العدد 126
في رحلة الحياة الدنيا الممتعة، وفي مساربها المختلفة، وفي تنوع المشاهد بين الطاقات والقدرات والملكات والمواهب بين الناس؛ يَتخّيرون في زحام رحلتهم من يحبون، ومن يكرهون، ومن يقلدون، ومن يتجنبون، ومن يقاتلون، ومن يسالمون، ومن يقرؤون ومن يجدون فيه ولديه ما يكملهم ويجمّلهم.
ولعل التفاف أصحاب الصنعة والصناعة والحِرف والمهن وظهور النقابات، ومن يهتمون بها ويرفعون أصواتهم وأفعالهم عالية من أؤلئك، وأرباب الثقافية وأصحاب الأقلام والأفلام كذلك في الروابط التي يلتقون عليها، ويغرسون من ورائها الجودة والتجويد والإتقان في العمل وفي المنتج المراد إنتاجه.
لطالما رأيت وسمعت وأحسست بذلك التناص والاقتباس لدى كثير من الأدباء من بعضهم، وقد يدّعي بعضهم التفرد والتجديد في شعره ونثره، وله حقيقة نُسلّم.. حتى يظهر لنا في شعره أو نثره ما يخالف تلك البطولات والادعاءات.
لكن أن يظهر شاعر جميل كالشاعر الأستاذ الدكتور عبدالقدوس أبو صالح -رحمه الله تعالى- يقول: نعم، كنت أقول وأنظم الشعر في موضوعات الفكر والدعوة، وفي الغزل، وقرأت قصيدة شعرية جميلة ورائعة ومؤثرة للشاعر العربي الكبير عمر بهاء الدين الأميري عنوانها: (أطلق عنانك يا زمان).. وهو على السرير الأبيض في مشفى ابن سينا في مدينة الرباط في المملكة المغربية، وقد تأثرت بها وعارضتها، ونظمت قصيدة شعرية جميلة أسميتها: (النسر والوطن المباح).
إننا كمتابعين وقارئين ومتلقين ومهتمين بالأدب شعراً ونثراً نُكبر في الشاعر الجميل الأستاذ الدكتور عبدالقدوس أبو صالح هذه النفس الحرة، والخلق النبيل، وهذه الشاهدة بالأثر الذي كان يتركه شعر الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري في نفوس الناس.
والقراءة المتأنية والنقدية الجمالية لقصيدة الشاعر الجميل عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله تعالى (أطلق عنانك يا زمان)، والتي يقول فيها:
أطلق عنانك يا زمان فقد كفى كبح الجماح
هذا الذي يتجاوز الأفلاك يلتمس المراح
هو في الجناح جناح طب القلب مقصوص الجناح
وهنا نجد أن الأستاذ الدكتور عبدالقدوس أبو صالح يتناول هذه المقدمة الجميلة، والاستهلال البديع، فيقول في قصيدته (النسر والوطن المباح):
لَهَفي على النَّسْر المُضَمّدِ بالَّلهيبِ وبالجراحْ
تَرْنُو إلى قِمَمِ الجبالِ وأنتَ مَقْصوصُ الجناحْ
ويَلُفُّكَ اللَّيْلُ البَهيمُ تَظُنُّهُ أَلْقَ الصَّباحْ
ففيه تصوير جميل لحالة الشاعر النفسية والعقلية المزاجية والجسدية، وهو يشبه ذلك النسر الحر القوي، لكن رغم الهدف السامي ألق الصباح الجميل الذي يطمح في تحقيقه؛ إلا أنه مقصوص الجناح، ومضمد الجراح، وحوله الليل الأسود العظيم..
ويكمل الشاعر الجميل عمر بهاء الدين الأميري قصيدته (أطلق عنانك يا زمان)، وهو يصف ويشخص حالته الصحية والنفسية، فيقول:
قالوا: عليل، فابتسمت ورحت أمعن في المزاح
والعزم فوق ذرى النجوم تروده همم صحاح
والهمُّ، يا للهمِّ في قلبي له وخز الرماح!
قالوا: عليل.. قلت: بل والله تثخنني جراح!
نعم؛ إنه مثخن بالجراحات المؤلمة العظيمة رغم تضافر الهموم والغموم والآلام والأحزان والمصائب والمرض الذي أدخل على إثره مشفى ابن سينا في مدينة الرباط.
ويواصل الشاعر الجميل عبد القدوس أبو صالح في قصيدته (النسر والوطن المباح) وصفه لحالة الأميري، وربما حالة الأميري النفسية والجسدية هي الحالة النفسية للشاعر أبو صالح:
ويهزُّكَ الشَّوقُ المُبَرِّحُ في الغُدُوِّ وفي الرَّواحْ
والقلبُ نَهْبٌ لِلْهمُومِ يَؤُودُهُ وطنٌ مُباحْ
عَصفَتْ به منْ نازلاتِ الدهر أَلْسِنَةُ الرِّماحْ
ما أنتَ أَوَّلُ فارسٍ غدرَتْ به في الحرب ساحْ
لا.. لن تَمُوتَ على السُّفوح فكُلُّنا ريشُ الجناحْ
لو يُسْتعَارُ القلب كانَ لك الفِداءَ.. ولا جُناحْ
إنه يصل إلى غاية التعبير في محبة الشاعر الجميل الأميري، فيقول له:
لا.. لن تَمُوتَ على السُّفوح فكُلُّنا ريشُ الجناحْ
لو يُسْتعَارُ القلب كانَ لك الفِداءَ.. ولا جُناحْ
ويستعرض شاعرنا الجميل المبدع عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله تعالى رحمة واسعة فيقول:
أنا في الجهاد أخوض للايمان معترك الكفاح
أنا في فلسطين الطهور رمح الفداء بكل ساح
أنا في صراع الدهر أطلبُ للعلا ما لا يتاح
أنا للصغير وللكبير إرادة الخير الصراح
أنا في الرباط مرابط، ورؤاي تغرب في النواح
أنا في الرياض وفي دمشق وليس عن حلبي براح
أنا في امتدادات الأذان كأن في نسبي «رباح»
وهو حقيقة بمشاعره وأحاسيسه مازال في شعره وأدبه وسيرته محط أنظار الأدباء والمفكرين العقلاء، فهو كما قال:
أنا في الرياض وفي دمشق وليس عن حلبي براح
أنا في امتدادات الأذان كأن في نسبي «رباح»
بينما يكلل شاعرنا الجميل الأستاذ الدكتور عبدالقدوس أبو صالح مسيرة الجهاد والعمل الذي قام به الأميري، فيقول فيه وله:
أأبو فراسٍ أنت في الشَّهْباءِ مكبوحَ الجِماحْ؟!
زَيْنُ الشَّباب ومُلْهَمُ الشِّعْرِ المُردَّدِ في البِطاحْ
وَثَباتُهُ في المجدِ تَزْهو في أَمانيكَ الطِّماحْ
هو في بلادِ الرُّوم مَنْفِيٌّ وأنت بِكُلِّ ساحْ
وهو هنا يشبِّهه ويذكِّره كذلك بالأمير الشاعر الجميل أبي فراس الحمداني صاحب العزمات والجهاد ضد الروم في جيوش سيف الدولة الحمداني.. كيف كان في رونق شبابه وجماله وهو يدافع عن المبادئ والقيم والعدل والإسلام؟ وكيف قدم نفسه للأسر وهو أمير كبير وعظيم في سبيل الدين والمبادئ والأخلاق الفاضلة والعقيدة الإسلامية العظيمة؟
فبالرغم من إهمال طلبه وفدائه والسعي في حريته، فأنت حر طليق كالنسر الحر، وسوف تعرف الأجيال ما قدمت وتقدم، وما بذلت وتبذل، فلا عليك من هذه الصور والأشكال السلبية البائسة:
ما جَدَّ جِدُّ القوم حتى يَذْكُرُوا البَدْرَ الوَضاحْ
الهازلونَ السّادرونَ يَقودُهُمْ عَبَثٌ وَقاحْ
سَكِروا بكأس الذُّلِّ مُتْرَعَةً كأنَّ الذُلَّ راحْ
إن رُفِّهُوا هَتَفُوا وإن جاعوا سمعتَ لَهُمْ نُواحْ
لا يسألونَ عن البلادِ أَهُوِّدَتْ باسْمِ الكِفاحْ
تركُوا الأمورَ لأهلها وكأنَّ قائدَهُمْ "صَلاحْ"
كُفَّ النداءَ فلن يَهُزَّ القوْمَ "حَيَّ على الفلاحْ"
فسوف تكون الخسارة كبيرة إن لم يهتموا بالنشْء، ويقدموا له التربية والتعليم، والاهتمام والتركيز، والرعاية والعناية، والتضحية من أجل تحريره وتنشئته التنشئة الإسلامية العظيمة الصحيحة على الأذان والصلاة، والصوم والصبر، والتحمل والتضحية، ومحبة الرسول الأعظم والنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، ومحبة أصحابه رضوان عليهم أجمعين.