بهاء طاهر
يقع القارئ الشغوف، في غواية حب الكاتب المبدع، عندما تتوافق كيمياء التعبير والتفسير بينه وبين الكاتب.. نتيجة لعدة عوامل متداخلة من علاقات التأثير والتأثر، و(ميكانزمات) التواصل والتداخل، وفق نظرية المثير والاستجابة.. تماماً كما يقول علماء التعلم التشريطي من أمثال بافلوف وثروندايك..، ومن قبلُ الجاحظُ في كتابه الحيوان الذي سبق به كل علماء النفس في الدنيا بقرابة الألف عام.
وتزداد متعة التواصل طردياً بازدياد غنى الكاتب.. وثرائه من الوعي والاكتناز وقدراته الاستيعابية للدقائق والصور والناس والأحداث، وسريانه في كل المسافات البينية النفسية المتاحة، وتخلله في تراكيب نواة الجغرافيا والتاريخ المحيطان به مكاناً وزماناً.
وللحق فإن الراحل الكبير بهاء طاهر (١٩٣٥-٢٠٢٢م) واحد من أصحاب هذا النمط التواصلي بينه وبين المتلقي.. أياً كان موقعه أو موقفه منه ومن أدبه، فالكل يعرف أن بهاء طاهر بلغ من رشده الاجتماعي ونبله السلوكي، أن صار أعداؤه قبل أصدقائه، يعدلون بينه وبين (المتسامح).. (والأصيل).. و(المتصالح).. و(الأنيق).. و(الإنسان).. و(المسالم) حتى إن الدكتور علي الراعي قد وصف إحدى رواياته "الحب في المنفى" يوماً.. بأنها "أدب كامل الأوصاف"!.
-٢-
لم أكن أعرف عن بهاء طاهر من قبل.. سوى أنه قاص روائي مصري.. من جيل الوسط.. حتى دخلت الإذاعة المصرية مذيعاً أوائل عام ١٩٨٤م.. وبدأت أفتح عيني وقلبي وحواسي جميعاً على كل الأسماء الكبيرة في حقل الثقافة والفكر والأدب والإعلام، وأخذت على نفسي عهداً، بمعرفة تاريخية وفية عن كل الرواد الإذاعيين من المعاصرين والراحلين، خاصة.. الأسماء التي كان لها محل معتبر من الإعراب.. من الرواد والرموز.. ولأن الأسماء يصعب جداً حصرها إلا أنه كان من بين أهم هذه الأسماء.. بهاء طاهر.. صاحب الاسم والصفة.. حيث عمل مذيعاً ومخرجاً ومترجماً من عام 1957م وحتى عام 1973م.. في رحلة بالغة الثراء والغنى من كل فنون العمل الإذاعي، من إعداد وتقديم للبرامج، وعلى رأسها برنامجه الأشهر في البرنامج الثاني.. (مع الأدباء).. الذي شهد تأسيسه وبداية بثه، وفي برامجه المنوعة استضاف معظم كبار كتاب مصر تقريباً.. وترك وراءه ثروة ثقافية هائلة.. تحدث فيها على راحته.. نجيب محفوظ، وألفريد فرجن ويوسف إدريس، ومحمود دياب.. وغيرهم.. وغيرهم.
وللإذاعة أعد وأخرج عشرات المسرحيات والمسلسلات، بداية من (الآنسة جوليا) لستريدنبرج، التي دربه فيها على الإخراج الفنان الكبير محمود مرسي..، ومروراً بعشرات الأعمال التي أضحت ثروة بمركز التراث الإعلامي، ثم كان أول من قدم ثلاثية نجيب محفوظ للإذاعة، حيث قدم (بين القصرين) في ثلاثين حلقة من إعداد أحمد عباس صالح، ثم قدم كلاً من (قصر الشوق) و(السكرية) في سهرات مدة كلٍّ منها (٣) ساعات من بطولة أمينة رزق وشكري سرحان وسناء جميل وكريمة مختار ومحمود ياسين ومحمد علوان وآخرين.
وكانت الإذاعة حينئذٍ تضج بالرموز الثقافية الكبيرة.. من أول محمود حسن إسماعيل ومحمود محمد شعبان وأحمد سعيد؛ وحتى سمير الكيلاني وحكمت عباس وعلي الراعي وفاروق شوشة.
وقد أكسبته هذه التجربة ثراء هائلاً في احترافه في رسم الشخصيات وتحديد مساحات ومسافات وهيئة حركتها بكل دقة، وتحديد اللغة والنبرة، ورسم الانفعالات الواقعة والمتوقعة لشخوصه، وكأنه مذيع موهوب البث، مخرج متجدد النماذج، منفذ صارم التعليمات، فنان ساحر الألوان، رسام رائع اللوحات، نحات دقيق المعالم.
مما جعل أعماله تكتسب أكثر من صورة، وتقبل العرض على أكثر من هيئة مثلما كان ذلك مع (خالتي صفية والدير) التي أُنتجت رواية، وعُرصت مسلسلاً درامياً، ومُثلت مسرحية، بكل يسر وسهولة لدقة الكاتب ومهارته في رسم الشخصيات وتحديد مساراتها النفسية والسلوكية. تلك كانت لمحات عن الوجه المنسي، والمشوار الغائب لبهاء طاهر.
-٣-
ثم بدأتُ عام ١٩٨٥م أقرأ له بعض مجموعاته القصصية، ثم تابعت روايته (شرق النخيل) عبر مجلة (صباح الخير).. ولم أكن أعلم أن (بهاء طاهر) قد تم منعه من الكتابة منذ عام 1975م..، وأنه قد غادر مصر إلى (جنيف) بسويسرا..، وأن الرواية تنشر هنا.. للكاتب المقيم هناك.
وحين صدرت روايته الأشهر (خالتي صفية والدير) تلقيتها، وانطلقت فيها قارئاً، حتى أتيت عليها في ليلة واحدة.. وأنا شغوف كل الشغف بمضامينها الإنسانية، وأمواجها الحيوية، وأجوائها الصعيدية الجوانية..، وعلاقات الانسجام والانتقام.. بين صفية وحربي وعسران.. التي تدور كحلقات الحرير الفولاذي.. حيث كانت -على حد تعبير مجلة كريستيان سنشري الأمريكية- أنها الرواية الغنية بمشاعر الحب الدقيقة والمعقدة، والشخصيات المركبة، والأبعاد الاجتماعية الساحرة، التي لا بد أن يفتن بها القارئ، ويقع في غرامها بالكامل.
والرواية بحق، هي حقل الإسقاطات الملغوم، وساحة الحب المفخخ، حتى لقد وسمتها الأديبة الأمريكية (بنيليوبليفي) بأنها القصة الدرامية المرعبة.
فليس من باب المصادفة؛ أن يكون منتجاً لكل هذا الصراع الذي يشكل حربه الضروس في كل مفاصل الرواية.. وخلاياها.. وشخوصها.. وأحداثها.
فيطير رائحة الصفاء من قلب صفية، ويشعل الحرب علي حربي، ويحكم العسرة علي عسران.. إنها أغنية الحب الأحادي.. المنتج للوسواس القهري لأغنية الموت.. آه يا حربي.. يا قلبي!..
ولأن بهاء طاهر كان نجمه طياراً ودواراً على الأفق العالمي، لعدة أسباب، من بينها إجادته للإنجليزية والفرنسية، وزواجه من (ستيفكا) السويسرية، وعمله بالترجمة بالأمم المتحدة، واستقراره الكامل في (جنيف) قرابة 20 عاماً، حتى إن التليفزيون السويسري قد أعد عنه فيلماً وثائقياً طويلاً تناول فيه رحلته وأدبه وأعماله لمدة ٤٥ دقيقة، إعداد الروائي المصري المقيم بسويسرا جميل عطية إبراهيم صاحب الرواية الشهيرة (النزول إلى البحر)..، والمتزوج من السويسرية (روث)، والمقيم بمدينة بازل منذ عام ١٩٧٩م، وصاحب ثلاثية (الثورة) التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني تحت عنوان (سنوات الحب والملح).
وإذا كان الصدى هو تردد الصوت الأصلي، وانعكاساته عبر مسافات متفاوتة، فإن صدى روايات أعمال بهاء طاهر الخمس عشرة، دائما ما يكون هو الجمعي والجماعي والمجتمعي.. لشخوصه على كافة المستويات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، من خلال دوران أفكار العدل الاجتماعي، والسلم المجتمعي، والوحدة الوطنية، والسلام المحلي والعالمي،.. الذي تلبس به بهاء طاهر، من أول أعماله (الخطوبة)؛ إلى آخر أعماله (واحة الغروب).. مروراً بمسرحياته، ورواياته، ومجموعاته القصصية، ودراساته، وتراجمه العالمية الشهيرة.. حيث كان أول من قدم الروائي البرازيلي (كويلو) في ساحر الصحراء (الخيميائي) عام ١٩٩٦م.. كما سبق وقدم (يوجين أونيل) الأمريكي في (أصل غريب) عام 1970م.
-٤-
وثمة ظاهرة مثيرة وجديرة بالتقدير، أن بهاء طاهر قد امتاز بالهضم الجيد، والتمثل الأجود، لكل الأجواء التي كتب فيها، وعايشها روائيا وقصصياً..
بدأ من قاع الصعيد في (خالتي صفية والدير)؛ إلى قعر الغرب في (الحب في المنفى). ومن التراجم عن أمريكا الشمالية.. إلى أمريكا اللاتينية.. إلى أوروبا.. إلى الشرق الأدنى..
وعن هذه القدرة الفذة في تعدد الأصوات في أدب بهاء طاهر، التي نال عنها الباحث إيهاب الملاح درجة الماجستير في النقد الأدبي بإشراف الدكتور حسين حمودة،.. كانت تكمن قدرة إعلامية مسبقة في الكتابة على صورة التقرير الإعلامي الماهر بحركة الناس والأحداث ودراما الكون والإنسان.
لبهاء طاهر أن يمتاز بأنه أحد فلاسفة البحث عن الحرية والعدالة، كواحد من أبناء رفاعه الطهطاوي، وهو المولود بالجيزة في (١٣ يناير ١٩٣٥–٢٧أكتوبر ٢٠٢٢م)، عن عائلته القادمة من الكرنك بالأقصر إلى القاهرة.
وهو المهاجر قسراً من مصر إلى مجاهل إفريقيا وصحاري آسيا، إلى قلب أوروبا،.. وهو الثائر الصامت، والمصلح المتسامح، والنبيل المتصدق، والمحاور المهذب،.. وهو أوسط جيل الوسط، وهو صوت الجماعة الجامعة للمسلمين والأقباط بكل عدالة وحب وإنصاف، وهو الجامع بين قسوة الصحراء وجليد أوروبا المولع بإعادة ترميم وتشبيك العلاقات المفككة، وطرح كيمياء الواقع المعقد بكل تفاعلاته وتراكيبه.
ذلكم هو بهاء طاهر الذي ظل يضرب على أوتار عوده الوطنية الأصيل مردداً نغمات المكون الإسلامي المسيحي، في عزف صادق وأمين لكل أشجانه وأحزانه.
كما أن هذا التعيين المحلي لبهاء طاهر كان المفتاح الأصيل لتكريمه عالمياً، حيث حصل عام ١٩٩٨م على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، كما حصل عام 2008م على الجائزة العالمية للرواية العربية عن روايته (واحة الغروب)، وحصل على جائزة Alziatir الإيطالية عام 2008م عن (الحب في المنفى) أيضاً.
ومن المعلوم أن بهاء طاهر قد رد جائزة مبارك للآداب التي حصل عليها عام 2009م، في العام 2011م احتجاجاً على الأحداث التي اندلعت في مصر آنذاك، كما كرمته دور النشر العالمية، حيث أقامت له دار (بنجونيرا اندوم هاوس)، ودار (هاتشيت) حفلات تكريمية، وألحقت بالتكريم ملفات تعريفية بالسيرة والمسيرة، كما أصدرت (التايمز) ملحقاً أدبياً خاصاً به ووصفته بالحكيم المهموم.
ومن المعروف أن بهاء طاهر قد تبرع ببناء قصر ثقافة فخم، بمدينة الأقصر، مسقط رأسه.. إهداء للثقافة والمثقفين، ورواد الكلمة المسؤولة الواعية.
ومما زادني حباً في بهاء طاهر حديثُ المفكر الكبير الدكتور (عبد الوهاب المسيري) عنه بإعجاب شديد، وأنه أحد أبرز سكان عمارته التي تضم إلى المسيري صاحبها.. الكاتب الكبير الراحل أحمد بهجت، كذلك ربطت صلة المصاهرة بين المسيري وطاهر، حيث تزوج (ياسر عبد الوهاب المسيري) من دينا بهاء طاهر. رحم الله الحكيم الحزين المهاجر بهاء طاهر. وأخيراً لم أكن أعرف أن الطواويس تطير!.