العدد 126
(مؤتمر شاعر الإسلام محمد إقبال، في رحاب إيوان إقبال بمدينة لاهور، في الباكستان، بالتعاون بين المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية في باكستان، والجامعة الأشرفية، وحكومة البنجاب المحلية، في المدة من 29-30 تشرين الأول (أكتوبر) 2016م).
مقدمة:
إن ديوان رسالة المشرق لمحمد إقبال من أهم الدواوين التي تواصل فيها الشاعر والفيلسوف إقبال مع الغرب، وقدم أفضل صورة للحوار والتثاقف الإيجابي والواعي مع الآخر، نظمه جواباً لديوان الشاعر الألماني "غوته" والموسوم: الديوان الشرقي للشاعر الغربي".
وقد رأى ضرورة رد التحية، وأبدى إعجابه بالشاعر دون أن يغفل رسالته مفكراً مسلماً امتلك قدرة فائقة على المحاورة والمناظرة والتوجيه من منظور إسلامي، وكانت له وقفات كثيرة مع الغرب، وإشارات متفرقة في ثنايا الديوان، ولكن أهم جزء فيه اختص به الغرب هو منظومة "صورة الغرب" المكونة من خمس وعشرين قطعة شعرية حاور فيها أشهر فلاسفة الغرب ومفكريه وأدبائه: (نيتشه- شوبنهاور- هيجل – تولستوي – ماركس - لينين– آينشتاين – أوغست كونت – بايرون- برغسون...)، وناقش أهم مؤسساتهم وأيديولوجياتهم، وبخاصة عصبة الأمم، والفكر الشيوعي، والفكر الرأسمالي. وهذه المداخلة لكشف انفتاح الشاعر على ثقافات الأمم الأخرى من دون الذوبان فيها لأنه يحتكم دائماً إلى العقل وإلى هويته الإسلامية الرشيدة.
بين إقبال وغوته:
إن عنوان الديوان موضوع الدراسة "رسالة المشرق" والعبارة التي سجلها إقبال تحت العنوان: "للرد على الديوان الشرقي للشاعر الألماني غوته"، وإن المقدمة التي أطال فيها الحديث عن ديوان غوته الشرقي تقتضي منا وقوفاً عند رسالة المشرق والبحت فيه عن عناصر الثقافة الغربية، وبخاصة الأفكار المأخوذة من الديوان الشرقي للشاعر الغربي، أو المصححة والمناقضة أو المعارضة لما فيه، ولا يمكن أن نعتبر هذه المحاولة دراسة مقارنة بين الديوانين، وإنما هي خطوة ضرورية لفهم الديوان، وتوضيح أبعاده الفكرية والفنية، ولم يكن غوته الشخصية الوحيدة التي لفتت انتباه إقبال من أبناء الغرب، فهو بحكم دراسته على أيدي أساتذة غربيين في بلاده الهند عرف الكثير من مفكري الغرب وأدبائه وشعرائه، وكان سفره إلى أوربا لمواصلة الدراسة الأساس القوي الذي دعم قاعدته في الثقافة الغربية ووسع معارفه وحدد مواقفه منها.
كان ديوان إقبال رسالة المشرق الصوت الأول الذي استجاب لأمنية غوته وهردر في الأدب العالمي، وكان أجمل تعبير عن لقاء إقبال الروحي بألمانيا([1]) وبعدها بأوربا، فبواسطته عد إقبال وسيطاً بين ثقافة الشرق والغرب، ومثلاً بارزاً للحوار الشرقي الغربي، وعلى رأسه حوار الثقافة الإسلامية والألمانية.
وأهمية إقبال إلى جانب كونه داعية إلى تجديد التفكير الديني في الإسلام، ومصلحاً في شبه القارة، إنما تعود أيضاً إلى كونه "المحاور الثقافي الذي اطلع على فكر الغرب، ووقف في الطرف الآخر الشرقي، وقد كان المؤهل أكثر من غيره لقيادة هذا الحوار"([2]) ولكنه مع هذا كان وسيطاً مميزاً غير مستلب الفكر أو تابع.
إن تحية غوته للمشرق، والشرق الإسلامي لم تأت من العدم؛ فقد عرفت ألمانيا حركة غنية بالترجمات والدراسات الأدبية، انطلقت من رهان أساسي وأعمى وهو أن لا وجود للشرق، وأن اللغة وحدها الموجودة، وهي الواقع الوحيد المعترف به، لأن الاستشراق الألماني انطلق من دراسة اللغة العربية كلغة ميتة والعرب كشعب بائد([3])، وبقيت العربية وكثير من الدراسات الشرقية إلى عهد قريب تابعة لقراءة لغة أخرى في ألمانيا هي العبرية، ولقراءة دينية لاهوتية للتوراة، وفوق هذا مرت ألمانيا بفترة منع الإصلاح الديني فيها كل ما يمكن أن يكون انفتاحاً على نصوص كافرة. فليس غريباً أن يوصف غوته في بعض كتاباته عن المشرق بالكفر والمروق عن الدين. فما كادت روايته "محمد" تظهر إلى الوجود حتى راح خصومه من المتعصبين يتهمونه بالكفر والخروج عن النصرانية، فكان أن رد على ذلك الاتهام برسالة مشهورة عنوانها: "لماذا آمنت بمحمد؟". ذكر فيها أنه أحب محمداً كما أحب عيسى بن مريم عليه السلام، وأنه يرى في الإسلام ديانة الخلق السامي الصحيح([4]).
كما كان "جوهان جاكوب ريسكه" (1716 –1774م) من أوائل الرافضين للقراءة اللاهوتية للنص العربي، وكانت دراسته لجرير والبحتري والمعلقات إحياء للعربية باعتبارها لغة قائمة بذاتها تحمل قيما أخرى غير القيم اللغوية، وكانت سبباً في خلافه مع أستاذه "شولتز" الذي يعتقد أن العربية لا يمكن أن تكون إلا لغة إضافية من أجل دراسة العبرية، وأن الشعر العربي لا يمكن أن يكون إلا مرجعاً لإثباتات وبراهين التوراة، كما يرجع الفضل للباحث "ريسكه" في التحول بالاهتمامات من الشرقي إلى الإسلامي الذي لا يشتمل الحضارة العربية وحدها؛ وإنما هو سلسلة حضارات وشعوب، عرب وفرس وأتراك وبربر... وغيرها من عناصر الشعوب الإسلامية، وهو الذي سمى نفسه "شهيد اللغة العربية"([5]).
ومن الآثار الإسلامية المترجمة التي كان لها الأثر في اهتمامات "غوته" بالشرق ترجمة العالم "هامر برجشتل" لتائية ابن الفارض شاعر الحب الإلهي، وقصة عنترة بن شداد، وكتاب الإمام الغزالي "أيها الولد"، وديوان الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي، وهي الترجمات التي اطلع عليها جميعاً في مكتبة "فايمار"([6]).
ومن الدارسين الألمان للثقافة الشرقية "جورج فلهلم فريتاغ" ناشر "حماسة أبي تمام" وشروح "التبريزي"، والأستاذ "ج. ع. د. كوز غرتن" ناشر "ألف ليلة وليلة" و"رحلة ابن بطوطة" و"تاريخ الطبري"، وهو الذي أسماه "غوته" أستاذ اللغات الشرقية بجامعة "يينا". أما "فريديريك روكرت" تلميذ غوته فقد ترجم خمسين سورة من القرآن الكريم، ومقامات الحريري، ومقاطع من الشاهنامه، وكان "روزن" من أشهر من ترجم في شعر التصوف الإسلامي...([7])
هذا قليل من كثير من اهتمام الألمان بالدراسات الشرقية الإسلامية التي كان لها الأثر في ميلاد الديوان الشرقي للشاعر الغربي، والذي كان بدوره سبباً في ميلاد ديوان رسالة المشرق.
إن غوته في ألمانيا وفي الآداب الإنسانية عامة أشبه بالحدث التاريخي، فقد ظهر الاتجاه إلى الأدب المقارن والدراسات الأدبية المقارنة في الأدب الألماني في محاولات فردية على أيدي بعض الكتاب وعلى رأسهم "ليسنج" و"غوته"([8])، وقد فتح "غوته" صفحة جديدة في تاريخ الثقافة عندما تحدث عن أهمية ظهور الأدب العالمي، وبفضل جهوده خطت الآداب نحو العالمية، ففي عام 1827م أعلن أن الشعر أصبح «ملكاً للإنسانية جمعاء، وأن الوقت قد حان لتكوين أدب عالمي»([9])، وقال مرة القس حنَّا رئيس القساوسة ودارس العبرية واليونانية مبيناً فضل كتابات "هردر" وإدراكه لهذه الحقيقة: «علمتني كتب هردر أن فن الشعر هبة عالمية، وهبة للأمم وليس إرثاً لبعض المثقفين المهذبين»([10]).
فوطن الشعر عنده إنما يستمد من أوطان عديدة، يقول: «سوف يكون من شأن الأديب بوصفه إنساناً ومواطناً أن يحب وطنه الأم، لكن وطن طاقاته الشعرية وتأثيره الشعري هو قيم الخير والنبل والجمال، وهذه لا ترتبط بإقليم معين ولا ببلاد معينة، بل هي قيم يعمد إلى اعتناقها والتمسك بها وتشكيلها»([11])، وقد شبه الأديب وهو يلتقط تلك القيم من هنا وهناك بنسر، الأمر عنده سواء فيما إذا كان الأرنب الذي انقض عليه في بروسيا أو سكسونيا، وإذ يدعو لعالمية الأدب لأن العالم الأوسع عنده: «مهما امتدت رقعته واتسعت لا يعدو كونه وطناً موسعاً فحسب»([12]). وقد كان أدبه تطبيقاً عملياً لما ذهب إليه، ومثالاً حياً للصلات الثقافية الشرق غربية.
ولعل أشهر ما مثل تلك الصلة ديوانه الشرقي، الذي تجلى فيه أثر الثقافة الإسلامية، ففي أولى صفحاته الحاملة للعنوان كتب أعلاه: «ولله المشرق والمغرب»([13]). وهي الآية التي أثبتها إقبال في أول ما يطالع القارئ من الديوان "صفحة الغلاف الخارجي"، وفيه الكثير من الثقافة الإسلامية، منها ما اتصل بالقرآن الكريم، بل إن غوته خاض في أصعب حوار دار بين علماء المسلمين وأخطره وهو قصة خلق القرآن، ولكنه نزه نفسه عن القول بذلك السؤال عنه، يقول:
«كان الناس عندما يذكرون القرآن يذكرون السورة والآية،... أما الدراويش الجدد فلا همَّ لهم إلا اللغو في القديم والحديث،... هل القرآن قديم؟ هذا سؤال لا أسأله، هل القرآن مخلوق؟ هذا ما لا أعرفه، أما إنه أم الكتاب، فذلك ما أومن به، وذلك واجب كل مسلم»([14]).
ومن القصص القرآني تأثره بقصة أهل الكهف، وقصة خلق الإنسان وغيرها، ومن آثار الثقافة الإسلامية في الديوان الشرقي التاريخ الإسلامي ابتداء بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، ولكن الأثر الأكبر كان لحافظ الشيرازي إلى الحد الذي يمكن اعتبار الديوان مرآة عكست ديوان الشاعر الفارسي الملهم لروح شاعر الألمان، فأقسام ديوان غوته تحمل عناوين وأسماء جلها - إن لم نقل كلها- فارسي مأخوذ من ديوان حافظ الذي كان اكتشافه بمثابة نقطة تحول في حياة غوته، وهو في الستين من عمره، عكف على وضع الديوان الشرقي، وعكف على مطالعته، وهام فيه بسحر الشرق، فهاجر إليه بروحه في زمن اضطربت فيه الدنيا واختلت موازينها، ولم يبق له أمل إلا في الشرق، مهد الرسالات السماوية.
كما كان للشعراء العرب وجودهم في فكر غوته وديوانه الذي كان يهدف من ورائه إلى تحقيق «فتوحات جديدة في عالم الفكر»([15])، منها إثارة اهتمام الألمان بأدباء الشرق الذين لم يكن أحد في ألمانيا قد عرف عنهم شيئاً، كما كان يهمه بعث الكنوز العربية الدفينة مثل شعراء المعلقات، والشعراء الصعاليك؛ ليفتح لهؤلاء جميعاً الطريق إلى قلوب الألمان وعقولهم.
وإذا أردنا الحديث عن إقبال وغوته ومدى تأثر إقبال بشاعر الألمان؛ فإننا نحتاج إلى طرف ثالث لا يكمل الحديث إلا به، ألا وهو حافظ الشيرازي، الذي كان له حظ من الشهرة والتأثير في الغرب لم يبلغها غير الخيام بين شعراء الشرق، عرفه الإنكليز عن طريق الهند، وعرفه الألمان عن طريق الأتراك، واعتمدوا على شرح "سودي" وهو الأساس الذي قامت عليه ترجمة "فون همر" (في جزأين 1812)([16])، التي كان لها الفضل في التعريف به في أوربا.
اختار غوته حافظا الشيرازي من باب الإعجاب بفنه كما يقتضيه صريح كلام حافظ بعيداً عن التأويل، وبعيداً عن الرموز، أعجب به لإقباله على السرور، وعلى التمتع بكل ما تأتي به اللحظة الحاضرة، قال منتقداً الذين أولوا شعره: «لقد لقبوك، أي حافظ الأقدس! باللسان الصوفي، ولكنهم وهم العلماء بالكلام لم يفهموا قيمة كلماتك، إنك تسمى عندهم الصوفي لأنهم يفكرون في شعرك تفكيراً أحمق...، حقاً إنك لصوفي، ولكن لسبب واحد: هو أنهم لا يستطيعون فهمك، أنت يا من أنت سعيد، من غير أن تكون تقياً»([17]).
فالذي لفت انتباه غوته هو ظاهر كلام حافظ، فعلى الرغم من جمع حافظ بين الجانبين الحسي والمعنوي، وترك الناس في حيرة من أمره، أيفسرونه تفسيراً صوفياً أم تفسيراً حسياً دنيوياً!؟ فإن غوته رجح الجانب الحسي، لكنه من غير وعي منه مزج بين الصوفية العميقة المعلقة في سماء الألوهية، وبين الحسية النافذة في أعماق الطبيعة الإنسية([18]).
إن القارئ للديوان الشرقي يذهل عندما يدرك أن ما استوعبه غوته من الشرق كان مجرد أفكار لجأ إليها لنسيان وتجاوز ما حوله من هموم، أو هي معلومات ثقافية عن المشرق الإسلامي أراد أن ينقلها إلى القراء، حتى في حديثه عن الإسلام: «إذا كان الإسلام معناه التسليم لله؛ فعلى الإسلام نحيا ونموت جميعاً»([19]).
ظل رجلاً غربياً بأفكاره واتجاهاته ومواقفه، يفكر تفكير الغربيين رغم هجرته وتوشحه بمسوح الشرق، وظل ينظر إلى الحياة نظرة الرجل الغربي الألماني، وحتى ديوانه الشرقي أبى إلا أن يكون غربياً، فهو الديوان الذي أخذ الإلهام من المشرق، ولكنه أيضاً الديوان الغربي أو ديوان الشاعر الغربي، لأنه فسر تلك النفحات الشرقية تفسير رجل غربي، فكان بذلك مزيجاً طريفاً لا شرقياً ولا غربياً.
ظهر حافظ في بلد تدهورت أحواله الاقتصادية والسياسية، وبقي الشعر فيه شامخاً وهي.. المتناقضة التي عرفتها ألمانيا في عهد غوته، حيث كانت الهوة فسيحة بين التأخر السياسي والاقتصادي، وبين النهوض الفكري والأدبي الذي «تطور في ظروف مؤسفة»([20]). وهي الظروف الشبيهة بميلاد إقبال، فقد عده ملك الشعراء بهار نادر عصره، ورأى أن الزمان ليس زمانه([21]).
كان لحافظ الشيرازي "شاه شجاع" شاه شيراز وما حولها وليّ نعمة مؤيداً ونصيراً يهدي له ديوان شعره، وكان لغوته الأمير "كارل أوغست" الذي قلده الكثير من المناصب السياسية في مدينة قايمار، وإليه أهدى روائع بيانه، كما كان إهداؤه إلى ذلك الأمير وقصته معه أشبه بقصة (شكي بكي) مع البرمكي في "ألف ليلة وليلة"، فما كان منه إلا أن يشبه آخر المنعمين بأولهما، قال في الإهداء إلى الأمير كارل أوغست: «جعلت عشرين سنة من عمري تمر، وتمتعت بما أتيح لي، إنها مجموعة جميلة مثل عصر البرامكة»([22]).
وفي مقابل هؤلاء الأمراء نظر إقبال إلى العالم الإسلامي من حوله فوجده مقيداً، نظر إلى قلاع الإسلام القريبة منه فوجد بلاد الأفغان وتكاد تكون وحدها الطليقة المعصم من قيد الاستعمار آنذاك رغم ما تعرضت له من تهديدات، فرأى في أميرها الجديد الذي بويع مثالاً للمسلم المعتدل، رآه جديراً بأن يهدي إليه الديوان ولاسيما أنه قد أرسى الأمن في البلاد، وكان له سجال مع الإنكليز انتهوا فيه إلى طلب الهدنة منه، وإن سير المملكة الحديث في عهده جعل العارفين بأمور البلاد يرون أنه لا يمضي عشرون عاماً حتى تصير أفغانستان أعز دولة في آسيا الوسطى، وتصبح ركناً للشرق وأهله([23]).
ولكن آمال هؤلاء وآمال إقبال المعلقة على ذلك الشاب تبخرت، وذهبت أحاديث إقبال عنه وحماسته الزائدة له أدراج الرياح، فكانت أشبه بقصيدته في مصطفى كمال أتاتورك، وإذا صحح موقفه من أتاتورك؛ فإن المراجع لم ترشدنا إلى موقف جديد له من الأمير أمان الله خان، رغم زيارته لأفغانستان عام 1933م؛ بدعوة من حاكم البلاد الجديد "نادر شاه"، فكان الاندفاع العاطفي الثاني الذي يخيب فيه إقبال، يكفي أنه وجد أميراً كما كان لحافظ ولغوته من بعده.
فإذا سرنا مع إقبال وغوته وجدنا قضية خلق الإنسان، وفيها اقتصر غوته على أصل الإنسان ونفخ الروح فيه، بينما فضل إقبال القصة كاملة من بدء الخلق إلى الهبوط إلى الأرض.
هذا وقد كان لإقبال وقفات مع فكرة الخير والشر وضرورة تآلفهما، فكان ذلك موافقاً لما ذهب إليه غوته من ضرورة وجود الشر ليكمل الجزء الآخر من الحياة وهو الخير، ولكن إقبال استمد ذلك من التراث الإسلامي ومن سنن الله في الكون، بل هو من أدل الدلائل على كمال قدرة المولى عز وجل وعزته وسلطانه وملكه، وأن خلو الوجود من بعض هذه المتضادات بالكلية: «تعطيل لحكمته وكمال تصرفه»([24]).
فقد خلق الله سبحانه: «إبليس، الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات، وهو سبب شقاوة العبيد وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى... ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كبيرة للرب تعالى، ترتبت على خلقه وجودها أحب إليه من عدمها»([25]).
فقد وهب الله الإنسان عقلاً وهداه النجدين، به إما أن يكون شاكراً وإما كفوراً، بالعقل تعرف قدرات البشر وأقدارهم، ولولا وجود الشر إلى جانب الخير لما كان هناك عقاب وحساب أو ثواب، ولما كانت هناك جنة أو نار، إن الشر جزء من سنن الله في الأرض يتحتم على الإنسان فهمه وتجنبه لأن الجاهل له أشد الناس وقوعاً فيه.
وقد لاحظت أنّا مارى شيمل وهي المتخصصة في الدراسات الإقبالية مدى جاذبية صورة الشيطان في أعماله([26])، إلا أنه لم يكن متفرداً في تلك النظرة، ولا غوته متفرد فيها، فهيروقليدس مثلاً يعتقد أن «الخير والشر نوطتان في سمفونية واحدة، وسمفونية العالم عنده هي نتيجة لتلازم هذين الضدين المتناقضين، الخير والشر»([27])، وإن كان البشر لا يرون إلا هذين الضدين فإن الله يرى السمفونية، ويرى كل شيء حقاً وصحيحاً([28])، فلولا الشر ولولا الآلام لتساوى الناس في فهم الحياة ولما وجدت أسرار يتفاوت الناس في معرفتها بتفاوت أقدارهم.
يرى إقبال أنه لا بد من الآلام، ولابد من العذاب الذي به تنضج الأرواح، وبه يصل الناس إلى السعادة. فالحكمة لا تنقش على القلب إلا بحروف من دمائه، وإذا كانت العظمة درجات فإن الآلام هي الطريق، وهي سلم العروج إليها، يقول:
إن كانت الحياة خمراً صافياً |
يغمرنا من رأسنا إلى القدم |
ففي الدموع للحياة جدول |
تصفو به النفس وتنبت الهمم |
والله في حكمته علمنا |
أن انشراح الصدر قبله الألم |
آلامنا إلى العلا أجنحة |
نعلو بها فوق مطارات النسور |
الروح سر والحياة ظلمة |
وشعلة الآلام للأرواح نور([29]) |
وقد راود إقبال السؤال الذي شغل المفكرين عن الخير والشر، فقال: «كيف يمكننا التوفيق بين الخير الإلهي المطلق مع القدر العظيم من الشر في خلقه!؟»([30]). ولكنه لم يكن السؤال المنكر لسنن الله في خلقه، فقد أعلن رفضه لحياة في عالم فيه إله وليس فيه شيطان، يقول: "فلا تعش في عالمٍ باهتٍ فيه الإله وليس فيه الشيطان".([31])
ولأنه أدرك أن التنافر والصراع الدائم بين الخير والشر هو الذي يضفي على الحياة نمواً وغنىً، ويمنح الفكر الحركة، فقد نادى ببقاء أقصى درجات الشر عنده، وهي المتمثلة في إبليس أو الشيطان لأن إبعاده من العالم «قد يعني إبعاد الشر، وهذا ما يؤدي إلى تدهور القانون الإلهي»([32])، وقال في المعنى نفسه:
سألت شيخاً بعيد النظر: ما الحياة؟ فأجاب: هي خمرٌ، الأمرُّ فيها أحلى.
قلت: قد فطرت طبيعتها على الشر، فأجاب: أنت لا تعلم أن هذا الشر هو عندها خير([33]).
وهذا ما حدا به إلى تصوير آدم يوم الحساب يقف معترفاً بذنوبه، ولكنه يعترف أيضاً في حياء بأنه من غير الممكن أن ينمي قابلياته، وأن يسمو بإرادته وكفاحه، ويصعد ثانية إلى السماء بعدما أنزل منها دون مرور بتلك التجربة مع الشيطان، يقول:
... تدنيت إلى أسفل الأرض، ثم علوت حتى الأفلاك، فالذرة والشمس المضيئة سجينة سحري.
فإن أبعدني سحر الشيطان عن طريق الصواب، فتجاوز عن خطيئتي، وتقبل العذر عن ذنوبي ومعاصي.
حتى يذوب هذا المعشوق الحجري من أنفاسي الحارة وتأوهاتي، فإنه يجب عليّ قبل أن أقطع الطريق أن أكون مخلصاً له([34]).
فالشر إحدى سنن الله في الكون، به تعرف معادن البشر وأقدارهم، وبه تسير الحياة كما تسير بالنصف الآخر الذي هو الخير. ولعل هذا ما حدا بإقبال إلى أن يضع الشيطان في ديوانه "رسالة الخلود في كوكب المشتري رفقة كبار المتصوفة والشعراء الذين رفضوا البقاء في الجنة، وفضلوا البقاء متجولين في الكون([35]).
أما أقصى درجات الشر عند غوته فمثلتها قصة فاوست في صراع الحكام والعبيد، وفيها صرح أن الخطأ وعدم الإتقان والصراع أمور تتعرض لها حياة الإنسان وجهده بالضرورة([36]).
كما اعترف بضرورة وجود الشر، وبأنه سنة إلهية أرسلت على الخاملين الراكنين إلى الراحة حتى توقظهم، قال: «يقول الرب: إن الإنسان وجد الراحة مغرية وجذابة جداً، حبيبة إلى القلب دائمة غير محدودة، وذلك ما جعلني أقدم له رفيقاً، يجب أن يعيش ويدفعه مثلما يدفعه الشر»([37]).
وقد اقتسم إقبال الفكرة مع مرشده الروحي جلال الدين الرومي الذي يقول: «بالرغم من أن الخير والشر ضدان فيجب أن يقعا في نفس الكل، حيث لا يمكن أن يكون أحدهما حادثاً متفرداً، لأن الحوادث تباعاً»([38]).
[1])) إبراهيم عبد الرحمان محمد، النظرية والتطبيق في الأدب المقارن، دار العودة، بيروت، 1982، ص5.
[2])) مجلة باكستان المصورة عدد 19، م 2، ص10، الحوار بين الشرق والغرب في فلسفة محمد إقبال، محمد عبد القادر قلعه جي.
[3])) مجلة فكر وفن، عدد 32، ص 18، عدد خاص بإقبال.
[4])) مجلة الرسالة، سنة 1، عدد 14، ص 32.
[5])) مجلة الفكر العربي عدد 31 سنة 5، ص 193، تاريخ الاستراق الألماني، أحمد حسن عبد السلام.
[6])) عبد المنعم الخفاجي، الإسلام والحضارة الإنسانية، ص 296.
[7])) المرجع نفسه، ص297.
[8])) عدنان محمد وزان – مطالعات في الأدب المقارن، الدار السعودية للنشر والتوزيع 1403ه، 1983م، ص 25.
[9])) الكسندر ذيما المترجم، مبادئ علم الأدب المقارن، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1987م، ص 100.
[10])) امري نف، المؤرخون و روح الشعر، ترجمة توفيق إسكندر، 2، 1984 دار الحداثة، لبنان.
[12])) المرجع نفسه، ص188.
[14])) غوته، الديوان الشرقي الغربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط2، 1980 ص:69.
([15]) كاترينا مومسن، غوته وألف ليلة وليلة، ترجمة أحمد الحمور، وزارة التعليم العالي بسوريا، 1980م، ص157.
[16])) غوته، الديوان الشرقي، ترجمة عبد الرحمن بدوي، المقدمة، ص 38 – 42.
[17])) المرجع السابق، المقدمة، ص44.
[18])) المرجع السابق، المقدمة، ص47
[19])) المرجع السابق، المقدمة، ص37.
[20])) فؤاد المرعي، المدخل إلى الآداب الأوربية، ط2، مديرية الكتب والمطبوعات، ص172.
[21])) مجلة الرسالة، عدد 262، سنة6 مجلد 2، ص1147 محمد إقبال، عبد الوهاب عزام.
([22]) كاترينا مومسن، غوته وألف ليلة وليلة، ص160، 161 وفي ترجمة عبد الرحمن بدوي: "أمضيت من عمري مدى، متعت فيه بما تيسر، عهد جميل قد حكى عهد البرامكة المنتصر"، ص57.
[23])) لوثروب، حاضر العالم الإسلامي، مجلد 1، جزء 2، ص 210-213.
[24])) ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين، ص144.
[25])) المرجع نفسه، والصفحة نفسها.
[26])) مجلة فكر وفن، عدد 32، ص67، عدد خاص بإقبال.
[28])) المرجع نفسه، ص85.
[29])) محمد حسن الأعظمي والصاوي شعلان، الأعلام الخمسة للشعر الإسلامي، ص71.
[31])) رسالة المشرق، ص302.
[33])) رسالة المشرق، ص295.
[34])) رسالة المشرق، ص258.
[35])) ينظر جاويد نامه لمحمد إقبال، ترجمة د حسين مجيب المصري. 209.
[37])) المرجع نفسه، ص64.
[38])) المرجع نفسه، ص61.