، إذ كثيراً ما نحس بالاختناق داخل هذا المزدحم من العطور، ونشعر بارتباك الخطى في هذه السبّل المفروشة بالرّياحين والفل: خيال مترف.. ناعم.. هادئ، ولكنّه لا يفضي لغير الوهم.. حتّى إن قصائده الوجدانيّة لا تظهر لوعة أو تشعر بحبّ أو التيّاع..."(8(
إنّ القارئ يشعر بأن الجابري منح الشاعر فسحة عندما أشار إلى النّهج الجديد على الرغّم من الحدّة البادية في الحكم على الرّومانسية الهائمة بلا معالم، لكنّ التقويم السلبي عند حمّادي صمّود لنتاج الشاعر يغدو إشكالياً لأنّه يرى أنّ نورالدين صمّود لم يوظّف طاقاته الشعريّة العالية في مشروع أو رؤية ذلك أنّ: "المحرج في شعره بالنسبة إلى دارسي الأدب جمع ألوانا شتى يصعب التأليف بينها؛ إنْ في الشكل، وإنْ في المضمون، فله في الوجدانيّات رقّة ظاهرة، وصورة آخذة (أخاذة...) جمعها ديوانه الأوّل: "رحلة في العبير"، وله شعر مناسبات ليس فيه غير الصّنعة والمعرفة بالأساليب، وشعر دينيّ لا يخرج عن المألوف، إلى جانب قصائد مليئة بالرّمز تنم عن نفس شاعرة وحسّ قادر على استبطان الأمور والغوص على جواهرها، حتى لكأن الشعر عنده لعبة فنيّة وقدرة على تصريف اللغة وركوب البحور والقوافي دون أن يرتبط بهم قار ومحنة غالبة له مولدّة...(9).
وينتقل القارئ من هذا الموضع إلى العتبة الثالثة مع قصائد الشاعر في اختيار قدَّمه الناقد، وعندما تصفّح القارئ النصوص التّي اختارها الجابري للشاعر نورالدين صمّود أدرك أنّ الناقد أراد تشجيع الشاعر على نهجه الجديد بعد انغماس في رومانسيّة هامشيّة، فههنا نصوص تخوض في قضايا الوطن وأحوال المجتمع، وتمضي في درب البناء إضافة إلى مقطوعة تلمح ما يغتلي في القلب.
- فقصيدة "سياج الحب والأزهار" تروي كيف خرج الوطن من المحنة، وذلك عبر ثلاث خطوات: نرى في الأولى سور المدينة يتعالى بقوة صنعتها أحجاره، ويمتنع على أطماع العدوّ ومدافعه وجحافل ساقها.
وفي الخطوة الثانية نجد أنّ هذا البنيان يتصدع:
»فحطم الجدار/ واندكّت الأسوار/ في أوجه التتار/ من بعد أعوام من الحصار/ لكنهم لم يفتحوا مدينة النضال/ لم يهزوا سكانها الأبطال"...
ويبلغ الشاعر الخطوة الثالثة إذ يظهر مكمن الطاقة وينبوع القدرة الخلاقة في الحنايا وشرايين يتدفق فيها الحب مع الدماء، ويمتزج بالحرية ليغدو هؤلاء البشر:
»أقوى من الأسوار/ فطردوا التتار/ وأطلقوا ألسنة الأطيار/ بأعذب الأشعار/ وسيّجوا بلادهم بالحب والأزهار.. «
وإذ قرأنا تاريخ هذه القصيدة، وكلمات نثرية صدّرها الشاعر؛ فإننا ندرك أنها كانت بعضا من أطوار معركة أدبية دافع صمود من خلال القصيدة عن نهجه الرومانسي، فقد عرفنا من التاريخ »ديسمبر/ كانون الأول 1970م مجلة (الفكر)« أنها تلت ديوانه الأول الذي أصدره في (1969م)، ولعله أراد التأكيد على أهمية الإصغاء إلى نبض القلب المتناغم مع الكون، ومن نعيش بينهم، وإيقاعه الذي يستنفر أشواق الحياة والكرامة، وإن من يحملون هذه القلوب هم من يعرفون كيف تصان الحرية فيختفي بها الضياء، وقد كانت عبارة صمود النثرية حادة إذ يقول:» إلى الغربان التي لم تستطع فهم لغة البلابل... إلى الذين ينكرون نور الشمس فيشعلون شموعهم!.. «.
- وجاء اختيار الباحث الدّكتور الجابري للقصيدة الرّابعة متساوقا مع الجوانب الإيقاعية التي بدت في القصائد الثّلاث حيث تبدو السّطور قصيرة مع حرص على حروف الرّوي في نهايات الأبيات؛ ممّا يجعل المتلقي متجاوبا مع النغمة المتطوّرة من غير إغراب أو مباينة للتّراث الشّعري إضافة إلى أن النّص كما تابعنا ينتظم في محاور أو أقسام تتوالى، ويعقد الآصرة بينها خيط جامع.
إنّ القصيدة التي ختمت بها النّصوص لم تكن وفق التّفعيلة، وإنّما بحسب البحور الشعرية (من البحر الخفيف) إلا أننا نلحظ توزّعها على خمسة أقسام مع أنّها عشرة أبيات فحسب. وعمل صمود على تنويع حروف الروي والقوافي، ويبدو أن الباحث عندما أورد قصيدة حب للشاعر انتقى ما يحمل من دلالات التجربة والأسلوب ونختار أبياتاً دالّة:
وإذا ما طغى الجمال على قلبي ** عرّتني اهتزازة المحموم
فأغنية في اكتئاب وشوق ** بين نفسي وقلبي المكلوم
بين نفسي وبينهنّ صراع ** هدَّ قلبي وما شكوت سقامي
وقف القارئ أمام القصيدة التي أتى بها الجابري في كتاب آخر بعد ربع قرن أو يزيد من الزمن للشاعر نور الدين صمود، وثار تساؤل لماذا؟! ... لقد كان المجال محدودا فلا بدّ من عمل واحد في»مختارات من الشعر العربي/ البابطين 2001 «وهنا يستدعي الترجيح استفسارنا.
لقد أورد الجابري قصيدة رومانسية من الديوان الأول لنور الدين صمّود بعنوان "حسناء" فهل راجع رأيه في هذا اللون من الشعر أم أنّ صاحبه لم يتابع ما أحدث من التطور ذي المنحى القصصي والملتزم هموم الناس وقضاياهم؟!... إننا نكتفي بإطلالة على كلمات الحب ما دمنا لا نملك اطلاعا على محمل نتاج الشاعر:
ضفائرها ركضة الكبرياء ** كما لاح في الأفق سرب سنّونو
وميسمها ألف صبح وضيء ** عليه تحوم وتغفو الظنون
إذا بسمت هلّ سرب حمام ** فحنّت إلى الضوء حتى الغصون
تتابعت خطوات القارئ، أو الناقد باحثة بين النصوص الأخرى للشاعر وخاصة أنها في هذه المرّة من اختياره، وبهذا يبلغ القارئ أو الباحث العتبة الرابعة في رحلته وراء صورة الشاعر. فلقد ارتفع الصوت الأول للشاعر عبر الكلمات التي شكلت تجربته وزوايا الرؤية لقيم الحياة وماهية الإنسان، وافترشت قصائد دواوينه. أما الصوت الآخر فهو تحديده أعمالا قليلة لتعبر عن مجمل تجاربه في كتب المختارات (تونس/الكويت)، قدّم صمّود ثلاث قصائد ليضمها كتاب المختارات الذي أصدره اتّحاد الكتاب التونسيين (1992م)، ويلحظ القارئ أنّ اثنتين إنّما أتى بهما الشّاعر لتكونا عوناً له في معركة المفاهيم التي تحتدم بين أهل الشّعر والنّقاد، وهو بهذا لا يعطي المتلقّي ما يروي علّته بأن يستعرض ألوانا من التّجارب، وإنّما يسوق عللا وخططا لقول الشّعر، واكتفى بعرض واحدة من قصائده الرّومانسية "أربعة مقاطع للحزن والرّثاء" يرى صمّود في قصيدة "الطّفل الخالد" أن روح الشاعر إنّما تتلبس طفلا يحرّكها ببراءته ونقائه وينبوع الحب الذي لم تكدّره الأطماع ونوازع الشر. إنها طاقة لا تحتاج إلى من يصوغ ملامحها، فالفطرة سابقة على مؤشرات تتحكم بها إرادة تكتم وتمنع فتضيع قسمات الصّدق. إنّ الخطاب يتوجّه إلى الآخر "الشّاعر" في حوار ذاتي أو يمكن أن يتلقاه من يدرج في حرم القصيد، ومع نهاية القصيدة يأتي جواب ذاك القرار في ضمير المتكلّم:
1- لأنّك كنت ومازلت طفلا/ ستبقى مدى الدّهر شاعر/ وتبقى مدى الدّهر ثائر/ وتبقى مغامر/ وتبقى فَراشا شرود/ يمصّ الشذا من شفاه الورود... «
2- ».. وما قلت لحرف رفقا بقلبي/ ولا قلت للعمر بالله مهلا/ لأنّي كنت ومازلت طفلا/ وسوف أظلّ مدى الدّهر شاعر/ وأبقى مدى العمر ثائر/ وأبقى مغامر.. «
وبين هذين الطرفين يزرع الحروف سهام حقيقة، فتشعل الدروب بومض الصّدق لا يعرف الانكفاء، وقد جاء تعبير الشّاعر صمّود التصويري عنيفاً يكشف غضبا كامنا في مواجهة خصومة أدبية، فهو يثير في السّاحة عاصفة تبرهن على أنّ ما لديه في الأعماق مغاير لما يرونه في ظاهر رقيق وناعم:
»وتزرع يمناك فوق بياض الصحائف حقل حروف/ فترقص مثل الزنوج/ على نقرات الدفوف/ ويعلو النشيج/ كما يتمزق موج البحار/ بأنياب صخر الخليج/ وتفتح أفواهها في صراخ عنيف/ فحرف كطلق البنادق/ يطارد حرفا لئيما منافق/ وحرف يثور/ كحر اللظى والسعير/ وحرف يدور/ كراقصة القصر بين الخدور.. «
وتجول سطور هذه القصيدة في الدروب التي تملؤها صنوف الأهواء والبشر ممّا يكون ميدان التجربة والمواقف، ثم يعرج على صراع آخر بين المبدع والقصائد الهاربة تظنّ أن أفول الشّباب يبعثر مفاتيح السّحر ويصرخ عندها:
»فإنني أرى الشمس عند المغيب/ أجلى وأحلى/ ولن أنتهي قبل أن أنتهي/ لأني قهرت النهاية.. «
ويكمل العمل الشعري الآخر» لعنات إلى القافية « حديث الإبداع ونهجه لدى صمّود الذي يعلن راية العصيان على عبودية القوافي والترسم الشكلي، فهو متطلع إلى أعمق وأبعد:
»أريد ابتكار المعاني/ وخلق أغاني/ أريد المعاني التي لم تلح بخيال البشر/ وأغنية لم يعد لحنها بظنون الوتر/ ولكنها لم تكبل/ بحبل القوافي.. «
وأما "مقاطع الحزن والرّثاء" فهي قصيدة تقف على برزخ بين رومانسيّة الألم من جراح الواقع، وعزم على تغيير وإزاحة العثرات، وتفاجئنا دلالات هامّة لكنّها غير واضحة النّسب إلى الجذور في بنية المجتمع:
»دحرج قلبك في الطّرقات/ دحرجه من المرتفعات/ ازرع في قلب الموت الملعون/ ازرع فيه سكين/ وازرع في دربك زهرة ليمون/ يا ويح الحرّ المسجون/ من برد السجن الملعون/ ألعن من برد الموت.. «
وفي معجم البابطين يكرّر صمّود اختياره لـ"الطفل الخالد" ويورد قصيدة حبّ أو بعضا منها "وأهواك أكثر إذ تغضبين" وتصوّر مقطوعة شعريّة على شكل منمنمة لتكون نموذجا لخطّ الشّاعر فنقرأ عنوانها "ذات حسن" وقد بنيت على البحر المديد. إنّنا نتابع هاهنا أوسع انتشار لحدائق الشاعر الرومانسية، فنجده في أفق تتألّق من يحبّها وهي مركز للكون لا يبصر إلا ما تراه أو ما يكون منها بسبب، وغدا الشّاعر بعضا من وجهها الذي يتدفق حياة مفعمة حتى عندما تغضب فهي تمنحه زهوا إذ يدرك أنّها تخاف عليه، وأنّه بحرصها وغيرتها عرف قدر نفسه فهي سبب تأمّله لذاته في مرآتها، ونسمع من كلماته في قصيدة "وأهواك..":
"ويا حلوتي عندما تغضبين/ أحسّ بأنّك لي تغضبين/ وليس عليّ لأنّي لديك بهذي الدّنى كل شيء/ تخافين من شر حاسد/ ومن كيد كائد/ تخافين من غزوات ذوات السّوالف/ كأنّ الجفون سهام/ كأنّ العيون قذائف/ تغارين من حلوة كلّمتني بهاتف."
ولا يبعد الشاعر عن أطياف عمر بن أبي ربيعة، بل وكلمات مصطفى صادق الرافعي في خواطره "أوراق الورد"، يلحظ القارئ أو الباحث أنّ نور الدّين صمّود عرض تجربته خمس مرات بتكرار الطفل الخالد مع شعر التّفعيلة، ومرّة واحدة في قصيدة البحور "ذات حسن"، وانصرف إلى حوار عن الشعر بأكثر من تقديم ألوان من إبداعه.
لقد كان الأدباء والفنانون منذ القديم يحاولون تسجيل مواقفهم ونقدهم في انعكاس ذاتي في المسرحيات والقصائد واللوحات الفنية منذ أرسطو فانيس في مسرحيّة الضّفادع حيث يحاور أحوال المسرح الإغريقي، وكذلك في ظاهرة المسرح داخل المسرح، وفي أشعار الجاهلية والعصور اللاحقة، وفي لوحات الفنّانين الذاتية حيث يتخيّر الهيئة والألوان ليتطابق حضوره ومذهبه الفنّي، ولكن أن يشغل هذا الجانب معظم ما يقدّمه الشاعر من مختارات لقارئ لا يصل إلى ديوانه، فهذا إسراف جرّه الجوّ الثقافي –فيما يبدو– ولعلّنا نتأمّل الكتابين لـ"ديوان الشّعر التونسي الحديث" و"مختارات لشعراء تونسيّين"، ففيهما تناول مناقشات لشعر في قصائد عديدة: » محمود بيرم التونسي: صناعتي، أحمد المختار الوزير: الحقيقة الخالدة، أحمد اللّغماني: دمعة وفاء، الميداني بن صالح: شعري ودعاة الفنّ، الميزوني البناني: كّلفتنا القصيدة، الطيّب الرياحي: صلاة للحرف المناضل، عثمان الجلاصي الشريف: أيّها الطّين تشكّل، سالم الشّعباني: إلى شاعر، منور صمادح: إيمان .
وفي قصيدته: "رسالة إلى الشّابي" يستلهم نور الدّين صمّود صورة الشاعر المبدع أبو القاسم الشابي:
عرفتك مذ كنت طفل المشاعر/ رأيتك ملتهب الحسّ ثائر/ يلعلع شعرك، كالرعد، في وجه/ كل الطّغاة/ ويلمع كالنّور فوق المنائر.../ يهدّ جدار الظّلم/ وأسمع صوتك كالنّسر فوق القمم/ ودبّت روائع شعرك في كل حسّ/ تدغدغ قلب المحبّ الولوع/ بأحلى أغاني الهوى والشّباب/ فخلتك قيس المعنى/ بليلى ولبنى.../ وتغمر قلب الكئيب الحزين/ وتغرقه في بحار الدّموع/ ونهر الأسى والضّباب/ ودنيا العذاب/ وتقذف في مهج الثائرين/ هدير البراكين حين تثور/ فخلتك من جيل عنترة إذ يلبّي/ نداءات عبْس/ ويهزم ذبيان إذ تعتدي/ وخلتك ندّ أبي الطيّب المتنبّي/ يحرّك شعرك قلب الجماد/ ويبعث عزما../ بسيف ابن حمدان يوم الطراد/ فيجري » الدّمستق « منهزما مثل/ عبد ذليل/ قفاه على هجمة الذلّ والجبن للوجه لائم/ وفي قلبه حسرة مرّة../ على كلّ ما كان رائم.
***
أيا من تجاوزت بالشعر أكبر غاية/ لقد عشت عمرك بالعرض حتّى النّهاية/ تغنّي» أغاني الحياة «/ فأصغت للحنك كل الحياة/ وذوّبت فيها الفؤاد/ وأشعلت فيها الأنامل مثل الشّموع/ وأغرقت كل الصّحائف في حالكات المداد/ وغسّلتها بالدموع/ وأغرقتها في قرارة بحر الألم/ وأنبتّ فيها شذيّ الزهر/ فطارت أغانيك شرقا وغربا/ وأسكرت من خمرها النّاس/ عجما وعربا/ وعادت روائع شعرك من مشرق/ الأرض مثل الضّيا/ فكانت بآذاننا مثل رجع الصّدى/ يجوز أعالي الجبال.../ يحلّق عبر المدى/ ويرجع مغتسلا بالنّدى/ يرجّعه الشرق للمغرب/ كوحي إله وصوت نبيّ/ ويمضي كآلهة الشعر فوق جناح/ أبوللو/ ومن شرفات سماء الأولمب/ يطل/ وكالنور من مطلع الشمس، في الفجر/ حين يهلّ/ وكالسيف من غمده إذا يسلّ/ فحركت أعصاب حسّي/ وألهبت بالعزم كلّ القلوب/ وأجريت فيها دماء الظّفر/ بشعر يهزّ فؤاد الحجر/ ويجتث كل الجذور بفأس/ كعنترة إذ يلبّي/ نداءات عبس...(10).
ففي هذه القصيدة وفي العديد من قصائده يتجاوز الشاعر د.نور الدين صمّود نمطيّة النّغم أو رتابة الإيقاع حيث البحر الواحد، فالجملة توحي بأكثر من دلالة وتحمل داخلها إيماءات وإشارات داخلية مشحونة، وهو يسعى للتنويع في مشاتل الإيقاع النغمي:
تموت الخيول الكريمة في حلبة/ السبق ركضا/ وتطوي سنابكها الأرض ومضا/ وتوشك تسبق،في عدوها ظّلها/ وتقضي العجاف أمام المحاريت مرضى/ نروضها صفعات السيّاط، وكم/ شربت ذلهّا/ وتخشى، إذا التفتت، ظلها.
***
أيا شاعر الحزن والحبّ والثورة اللاهبة/ وجدت ظلاما كثيفا/ يبرقع بالحزن وجه الوطن/ وجدت عدوّا لدودا.../ يصبّ على الشعب نار المحن/ وجدت زهور الحياة و منبع الغزل/ تعيش وراء الجدار.../ وراء الستار../ وراء الخمار../ وتقنع بالعيش عيش الجواري/ وجدت لشعرك ألف مجال/ يحسّ به كلّ قلب/ فحرّكت كل المشاعر/ وأنطقت كل الحناجر:/ فناح الحزين... على حزنه/ وهام المدله.. في خدنه/ وثار السّجين.. على سجنه/ وردّد شعرك كلّ الرّجال../ وكلّ النّساء/ وكل الشباب../ فشعرك يختزل الحزن والحبّ والثورة/ الثائرة/ ويقضي على القوّة الجائرة/ فقد كنت في عالم الشعر بحرا عباب.
***
ونحن، ترى، ما عسانا نقول...!؟/ أنندب من عدم الحزن...!؟ من موت ليل العذاب/ أنبكي على أنّ طيف المذلة أضحى سراب...!؟/ ونبكي على أنّ صانعة الذّل والظلم/ صارت يباب/ أنبكي لأنّ زهور الحياة../ عرائس دنيا الغزل.../ ومن كنّ للشعر منبع وحي يروي القلوب/ وآلهة للخيال الرّحيب.../ ملأن جميع الربوع.../ كزهر الرّبيع/ وزيّن كل الرّحاب../ فينبت ورد/ إذا ضاع عطر أو اهتزّ نهد/ ويبتسم الكون مثل الأمل...!؟
***
ترى ما عسانا نقول...؟/ فهل نستعير من الدّونكيشوت/ سيوف الخشب/ ونغزو طواحين ريح يصيّرها الوهم خصما لدود...
***
أيا وجع الحرف إذ يولد/ به شحنة من عذاب المخاض وعسر الولادة/ ويا حسرة السيف إذ يغمد بكف الشهيد/ ويصدأ في الغمد قبل الشهادة/ ويا نخلة في السماء تصعد/ وتحجب غابة نخل.../ كأن عراجينها في نحور الحسان قلادة.
***
أيا خالد الشعر إنّ الرّزايا.../ بدنيا العروبة أضحت.../ كغابة حزن كأمواج بحر/ وقد كان خصم العروبة مستعمرا/ جائرا لحكم غاشم/ يقاومه الشعب بالنار تكوي.../ وبالشعر يوقظ ماضي العزائم/ فأصبح خصم العروبة أخلص أبنائها/ وقادتهم، جاوزوا في/ مجال القطيعة أكبر أعدائها/ وفي كلّ يوم نحاول قربا فنزداد بعدا/ وفي كلّ يوم نحاول وصلا/ فنشبع صدّا/ وفي غمرات القطيعة ضاعت بلاد/ وماتت عباد/ وأضحت قصائدنا في مجال الفخار حداد...(11)
يطرح القارئ أو الباحث في ختام رحلته بحثا عن شاعر يوّد أن يلقاه في إبداعه أسئلةً لا تجيب عنها أوراق النقد، ولا المختارات رغم جديّة البحث وجمال يتّبدى في نصوص للشاعر، ذلك أنّ الرومانسية وأحاديث الحب لها ألوان قوس قزح، ولم نر منها إلا بعض ملامح، فهل في الجعبة السحريّة مزيد يكمل رسم إبداع له جماله، وموقعه في الحياة، وليس انطواء في لحظة حلم فرديّة أو منعزلة...!؟
إنّ نزار قباني استطاع أن يجعل كلمات الحب تخترق اللّوحات المزركشة لتخرج إلى حركة الحياة والمستقبل وتصّورات عن تفاعل الفكر والسيّاسة، واكتمال للغد يتنفس يزهر أجيالاً لا تعرف دربا إلى حقيقتها، وجوهراً كامناً للإنسان، فأين موقع الشاعر د.نور الدين صمّود من هذه الرؤية؟ وما هي أطوار شعره في تفاصيلها. وهل نجد له ملامح جدّة تضاف إلى رصيد الشعر المعاصر..!؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إحالات:
(1) راجع دراسة: » رحلة في آفاقه الإبداعية: نورالدين صمّود.. الإصغاء إلى نبض القلب «بمجلة» مجلة الكويت «بقلم د.فايز الداية، العدد 233، ذي الحجّة 1423ه/مارس 2003م، ص63.
(2) راجع كتاب:» ديوان الشعر التونسي الحديث «تأليف د.محمد صالح الجابري، الشركة التونسيّة للتوزيع، تونس 1976م.
(3) راجع كتاب: » كتاّب من تونس (تراجم) «د.عمر بن سالم، دار سحر للنشر، تونس: ديسمبر 1995م، ص:135.
(4) راجع كتاب:» ديوان الشعر التونسي الحديث « تأليف: د.محمد صالح الجابري، الشركة التونسية للتّوزيع، تونس: 1976م.
(5) راجع كتاب»: معجم البابطين للشعراء العرب في القرن العشرين « وفيه دراسة إجمالية عن الشعر التونسي، قدّمها الباحث د.حمادي صمود، في المجلد السادس، مؤسسة جوائز البابطين للشعر العربي، الكويت.
(6) راجع كتاب:» ديوان الشعر التونسيّ الحديث «تأليف: د.محمد صالح الجابري، الشركة التونسية للتّوزيع، تونس: 1976م.
(7) راجع كتاب: » معجم البابطين للشعراء العرب في القرن العشرين « وفيه دراسة إجمالية عن الشعر التونسيّ، قدّمها الباحث د.حمّادي صمّود، في المجّلد السادس، مؤسسة جوائز البابطين للشعر العربي، الكويت.
(8) راجع كتاب: ديوان الشعر التونسيّ الحديث تأليف: د.محمد صالح الجابري، الشركة التونسيّة للتّوزيع، تونس:1976م.
(9) راجع كتاب: معجم البابطين للشعراء العرب في القرن العشرين «وفيه دراسة إجمالية عن الشعر التونسيّ، قدّمها الباحث د.حمّادي صمّود، في المجلد السادس، مؤسسة جوائز البابطين للشعر العربي، الكويت.
(10) راجع مجلة: الفكر، السنة 30، العدد2 نوفمبر، 1984م، ص:27.
(11) المرجع السابق نفسه.
(12) راجع دراسة: رحلة في آفاقه الإبداعية: نور الدين صمّود... الإصغاء إلى نبض القلب، بمجلة الكويت بقلم: د.فايز الداية، العدد 233، ذي الحجة 1423ه/ مارس 2003م، ص:66.