العدد 131
لم تَزَل الحَرب واقِعة في الخَليقة مُنذُ بَراهَا الله.. وبَواعِثها إمَّا رَغبة في التوسُّع والعُدوان, وإمَّا جَشَع لِلاستيلاء على الخَيرات والمَوارِد، وإمَّا طُموح إلى نَشر مَبدأ مُعيَّن بِالقوَّة والإِكراه.
وإن كانت الحُروب تُؤرَّخ وتُبيَّن أسبابها وبَواعِثها ومَآسيها ونَتائِجها للتاريخ والأجيال بــ(البَلاغات الحَربيِّة ) و(لَوائِح الحَرب ) و( جَرائِده)، وبِأقلام المُؤرِّخين المُحايِدين، فَإنَّ (أبَا الطيِّب المُتنبِّي) كانَ مُؤرِّخَاً فَطِنَاً وَوَصَّافَاً بَارِعاً لِوقائِع سَيف الدَّولة وحُروبه.
لقد قَضى أبو الطيِّب وقتاً حَافِلاً من عُمره بِصُحبة سَيف الدَّولة الحَمداني، وَوَجَد فيه ضَالَّته المَنشودَة.. وَجَد فيه شابَّاً عَربيَّاً طَمُوحَاً ذَائِداً عَن حِياض العُروبة، وسَهمَاً سريع النَّجدة لِمَلهوفيهِم، وحَازِماً ثَقيل الوَطأة على مَوتوريهِم والمَارِقين مِنهم.
ثمَّ رَأى فيه بَعد ذلك أديباً ذَوَّاقاً يهتزّ لِلقَريض، ويَنقُد مَحاسِن الشِّعر وبَدائِعه.
وقَد عَلَّقَ المُتنبِّي عليه آمالاً كِباراً بَعدما رأى فيه مِن حَماسة لِلذَّود عن العُروبة ورَفعِ هَيبَتِها في عَصرٍ انخَفَضَت فيه هَيبة الخِلافَة إلى الحَضيض، واتَّفقَ على النَّيْلِ مِنها الأَعاجِم والشُّعوبيُّون والمُنتَهِزون والمُدَّعُون. فَلا عَجَبَ إذاً أن يُعجِبَه هذا الفَتى الحَمَداني الشُّجاع، وتسحرهُ وَقائِعه، وهوَ الطَّمُوح الدَّاعِي لِمَجد العُروبة، المُتغَنِّي بِالمَجد، ويَتحمَّس الى مُصاحَبتِه، فَيَصِف وَقائِعَه وأعيَاده وأيَّامَه:
غَضِبْتُ لَهُ لَمَّا رَأَيتُ صِفَاتِهِ |
|
بِلَا وَاصِفٍ والشِّعرُ تَهذِي طَمَاطِمَهُ |
ولقد أَبدَعَ المُتنَبِّي في وَصف وَقائِع سَيف الدَّولَة أيَّما إِبداع!.. وخَلَّدَ مَجدَهُ أيَّما تَخليد!.. خِلالَ تِلكَ الصُّحْبَة التي قَضاها مَعه.
والَّذي يَقرأ شِعر المُتنَبِّي في وَصف وَقائِع سَيف الدَّولَة.. يَطَّلِع على أشياء جَديرة بِالمُلاحَظة والتَّأمُل. فَأَنتَ تَرى في شِعره الحَربِي.. الاستِعداد والتَجَحفُل لِلحَرب، والتَّسلُّح والتَّهيُّؤ لَها، ومُباغَتة الأَعداء وسرعَة النَّيْلِ مِنهُم وقَهرِهِم، والسّرعَة في الالتِفاف، والمُرونَة، عِندَ حُدوث ما يُؤثِّر في سَيْر المَعرَكة، ثمَّ الحالَة النَّفسيَّة لِلمَخذُول ومَا يُصيبَهُ مِن حَيْرَة واضطِّراب، وأَثَر المَعنويَّات في الجُيوش المُقاتِلة ومَا لَها من أَثَر كبير في بُلوغ النَّصر.
لِنَعُدْ بِأَذهانِنَا الى المَاضي ولنَتأَمَّلْ ذَلِك الوَصف الرَّائِع لِلوَقائِع التي جَرَت بين سَيف الدَّولَة والرُّوم.
نَحنُ الآن في سَنة اثنتين وأربعين وثلاثمئة، وهذا (سَيف الدَّولَة) يتقدَّم الجَيش خَارِجاً من (حَلَب) الى دِيار(مُضَر) لِمَا بَلَغَه من اضطراب البَادِيَة فيها. فَينزُل في (حَرَّان)، وبَعد أن يُهدِّئ الاضطِّراب ويَأخُذ الرَّهائِن ويَنشُر نُفوذَه في البَادِيَة المُضطَّرِبَة فَتُذعِن لَه.. يَتشاوَر مَع فُرسانِه ويُقرِّر السَّيْر بِهؤلاء الفُرسان المُتحمِّسين الَّذين أَقسَموا لَيَخُوضُونَ دُونَ سَيف الدَّولَة الأهوَال لِمُقاتَلة الرُّوم، فَيَعبُر بِجُندِه الفُرات إلى (دلوك) ثمَّ (قَنطرة صَنجة) فَــ(دَرب القلَّة) مُطارِداً العَدوّ المُنسَحِب المَذعُور من هَيبَتِه وسَطوَتِه. وبَعدَ المُطارَدة يصطَدِم بِمُؤخِّرة العَدوّ المُمعِن في الانسِحاب، ويقتُل كثيراً منهم. ولَكنَّ سَيف الدَّولَة لم يَستمرّ بِمُطارَدة العَدوّ، فَيُقَرِّر الرُّجوع بَعد أن ظَفَر بِمُؤخِّرَة العَدوّ وأَبَادَها، ويَرجِع إلى (ملطية)، عَابِراً الفُرات مَرَّةً أُخرى إلى (سميساط).
ولَكنَّ العَدوّ الَّذي ظَنَّه سَيف الدَّولَة قد انسَحَب نِهائِيَّاً وانتَهى أَمرُه.. عَبَّأَ قِوَاه، والتَفَّ لِيُواجِه سَيف الدَّولَة في بَلَد المُسلمين، في (جيحان). وهُنا يُسرِع سَيف الدَّولَة بِجَيشه لِيَصطَدِم بــِـ(القسم الأكبر) من جَيش الأعداء، وتَدور المَعركة الفَاصِلة التي تنتهي بِانهِزام جَيش الرُّوم وأَسْر(قسطنطين) ابن (الدمستق) قَائِد الرُّوم.
ويَهتَزّ أبو الطَيِّب لِهذا النَّصر العَظيم، فَيقُول مَادِحَاً سَيف الدَّولَة وَوَاصِفَاً المَعرَكة:
لَيالِيَّ بَعدَ الظَّاعِنينَ شُكُولُ |
|
طِوَالٌ ولَيْلُ العَاشِقِينَ طَويلُ |
وانظُرْ لِأَبي الطَّيِّب كَيفَ يَصِفُ لَكَ سرعَة تَحَشُّد جَيش سَيف الدَّولَة وزَحفِه لِمُلاقاة العَدوّ:
رَمَى الدَّرْبَ بِالجُردِ الجِيَادِ إلى العِــ فَلَمَّا تَجَلَّى مِن (دَلُوكَ) وَ(صَنْجَةٍ) |
|
ـــــــدَى ومَا عَلِمُوا أنَّ السِّهامَ خُيُولُ لها مَرَحٌ مِن تَحتِها وَصَهِيلُ |
ويستمرّ في وَصف المَعركة.. ومُباغَتة سَيف الدَّولَة لِأعدائِه، ومَا خَلَّفَته تِلك المَعركة من مَآسٍ وتَخريب، ثمَّ فَرار (الدمستق) جَريحَاً، وأَسر ( قسطنطين). فَهوَ يقول: إنَّ سَيف الدَّولَة قد بَاغَتَ أَعداءَه فَلَم يشعروا بِخَيلِه إِلَّا مُغيرَةً عَليهِم. فَكانَت قَبيحَة في أَعيُنِهِم لِمُفاجَأتِها إيَّاهُم وَسُوءِ فِعْلِها بِهِم:
فَمَا شَعَرُوا حتَّى رَأَوهَا مُغِيرَةً وَعَادَتْ فَظَنُّوها بِـ(مُوزارَ) قُفَّلَاً |
|
قِبَاحَاً وَأَمَّا خَلْقُهَا فَجَمِيلُ |
هذه هِيَ الحَرب.. لا يَنتُج مِنها إِلَّا الدَّمار والفَنَاء لِلمَغلُوب، ولا يُصاحِبُها إِلَّا الدُّموع والمَآسي. هَؤلاء هُنَّ السَّبَايَا يَنتَحِبنَ بِحُرْقَة وقَد شَقَقنَ جُيوبِهنَّ لِهَولِ المُصَاب، ولِمَا فَقَدنَ مِن بَعُولٍ وآبَاءٍ وإِخوَان، ولِمَا أُحرِقَ ودُمِّرَ مِن دِيار وزَرْع.
لقد أَشرَفَت المَعركة على الانتِهاء، وهَاهُو قائِد الأعداء ينجو بِنَفسه جَريحاً بَعد أن خَلَّفَ ابنَه أَسيراً، وتَشتَّتَ جَيشُه بَعد أن قُتِلَ مَن قُتِل، وَفَرَّ مَن استطاعَ الفَرار والإِفلات مِن خُيول سَيف الدَّولَة الظَّافِرة. وهذا أبو الطَّيِّب يُخاطِب قائِد الأعداء الفَارّ سَاخِراً مِنه:
نَجَوتَ بِإِحدَى مُهجَتَيكَ جَرِيحَةً |
|
وَخَلَّفتَ إِحدَى مُهجَتَيكَ تَسيلُ |
وهذه مَعركة أُخرى وَصَفَها المُتنَبِّي وأَبدَع. وقد تَجلَّى إِبداعُه خَاصَّةً في وَصف الحالة النَّفسيِّة لِلمَغلوب، وما يُصوِّره لَه خَيالَه المُضطَّرِب من أَوهام أثناء الانسحاب، فَتختلِف عِنده المَفاهِيم وتَلتَبِس عَليه المَسالِك.
لقد كانَ حِصن (الحَدَث) الَّذي بَناه سَيف الدَّولَة قَذىً بِعَينَي مَلِك الرُّوم الَّذي أَقلَقهُ ذلك، فَلَم يَفتَأ يَغيرُ عَليه بِجَيشٍ كبير ليتمكَّن من الاستيلاء عَليه. وقد بَلَغَ سَيفَ الدَّولَة أنَّ الرُّوم استولَوا عَليه، وأنَّ مَلِكَهُم أَنجَدَهُم بِأَصنافٍ مِن البَلغَار والصَّقالِبَة، وأَنفَذَ مَعهم العَدَد الكثير والعُدَد. فَخَرجَ سَيف الدَّولَة لِاستِردادِه. فَلمَّا أَشرَفَتء خُيولهُ على الحِصن رَحَل العَدوّ خَائِفاًن وقد وَقَع الاضطِّراب في صُفوفه، وَوَلَّى كُلّ فَريقٍ على وَجهِه. وخَرَج أَهلُ (الحَدَث) فَأَوقَعوا بِبَعض جُند العدو، وأَخذوا سِلاحَهم وعُدَّتهُم. فَقالَ أبو الطيِّب وَاصِفَا المَعركة في قصيدَته التي مَطلُعها:
ذِي المَعالي فَلْيَعلُوَنْ مَنْ تَعالَى |
|
هَكَذا هَكَذا وَإِلَّا فَلا لَا |
ثمَّ يُصوِّر لَنا حالَة المَغلُوب النَّفسِيِّة:
مَــا مَـضَـوا لَــم يُـقـاتِــلُــوكَ ولَــكِــــــنَّ بَسَــــــــطَ الرُّعبُ في اليَمينِ يَمينَــــــــاً يَنفُــضُ الــرَّوْعُ أَيــدِيَــاً لَيـــــسَ تَــدرِي |
|
الـــقــِــــتــــــالَ الَّـــــذي كـَـفَـاكَ القِـتـالَا يَــــنـدِبُـــــــونَ الأَعــمَـــامَ والأَخـــــوَالَا فــــَتـــوَلَّــــَوا، وَفِي الشِّــمَـــالِ شِــمَـــالَا أَسُــيــوفَــاً حَــمَــلْــــنَ أَمْ أَغـــــــــــــلَالَا
|
إنَّها صورة حافِلَة مُعبِّرَة.. فَإذا أَردتَّ أن تَعرِف صورة حقيقيِّة لِلخَوف فَتأمَّل هذه الأبيات: جُثَثُ مُشوَّهَة مُبعثرَة. هذه يَدٌ مُلطَّخة مُهمَلة تَحت فَرَس، وتِلك سَاقٌ مَبتورَة مازالَت تَنزِف على الصَّعيد، وهُنا جُثَّةٌ استَقرَّ فيها سِنَان فَما زالَت فَاهِقَة بِالدَّم، وهُناكَ هَامَةٌ يَبِسَ عَليها الدَّم لا تسطيع تمييزها أو نِسبَتَها إِلى إِحدَى الجُثَث.
إنَّ رائِحة المَوت تَخنُقكَ وتَملأ خَياشيمك، والرِّيحُ تَحمِل الشَّعْر الجَافّ المُتطَايِر مِن الهَام.. فَيطير نَذيرَ شُؤمٍ ومَوْت!..
إنَّهم يَفِرُّون من المَعركة، ولكنَّ الرُّعب يَحتويهم، ويَمُدّ فَوقهم أَيدياً طويلة ذَاتَ مَخالِب سَوداء!.. لقد صَوَّرَ لَهُم رُعبَهُم أنَّ في يَمينِهم مَيْمَنة تُطارِدُهم، وفي شَمالِهم مَيسَرة تُريد الانقِضَاضَ عَليهم. فَليُسرِعوا إذاً قَبلَ أَن تُدرِكهُم هذه القُوَّة الجَبَّارة!.
وبَعْد، أفَلا يُمكِنُنا أن نَعتبِر هذا الوَصف الرَّائِع لِوَقائِع سَيف الدَّولَة الَّذي سَطَّرهُ شَاعِرُنا المُبدِع (أبو الطيِّب المُتنبِّي) بِمَثابة (بَلاغات حَربِيِّة) تُؤرِّخ مَجدَه، وتَجعلُه خَالِداً عَلى مَرّ العُصُور؟.