العدد 126
ب.إقبال والغرب:
قد نعد الثناء الذي خص به إقبال غوته ثناء على شخص من الغرب؛ لأنه وإن وجد في الديوان تقديم لبعض عقول الغرب فإن إقبالاً يقف فيه عند حدود الاعتراف بالفضل من غير إعجاب أو ثناء، ولأن الجزء الأخير من الديوان الذي خص به الغرب، "صوره الفرنج" غلب عليه الانتقاد والتوجيه والكشف عن خفايا الفلسفات الغربية، فمن أول بيت في صورة الفرنج ندرك أنها رسالة موجهة إلى الغرب، ولكنها ليست تحية طيبة لطيفة كالتي خاطب بها غوته، إنها تحية صارمة صادقة قوية، يقول:
يا نسيم الصبا أبلغي عني عالم الإفرنج، عندما يبسط العقل جناحيه يزداد أسراً([1]).
وهي تحية ذات وقفات عديدة مع نظم الغرب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومع منظري الغرب وفلاسفته، ومع العقل الغربي عموماً، وهي الجزء الذي ظهر فيه صراع إقبال مع العالم، وجاءت فيه ترجمات لبعض أفكارهم ومحاكمات لجل رواد الفكر والأدب الحديث عندهم.
من رجال الغرب الذين خصهم في ديوانه بذكر الفيلسوف "شوبنهاور" جمع بينه وبين "نيتشه" في قطعة من ديوانه للعلاقة التي بين أفكارهما، وهي علاقة تنافر وتضاد.
فقد كانت أفكار شوبنهاور الأساس الأيديولوجي لفلسفة نيتشه([2]) المناقضة لها إلى حد كبير.
ومن ذلك موقفهما من إرادة الحياة، فهي عند شوبنهاور منبع كل شر وخسران، ولكنها عند نيتشه مصدر كل خير وفلاح، إلى الحد الذي قال فيه الدارسون إن ما يراه شوبنهاور شيطاناً يراه نيتشه إلها([3]).
صور إقبال شوبنهاور عصفوراً متشائماً، شاكياً من وخزات شوك الورد، وصور نيتشه هدهداً مرشداً ينصحه بالصراع من أجل الوجود، يقول:
طار من عشه عصفور تحت الروضة، فأصابت جسمه الهش الرقيق من الغصن شوكة.
لعن طبيعة الروض واغتاب الزمن، وارتعش لألمه ولغم الآخرين جميعا.
ورأى أن وسمة الشقائق هي من دم الأبرياء، وأن طلسم البرعم المغلق هو خدعة من خدع الربيع.
وقال: إن أساس بناء هذه الدار الدنيا معوج، أين هو الصبح الذي لا يتبع بليل في انتظام!؟
ناح حتى تقاطرت حنجرته نغمات عذاب، نغمات من دماء، وهطلت من عينه دموع غزار.
فاستدرت نار حزنه الهدهد الذي راح بمنقاره ينزع الشوكة عن جسده.
وقال له: استخرج من كل خسارة لك ربحاً فالوردة لا يأتي منها الذهب الخالص إلا عندما يمزق صدرها.
إذا أصبت بجرح فاصنع من ألمك وجرحك الدواء، وائلف الشوك لتغدو كلك روضاً([4]).
وقد خالف إقبال شوبنهاور في فراره من الشر بتجاوز النفس التام أو مايسمى بـ"النيرفانا"، ومنه فهو موافق لنيتشه، فاهم لنظرياته، متأثر به، إلا أنه مع ذلك مع قلة من المفكرين والأدباء يخالفه في نظرية إرادة القوة، إذ له في التراث الإسلامي عن الإنسان الأعلى ما يغنيه عن ذلك، ثم إن تلك الفلسفة كانت سبباً في الثورة، وفي قيام الحرب العالمية وما رافقها من فتن.
ومرة أخرى يذكر نيتشه ويراه شبيهاً بالشاعر العربي "أمية بن أبي الصلت" الذي قال فيه النبي e: "فلقد كاد يسلم في شعره"، "وإن كاد ليسلم"، وفي رواية: «كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم»([5])، لأن نيتشه وقف بعد بحثه الطويل في المسيحية عند قول: "لا إله" دون أن يتم الجزء الثاني بعد النفي وهو الإثبات: "إلا الله"، لأنه لم يجد في مسيحية القرن السابق ذلك الإله الذي يبحث عنه، وبقي في حاجة إلى شيء آخر يكمل اعتقاده([6])، يقول إقبال:
خفق فكر الحكيم من ضعف الإنسان، فأبدع جسداً أشد إحكاماً.
وألقى في بلاد الغرب مائة ثورة وفتنة، وكالمجنون وصل إلى دكان من زجاج.
إن كنت تطلب لحناً عذباً ففر من بين يديه، فمن نايه يشتد الصراخ ويعلو.
غرز في قلب الغرب مائة خنجر، واحمرت يداه من دم المسيحيين.
وقد أقام على أرض الحرم معبداً، فقلبه مؤمن وفكره كافر.([7])
ولا يكاد مؤلف لإقبال يخلو من ذكر نيتشه([8]) وقد كان يسميه المجذوب، وهو مصطلح صوفي لما كان يضطرب في قلبه من مشاعر دينية على الرغم من إنكاره للإله الذي لم يجده، وإذ يعتبره مؤمن القلب، كافر العقل؛ فذلك لأنه وصل إلى جزء من الحقيقة ولم يتعده، إذ لا مرشد له يقوده إلى إكمال الشطر الثاني من كفاحه، إنه عند إقبال: «الحلاج بدون خشبة الصلب»([9]) أو كما قال فيه:
إنه الحلاج لكن أين عوده |
قال قولاً وسواه لا يعيده([10]) |
وأما الثورة على الرأسمالية وعلى الاستغلال البشع؛ فقد استدعى إقبال روادها الأوائل وجسد أفكارهم، قال على لسان ماركس:
اعلم أن الآدمي قد يصير قاتلاً لأخيه من أملاك الرأسمالية، فهي تحل له قتل بني جلدته.([11])
وصور هيجل ثائراً على الفروق الطبقية معتبراً إياها سبباً في الحرب بين أبناء المجتمع، فقال:
فروق كثيرة ومعان خفية بين الصحراء والخميلة، وبين الحنظل والعسل، فروق تراها عين الحقيقة.
كيف تعطي هذه الطبيعة خالقة الأضداد لذة في القتال بين السيد والأجير، وبين المأمور والأمير([12]).
وفي مقارنة بين هيجل وجلال الدين الرومي أظهر تقديره الشديد لهيجل، ولكنه تقدير لا يرقى بحال من الأحوال إلى منزلة جلال الدين الرومي يقول:
ليلة بت أفكر وأعاني لأجل مشكلات معقدة للفيلسوف الألماني، ذلك الذي كشف فكره وإبداعه الأبدي من ستر الآني.([13])
وجاء إقبال لـ"تولستوي" الكاتب الروسي بما يناسب فكره، إنها ثورة الخدم على السيد المالك. وإذا ذهب رائد النظام الاشتراكي إلى أن "الدين أفيون الشعوب"، فإن هذه الفكرة لم تفت إقبالاً الذي هذب المقولة وقصرها على الدين المسيحي، لأنه كان سبب ميلادها وتسجيلها، وقد أضاف إليها تولستوي مخدراً آخر للعقول هو التاج والوطن يقول:
إن الخدم القوي لجيش شهريار، لأجل أن يحصل على خبز الشعير أخرج سيف الظلم،
ذلك الذي يتخذ من قاتله الغريب صديقاً يمزق صدر الأحباب، لا يرى لب الثمرة ونواتها، فالقبيح في عينه جميل.
إن التاج والكنيسة والوطن مخدرات للعقول بكأس واحدة، يشتري السيد الروح وهي هبة إلهية.
عقل جائر ذلك الذي أبدع فلسفة الظلم والعبودية، إنه هو الذي ألقى درساً ممتعاً في عبودية الأجير.([14])
ولـ"فلاديمير لينين" كلمته في الفكر الذي احتال واخترع الخدع ليدوم استغلال الإنسان للإنسان يقول:
سنون طويلة مضت وآدم في هذا الكون القديم، وقع كالحبة التي وقعت تحت الرحى.
ضحية حيل وخدع استبداد الامبراطور القيصر، كان أسير شباك حلقة الكنيسة.
لكنه رأى أخيرا غلاما جائعاً قد مزق ثوب السيد الملون بدمائنا.
وأحرق شرر نار الشعب هذا المتاع القديم، أحرق ثوب الراهب شيخ الكنيسة ولباس الملك.([15])
ومن حكماء الغرب الذين حظوا بتقدير إقبال الفيزيائي الألماني "آينشتاين"، مخترع قواعد الحركة البروانية، وصاحب نظرية النسبية([16])، ولكنه تقدير لم ينج من نقد يرافقه، يقول:
غير صبور مثال موسى، فقد ظل يطلب التجلي، حتى حل عقله المستنير أسرار الأنوار.
لم يستغرق النزول من السموات العلا إلى عين الناظر إلا ثوانٍ، سريع الحركة حتى إنه لا يشعر بحركته.
صار وحيداً في ظلامه الدامس، فإذا بتجليه وظهوره أشد التهابا من أدغال طور سيناء.
ثابت هو بلا تغير، في سحر كيفَ وكمْ وكثيرٍ يجتاج السفل والعلو، والآجل والعاجل، والقريب والبعيد.
هو أصل النور والظلام، والنار والخفوت، والموت والحياة، من ناره شيطان، ومن نوره جبريل والحور.
ماذا أقول في تقدير مقام هذا الحكيم العظيم، هو زرادشتي تجلى من نسل هارون وموسى([17]).
وكان لـ"برغسون" أيضاً وجوده، فعلى لسانه نقل إقبال رسالة إلى القراء تحمل واحدة من أفكاره، وهي التوكيد على وجود النفس أو الروح، مأخوذة من قوله: «الجسم هو الأداة التي تستعين بها النفس للترجمة عن أفكارها، والتعبير عن ذكرياتها البحتة»([18]) يقول:
لكي يتجلى لك سر الحياة فلا تفارق لظاها كالشرر.
ولا تصحب سوى عارف ذي نظر، ولا تقطع أرض الوطن كالغريب.
إن ما صورته من رسوم أوهام باطلة، فغذ عقلك من دروس القلب وآدابه.([19])
وقال على لسانه مرة أخرى في تقدير النفس والاعتراف بها:
- هي لم تأخذ في الأول الكأس ولا الخمر، فقد أخذت الشقيقة نارها من حرقة وكي قلبها.
فيرد عليه الفيلسوف الإنكليزي المادي بأن الشقيقة تملأ قدحها من أشعة الشمس قائلاً:
جاءت الشقيقة فارغة الكأس تملأ القدح من شعاع الشمس.
وعليه يرد الفيلسوف الألماني كانط مؤسس المثالية الألمانية، وهو الذي سخر من ولع معاصريه بالتصوف والنزعة الروحية يقول:
-قد أهدتها الطبيعة خمراً صافية اللون مشرقة، فهي تملأ نجم كأسها من محرم الأزل([20]).
وعلى هؤلاء يرد جماعة من الشعراء، منهم الشاعر الإنكليزي الرومانسي "براوننج"([21]) بقوله:
إن خمرة الحياة الصافية الخالصة بلا فائدة، لذا فإني أملأ قدحي من ماء الخضر([22]).
وقال إقبال في "بيرون" وأثر فكره في الغرب:
لو قطرت من كأسه على أرض البستان قطرات لخرجت من الأرض شعلة مثل الشقائق والورود.
فهواء الغرب البارد ليس من طبعه قد احترق من نار رسالته رسول العشق.
أي فاتنة هذه التي خلقها خياله وأبدعها، قد غشى على الشباب من ظهورها وتجليها.
غادر طائر المعاني عشه القوافي والشعر، لأن صانعي الشباك أولى بالوقوع في حلقاتها.([23])
كما كان للشاعر المجري "بتوفي" مكانته عند إقبال مثلما كانت له مكانته في تاريخ وطنه وتاريخ الإنسانية، فهو الشاب الذي مات في ساحة الوغى، وهو يحمي وطنه في حرب التحرير 1848/1894م، ولم يعثر له على جثمان لتكون له ذكرى ترابية، وشاء الله أن تكون ذكراه في السماء مثلما كان طموحه وإرادته وكفاحه، يقول إقبال:
غنيت كعروس الرياض حيناً، زدت قلباً هماً وحزناً، وأسليت قلباً.
وخضبت وجه الشقائق من دمائك المسفوحة، وفتحت بآهاتك وأنغامك الصاخبة قلوب البراعم.
ذبت في ألحانك، فكلماتك هي لحدك، لم تعد إلى التراب ثانية لأنك لم تكن من تراب.([24])
وربما عددنا هذه القطعة مشاركة منه -كما عرف عنه- للشعوب المظلومة أنى كانت، وثورة على الاستعمار والظالمين لاقترافهم أبشع الجرائم([25]).
ومن نظم الغرب التي صب عليها إقبال جام غضبه كذبة النظام الرأسمالي الذي سرت أيام إقبال موجة عارمة بين المؤيدين له والناقمين عليه، فكانت له وقفات مع رواده، وهم يعرضون حججهم الواهية التي نقتطف منها ما دار بين "أوغست كانط" وأجير، صور فيها كانط بمنطق الحكيم الباحث عن حكم لإقناع الأجير بأن خدمته أمر طبيعي، إذ الناس بعضهم لبعض خدم وإن لم يشعروا، فهو يقسم الناس إلى أصحاب فكر ومال، وأصحاب جهد وعرق، أسياد آمرون وعمال أجراء، وليؤكد صحة رأيه جاء بشاهد واهٍ من التاريخ وهو أن للسلطان محمود أعماله، وللعبد إياز أعماله الخاصة به، ناسياً أن محموداً خدم عبده إياز، وجاء بمثال من الطبيعة وهو أن الروض يحتوي إلى جانب الورد شوكاً ولا يكمل الروض إلا بهما([26])، ولكن رد الأجير كان قوياً، مقنعاً وثائراً، كشف فيه إقبال كثيراً من الحيل وقدم فيه حججاً دامغة لفلاسفة الغرب الذين أعطوا الحقوق لغير أهلها، وعيرهم بعلمهم المزعوم، يقول:
أتسحرني بحكمتك أيها الفيلسوف أننا لا نستطيع أن نكسر هذا السحر القديم؟
أتطلي النحاس الخام بالذهب وتصنع مني مأموراً مستسلماً؟
وشق فأسي أنهارا متدفقة من الصخور الصلدة القاسية.
أتعطي يا صاحب الحكم النيرات حق فرهاد لبرويز المنافق الذي لم يكن يعمل في حقيقة الأمر شيئاً؟
لا تظهر الخطأ بسحرك كالصواب، فالخضر لم يخدع بشباك السراب.
إن الرأسمالي عبء على ظهر الأرض، ذلك الذي لا يعرف إلا المضي والأكل والشرب.
إنما تسعد الدنيا وتفرح بفضل يد ذلك العامل الأجير، ألا تعلم أن هذا الثري ليس إلا لصاً محتالاً.
أفتأتي بأعذار ومبررات على اثر جرمه؟ أولم ينهك هذا العقل والعلم عن الغش والتزوير والخداع!؟([27]).
وهي الأساليب الواهية نفسها التي حاول قيصر وِلْهَمْ أن يقنع بها لينين في حوار دار بينهما، يقول:
- ما ذنب المعشوق ذو التيه والدلال؟. إن كان البرهمي قد طبع على الطواف به.
فهو يظل ينحت الآلهة من حين لحين، لأنه ضاق بالآلهة القديمة ذرعاً.
لا تتحدث عن جور قطاع الطرق، لأن المسافرين، أنفسهم يسلبونهم متاعهم الخاص([28]).
ومثلها ما جاء في كتاب القسمة بين الرسمالي والأجير، كشف فيها الأجير عن القسمة الضيزى التي توجب الثورة على أصحاب الأملاك، فمن جهود العامل وأجره الزهيد يلبس السادة أثواب الحرير، ومن قطرات عرقه يلبس الأمراء خواتم قبابها من حبيبات ذالك العرق، ومن دموع الأطفال العمال تزين سروج الأمراء، سمنت الكنيسة التي أعانت على ذلك الظلم من دماء الأجراء، فكانت كالعلق مصاص الدماء وازدانت الخرائب والأطلال وتحولت إلى بساتين من ري دموعه واحمرت الشقائق من دم قلبه.
ولكن العصر عصر ميلاد قوانين جديدة تقضي على النظم القديمة([29]) يقول:
-لنضع نظاما وقانونا جديدا للنصارى ولدير النصارى، ولنحطم البنايات القديمة والحانات القديمة([30]).
وهكذا تنتهي محاكمة إقبال للنظام الرأسمالي بدعوة إلى القضاء عليه مثلما انتهت محاكمته للغرب بدعوة إلى دفن قوانينه القديمة ووضع قوانين جديدة.
وفي إحدى قصائده صور البعوضة في حيرة وشكوى من الإقطاعيين الحريصين على النهب، بعوضة مصت قطرة دم واحدة بعد سهر ليلة كاملة، تشتكي من الإنسان الذي يمص دم الإنسان من غير سهر أو تعب، يقول:
حنين البعوضة أضحى أنيناً |
حزين الصدى يستثير العبر |
وليس سوى قطرة من دم |
ظفرت بها بعد طول السهر |
وهذا الحريص الذي لم يكافح |
قد امتص ظلماً دماء البشر([31]) |
ولم تكن تلك المحاكمة الأخيرة، حيث نجد له كلمة في النظام الجمهوري، هي محاكمة وانتقاد صبها في قالب السخرية من العقول التي أبدعت ذلك النظام، وذلك القناع للمزيد من الاستغلال ولتغطية جرائم الغرب، فالمعاني سامية والشعارات لامعة، والهمم ساقطة حتى شبهها بالنمل الشديد الحيوية، والذي لا يستطيع أن يسمو إلى طبع سليمان عليه السلام، ولذلك دعا إلى الاحتراز منها، ومن النظام الذي وضعته لأن عقل مئتين من أفرادها لا يأتي بفكر إنسان واحد، يقول:
- أتطلب المعاني العالية من ساقطي الهمم، إن الطبع السليماني لا يأتي للنمل الشديد
الحيوية.
اتبع حكيما ناضجا مجربا ودع طرز الجمهوريين، فإن مخ مائتي حمار منهم لا يأتي بفكر إنسان([32]).
فهو يرى أن زعماء السياسة الغربية رسلا للشيطان في الأرض، سئل مرة، «لماذا بعث الأنبياء في آسيا دون أوربا؟»، فأجاب بروحه المرحة الواعية: «لأن العالم مقسم بين الله والشيطان، ولما كانت آسيا من نصيب الله كانت أوربا من نصيب الشيطان» فقيل له: «قد عرفنا رسل الله، فأين رسل الشيطان؟" فأجاب: "إنهم زعماء سياسة الخداع والمكر في أروبا.»([33])
والحقيقة أن إقبال لم يكن يؤمن بأي نظام سياسي لا يعترف بالله، وكان يقول: «إذا افتقدت السياسة القيم الأخلاقية فإنها تصبح طقسا من طقوس جنكيز خان.»([34]).
ولعل آخر ما يمكن أن نختتم به محاكمات إقبال للغرب موقفه من "عصبة الأمم"، تلك المنظمة التي يحمل اسمها معان أسمى من حقيقتها، فمن بين أهدافها إرساء دعائم السلام في الأرض، ولكن الواقع هو خير متحدث أخبر بخلاف تلك الشعارات الزائفة، فقد رأى إقبال كيف اتحد مؤسسوها وتعاونوا من أجل القضاء على الضعفاء، كما لاحظ اقتسامهم للبلاد التي نصبوا أنفسهم حماتها، وبذلك اكتشف أن الدعوة إلى السلام عندهم مجرد قناع يختفون خلفه ويخفون حقيقتهم، إنهم نباشو قبور لا قادة أمن وسلام، يقول:
وضع رجال خبراء دهاة قوانين جديدة، وسعوا لإخماد نار الحرب وإزالتها من هذا الوجود.
والذي أعلم قبل هذا أن نباشي القبور، كونوا جماعة لتقسيم القبور([35]).
إن هذه الوقفات لإقبال مع الثقافة الغربية ابتداء من غوته؛ فإلى الفلاسفة والشعراء؛ فإلى الساسة والنظم السياسية والاقتصادية؛ تدل على ثقافة إقبال الواسعة، وعلى وعيه بواقعه وبما يحيط به، وعياً جمع بين عناصر الثقافة الإسلامية وبين ثقافة عصره، فهو لم ينبهر كما انبهر غيره بمدنية الغرب وتقنياته، وإنما نبه المسلمين إلى عيوب الغرب وسقطاته، وإنه وإن شهد له بالمهارة في الصناعات وفي الجوانب المادية فقد كشف ما لتلك المهارات من خواء روحي فظيع، لا تملؤه الحكمة ولا العلم، وإنما يملؤه الجانب الآخر المعنوي غير المعترف به عندهم.
وقد لاحظ ذلك الاختلال بين المشرق والمغرب، فالأول يملك غنى الروح، والثاني يملك غنى العقل، وأولى بكل منهما إكمال نقصه من الطرف الآخر، لأن المشرق لم ينج بدوره من محاكمات إقبال، فقد رأينا كيف وقف على أمراضه وعيوبه، كما رأينا نصائحه وتوجيهاته له وللناس جميعاً والتي أكملها بتبصيرهم بما خفي عنهم من عيوب الغرب، لكنها كانت محاكمة ألطف من تلك الموجهة للغرب، إذ كان الانتقاد بقدر الخطايا، وقد غطت خطايا الغرب وظلمه الأخضر واليابس.
إلا أن إقبالاً مع لحظاته الغاضبة - وما أكثرها في الديوان! - ومع انتقاداته وتوجيهاته ونصائحه التي رافقتنا من أول الديوان إلى آخره، تجنب الذوبان في الوعظ المباشر والسقوط في التوجيه الجاف، ساعده على ذلك أسلوب الحوار الذي كثيراً ما اختاره في عرض القضية ونقيضها، كما ساعده على إقناع القارئ منطقياً وفنياً بقضايا قد لا تجد من يقتنع بها من أبناء الغرب إلا القليل من الدارسين المتخصصين الذين وقفوا على فكره وتعمقوا فيه.
وبمقارنة بسيطة بين صيت شعر إقبال في أوساط قراء إنجلترا وشعر معاصره "طاغور" يتجلى أن شعره لم يحقق رواجاً بالمقارنة بما أحرزه شعر طاغور من شعبية عظيمة بعد الحرب العالمية الأولى، وربما كان سبب ذلك أن مالت أشعار طاغور إلى النزعة الإنسانية الصوفية فلاءمت فترة نهاية الحرب بمزاجها المأساوي، في حين لم تحمل أشعار إقبال أي معنى للمواساة والتعزية([36])، لأنها كانت قوية معالجة صريحة.
وكانت بمثابة الهزة العنيفة التي توقظ الناس من غفلتهم التي كانت بدورها سبباً فيما تعرضوا له من محن أثناء الحرب العالمية، كما كانت أشعاره متفائلة رغم ما حولها من دمار، دافعة إلى الأمام، متبرمة ثائرة، وإنه اشتكى كثيراً من أولئك الذين يقترحون عليه أن يؤرخ بشعره للأموات، وينشد تاريخ الوفاة، فيخالف رسالة الشعر التي هي الدعوة إلى الحياة، يقول: «لقد أمرتني يا رسول الله أن أبلغ إليهم رسالة الحياة والخلود، وأنشدهم بما ينفخ فيهم النشاط، ولكن هؤلاء القساة يقترحون علي أن أنوح الأموات في الشعر، وأنظم تاريخ الوفاة فأين هذا مما أمرتني به»([37]).
هذا وقد كان ديوان "رسالة المشرق" خير مثال على إقبال وتمرده الشامل، ثورة على أمراض المشرق، وأخرى على علل وعيوب الغرب، كما كان انتقاده الصريح دليلاً على ما يحمله في ثناياه من رغبته الصريحة والملحة في الإصلاح والنهوض بالبشرية، وهو الانتقاد الذي أعجب به الباحث "بانڤيتز" كما أعجب بإقبال وفكره على العموم، فقال: «لقد وجدت من جديد ما عبرت عنه من أن الاتفاق بيني وبين إقبال كبير، وخاصة هذا التحقيق الكامل الشامل للأنا... ونقده هو يتفق إلى درجة عالية مع نقدنا.»([38])
وهذا ما كان سبباً في ثراء ديوانه وغناه بصور من الشعر والفلسفة، للشرق أن يفخر بها على الغرب، وله أن يستفيد من عطائها، فقد نظر إلى انبهار المسلمين بما ذهب إليه الغرب، وما أبدعته عقول فلاسفته المجردة في كثير من الأحيان من نصفها الثاني، عطاء القلب والروح ووحيها، ولأجل ذلك جعل من الديوان تبصرة لمن لم يخترق حجب الزيف الغربي ببصيرته، فلم يكن حديثه في الديوان حديث المعجب الذاهل كما كان غوته، وإنما كان حديث الناقد المحلل المحاكم للكثير من القيم التي تمكنت من إنسان عصره وأغرته ببريقها ولا سيما أبناء المشرق.
وهذا ما جعل إقبالاً يرتقي بنفسه فلا يبقى وسيطاً فحسب، وإنما كان إلى جانب ذلك: «محاوراً فلسفياً نداً بين ثقافة الشرق والغرب»([39])، ومحاوراً اجتماعياً وسياسياً وفنياً بين الحضارتين.
----------
[1])) رسالة المشرق، ص357.
([8]) مجلة باكستان المصورة، عدد19، مجلد 12،ص11، الحوار بين الشرق والغرب في فلسفة محمد إقبال، محمد عبد القادر قلعة جي.
[16] ) ) Petit Larrousse, 1985.
[20])) رسالة المشرق، ص 381.
[22])) رسالة المشرق، ص 382.
[23])) رسالة المشرق، ص 370.
[24])) رسالة المشرق، ص 373.
[25])) إقبال، والآن ماذا نصنع يا أمم الشرق، ترجمة محمد أحمد غازي والصاوي شعلان، ص 140. المعروف أن المجر كانت تحت الحكم العثماني بين التاريخين المذكورين. (رابطة الأدب الإسلامي)
[26])) رسالة المشرق، ص 374.