بين الذاتية والإنسانية في شعر محمد إقبال (2/1)
كتب  د.سعاد عبد الله الناصر ▪ بتاريخ 28/06/2022 12:29 ▪ تعليقات (1) ▪ طباعة  أرسل لصديق  أرسل لصديق 

 

 

(مؤتمر شاعر الإسلام محمد إقبال، في رحاب إيوان إقبال بمدينة لاهور، في الباكستان، بالتعاون بين المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية في باكستان، والجامعة الأشرفية، وحكومة البنجاب المحلية، في المدة من 29-30 تشرين الأول (أكتوبر) 2016م). 

 

 

 تحديد المفاهيم: 

       إن أعمق الإشكالات التي تواجه الإنسان هي معرفة ذاته. وهي إشكالية نابعة من التركيبة المعقدة للنفس الإنسانية، المتأرجحة بين العقل والوجدان، والخاضعة لظروف وعوامل حياتية مختلفة، تبعد الإنسان عن الغوص في ذاته لمعرفتها، ومواجهة أحوالها، ويغفل عن إدراك أعماقها. وهو أمر تنبه إليه عدد من المفكرين والمصلحين والمبدعين في العصر الحديث، وأشاروا إلى ضرورة معرفة الذات من أجل بنائها، والتأكيد على هويتها وكرامتها، وإعادة تربيتها لإكسابها سلوكيات إيجابية. ذلك أن جهل الإنسان بذاته وعدم معرفتها ومعرفة قدراتها، يجعله يقيم ذاته تقويما خاطئا، ولا يستطيع تقديرها وتوجيهها. فإما أن يعطيها أكثر مما تستحق فيثقل كاهلها، وإما أن يزدري ذاته ويقلل من قيمتها فيسقط نفسه، أو قد يتجه إلى محاولة معرفتها وتقديرها من خلال عوامل خارجية، كارتباطها بنوع العمل أو بالمادة، وحين ينتفي ذلك الارتباط ينتهي التقدير.

       وتشير لفظة الذات في القواميس اللغوية إلى اقترانها بكلمات أخرى تحدد وجودَها المعجمي، "فحين نقول: ذاتُ الشيء نفسُه وعينُه، يكون الشيء محمولا على التماثل والتطابق والتضايف ليقوم مبدأ الهوية في تمييز الأشياء عن بعضها، وهو ما جعل استعمال كلماتِ ذات ونفس وعين يقوم على نواة دلالية واحدة هي الجوهر"([1]).

 وقد خاض عدد من الفلاسفة والمفكرين والمتكلمين والمتصوفين في مفهومها الاصطلاحي، وأخذت دلالات تختلف حسب هوية المتكلم ومقاصده، لكنها تلتقي في اعتبارها مدخلا لبناء المعرفة. فمن أشهر عبارات سقراط مثلا: "اعرف نفسك بنفسك". وهذا ابن عربي يذهب إلى اعتبار الإنسان "يعلم جميع الأشياء مِن علمه بذاته"([2])، فبناء المعرفة يبدأ من التوصل إلى استجلاء هوية الإنسان، والكشف عن طبيعة الجوهر الكامن فيه بوصفه طاقة على الفعل والإبداع بمقتضى الوعي والإرادة الحرة([3]).

ويدل مصطلح الإنسانية بصفة عامة، على العلاقة الرحبة التي تربط الإنسان بأخيه الإنسان، القائمة على العدل والمساواة والتآلف. فالإنسانية بهذا المفهوم نقيض الأنانية والتعصّب للذات الفرديّة، لأنها عنوان الانتماء للإنسان، أينما كان وكيفما كان. ولا يمكن بناء علاقة إنسانية إلا على أساس رؤية تقوم على الأسس الأخلاقية للتعامل الإيجابي بين الناس، وعلى وعي الإنسان لذاته الفردية، ولذات الآخر المتفق أو المختلف معه، من دون أي تمييز ديني أو عرقي أو جنسي أو قومي. وتعد قيم التحرر والتسامح والمساواة من أبرز القيم التي تعلن قدرة الإنسان على معرفة ذاته، وإثبات هويتها وتحقيق كرامتها.

معرفة الذات وعناصر قوتها: 

       ومحمد إقبال من الشخصيات النادرة التي تركت بصمات فكرية وإبداعية في العصر الحديث شرقاً وغرباً، بما امتلكه من تجربة قوية تخاطب الوجدان، وتتسلل نحو العقل. ومنذ القراءة الأولى لما تركه من شعر يكشف القارئ حضور ذاته الفردية والحضارية، المنبئة عن الأحداث الفكرية والتحولات الشعورية التي صاحبت الشاعر في كل حياته، ووعيه بها وبقيمتها الإنسانية، بل إن فكرة الإصلاح والتجديد في فكره وفلسفته كانت تقوم على إعادة النظر إلى الذات وتغيير مفهوم عالمها، وإعادة بنائها انطلاقاً من تعاليم الإسلام وقيمه، ومن وضعية المسلم وظروفه الراهنة. فكان يرى بأن إعادة بناء الإنسان يقوم أساساً وابتداء على تغيير ما بداخل الذات، وهو أمر يقرره القرآن في الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.([4])

       فالتغيير عند “محمد إقبال” يبدأ من داخل النفس الإنسانية، لأن الإيمان ليس مجرد شعور، فهو يماثل رضا النفس وقبولها واطمئنانها عن دراية وعلم وإدراك. الأمر الذي جعله يسعى إلى التأكيد والتنبيه "إلى أن سائر ما نراه حولنا من المشكلات إنما هو فروع لمشكلة جذرية واحدة، هي ضياعنا عن الذات، وذاتنا الحقيقية لا يمكن العثور عليها في شرق ولا غرب، وإنما يمكن أن نعثر عليها بين جوانحنا، يمكن أن نعثر عليها من خلال إدراك هويتنا"([5]). وقد ركز في ديوانه "الأسرار والرموز، أسرار إثبات الذات ورموز نفي الذات"([6]) على الذات التي هي منبع القوة في الحياة فقال([7]):

قوة الذات من الكون النواهْ         فعلى قدر القُوى قدر الحياهْ 

وصدّر الديوان بتساؤل اعتبر فيه أن في جوابه تكمن سيرة الأفراد والجماعات وقدراتهم فقال([8]): "ما هذا الشيء الذي نسميه (أنا) أو (خودي) أو (مين) الذي يبدو في أعماله ويخفى في حقيقته، والذي يخلق كل المشاهدات، ولكن لطافته لا تحتمل المشاهدة؟ أهو حقيقة دائمة أم أن الحياة تجلّت في هذا الخيال الخادع، وهذا الكذب النافع تجلياً عرضياً لتحقيق مقاصدها العملية الراهنة؟ إن سيرة الأفراد والجماعات موقوفة على جواب هذا السؤال".

فمعرفة الذات والوصول إلى كنهها، وتقوية إرادتها وتربيتها من أجل التحرر من كل ما يقيدها، هي جوهر فلسفة إقبال ولبّ رؤيته، ليس في هذا الديوان وحسب، وإنما كتبه كلّها تدور حول الذّات، من خلال الدعوة إلى البقاء لا الفناء، أو إثبات الذات كما يحب أن يسمّيها. والقصد من إثبات الذّات عنده هو تفعيلُ الإنسان نفسَه وتمكينُه لمواهبِه وقدراتِه حتى يستطيع إضافة شيء لهذا الكون لكي يصبح عالماً أفضل لحياة الإنسان.. فلذة الحياة وسعادتها مرتبطة عنده باستقلال الذات وإثباتها وإحكامها وتوسيعها.

والذات تتميز بالوحدة والفردية، والدين هو السبيل الوحيد إلى معرفتها واكتشاف عالمها، لذا كان الهدف الديني والأخلاقي الأول عند الإنسان إثبات ذاته وتحقيقها، ولا يكون ذلك سوى بالتخلق بما أمر الله عز وجلّ؛ من الأخلاق التي سبيلها التربية، وأن درجات اكتمال الإنسان بمدى قربه منه سبحانه، فعلى قدر تحقيق انفراده أو وحدته يقترب من الهدف([9]):

فاحمل الفرض قويا لا تهابْ        وارجوَنْ من عنده حسن المآبْ 

اجهدَنْ في طاعة يا ذا الخسارْ            فمن الجبر سيبدو الاختيارْ

بامتثال الأمر يعلو مَن رسبْ              وهوى الطاغي ولو كان اللهبْ

       وتميز الذات بالفردية والوحدة والاستقلالية يصدر عنه انبعاث التجديد والإبداع المؤديين إلى الخلود. وخلود الذات مطلب وأمل لكل إنسان، ومن أراد أن يظفر به فعليه أن يقبل على العمل، لأن الحياة رقيّ مستمر، تسخر كل الصعاب التي تعترض طريقها، فعلى الذات أن تقبل على العمل الجاد المثمر، وتترك البطالة وإنجاز الحدّ الأدنى فحسب من متطلبات الحياة اليومية للعيش. لذلك يجد أن أمم الغرب تمتاز عن أمم الشرق بإقبالها على العمل([10])، وذاك حقيقة تقدمها.

وركز إقبال على المراحل التي ينبغي أن تمر بها النفس الإنسانية لبلوغ الكمال، استوحاها من "أصول فلسفة الأخلاق الإسلامية وهي: إطاعة القانون الإلهي وضبط النفس والنيابة الإلهية. والنيابة الإلهية في هذه الدنيا هي أعلى درجات الرقي الإنساني، ونائب الحق "الله" خليفة الله في الأرض، وهو أكمل ذات تطمح إليها الإنسانية، وهو معراج الحياة الروحي. وأول شرط لظهور نائب الحق أن ترقى الإنسانية في جانبيها الروحي والجسمي، فإن ارتقاء الإنسانية يقتضي أمة مثالية، يتجلى في أفرادها هذا التوحد الذاتي، وتصلح لأن يظهر فيها نائب الحق"([11]).

ولكل مرحلة خصائصها المتميزة، فطاعة الله والانقياد لأوامره تملأ الذات سعادة ونوراً، وترتقي بالروح إلى مقامات المحبة والسلام، وضبط النفس وثيق الصلة بطاعة الله، "فالنفس لها نوازع وأغراض، وتحتدم فيها مشاعر ومطالب، وتعتمل فيها شهوات ورغبات، فلو أطلق لها العنان فسارت بلا كابح يكبحها، أو منظم ينظمها وينسقها كانت النتيجة الحتمية شرّا وبلاء([12])، لهذا كان لا بد من وضع ضوابط، لا تكبت الغرائز، وإنما تهذبها وتوجهها الوجهة السليمة من أجل التوازن فيها([13]):

فكن الحر وقدها بزمام             تبلغَنْ من ضبطها أعلى مقام

 أما نيابة الله في الأرض فتعني القوة التنفيذية التي تتولى إجراء حدود الله وشريعته، وتتحلى بالعدل والرحمة وبعد النظر والإيمان العميق، وتتجلى في الذات الكاملة القوية. يقول عن ذلك([14]):

نائب الحق على الأرض سعيد      حكمه في الأرض حكم لا يبيد

هو بالجزء وبالكل خبير             وبأمر الله في الأرض أمير

هو في الناس بشير ونذير         وهو جندي وراع وأمير

       ويدرك محمد إقبال أن موضوع المعرفة الذاتية بإشكالاته وتعقيداته، ليس أمراً هيناً وسهلاً، وإنما يتطلب شفافية وصفاء، كما يحتاج إلى قوة دافعة لكل السلبيات المرتكنة في الذات. وأصل هذه السلبيات عنده هو الخوف، يقول: "مهما كان الشر المختبئ في قلبك يمكنك أن تكونَ على يقينٍ أنّ مصدره هو الخوف". فالخوف مصدر كلّ قبح يشوب جمال الإنسان الأصيل: "من الخوف يتولّد التملّق، ويظهرُ المكر والخداع والحقد والضغينة والكذب، ثوبُه يُخفي بين تلابيبه الزّور، وفي حضنه يكمُن الرّياء، وهو يُثير الفتن فيما بيننا، حَرَمَ الخوفُ كلّ صاحب همّة من أن يحكُم نفسه ويقوَى، فقد رضي بالذلّ وصار حليفاً للضعيف".

ويؤكد أن بذرة الخوف إذا استحكمت في الذات تراجعت الحياة عن التجلي والعطاء. والخوف الذي يقصده هو الخوف من الآخر مهما كان مصدره وطبيعته، وهو يمثل عنده الشرك الخفي. أما الخوف من الله، فهو دليل الإيمان الواضح. والعودة إلى الذات ضرورية من أجل طرد الخوف، "لأنها مصدر الحركة والعمل، ومصدر النور والحياة، ومصدر الإنسانية ومدار الخلود([15]). ولا يجد إقبال دواء للخوف سوى قيم التحرر والحب، واتخاذها منهج إيمان يتلاشى به كل شيء سلبي.

1ـ التحرر:

الإنسان عند إقبال حر بفطرته، لا ينبغي أن يقيده قيد سوى التزامه بشريعة الله عز وجل([16]):

فطرة الحر لا تطيق مقامـا          فائلف السير دائماً كالنسيم

ألف عين تشقّ صخرك فاضرب     بعد غوص في الذات ضرب الكليم

فالحر لا يثبت سوى على شريعته وقيمه، وإلا فهو دائماً في تجدد، وانطلاق نحو آفاق التحرر يشق الأرض ويعمرها مثلما ضرب كليم الله موسى الصخر فانفجرت عيوناً طيبة تسقي الأرض والناس. ومن شروط الحرية عدم ربط القلب بأي شيء مادي([17]):

بهذا المرج ما علَّقْتُ قلبي          مضيت ولم تعوقني القيود

كريح الصبح طفت به قليلاً         مضيت وتضرب مني الورود

يقول مستصرخا كل مستسلم خائر([18]):

فاز حر جعل الحق مصيرهْ          لم يبع يوما لمخلوق ضميرهْ

مَن وفى لله روحاً ودمَا             صان عن قيد سواه القدمَا

يقول في قصيدة جميلة تتغنى أبياتها بالقيم النبيلة، وفي كل بيت منها دلالات تسري في وجدان المتلقي بلطيف الرمز والإشارة([19]):

ومَنِ الحر الذي قد حطما           من قيود الأسر هذا الأدهما!؟

ومَنِ الآبي على كل القيودْ          ومن القاطع أغلال العبيدْ!؟

ومَنِ الباعث في ميت الأممْ         ثورة العزة من هذي الهممْ!؟

إلى أن يقول:

همم الأحرار تحيي الرِّممَا           نفخة الأبرار تحيي الأممَا

والقصيدة من الطوال، بناها بناءً تقليدياً بمقدمة غزلية بديعة، تتجلى فيها صدق العاطفة ورقتها، ثم دخل في موضوعه الأساس وهو توصيف المسلم الحر القوي.

ومن دلالات الحرية في شعر إقبال شجبه لكل أشكال العبودية، يقول([20]):

إن في الناس قلوباً جامدةْ          جذوة الإقدام فيها خامدةْ

همها ما يبتغيه الجسدُ             كل ما تهوى طعام وددُ

لا تبالي حين تبغي أَربَا             عُمِر الكون به أم خُرِّبَا

ويرى أن جماع الحكمة كلِّها في أن يعيش الإنسان حراً يقول([21]):

يا أنت ثروة الحكيم طرّا             في أن يعيش ويموت حرّا

ولا تعني الحرية عنده الفوضى والتسيب، وإنما تدبر العالم([22]):

بحرية الأفكار هُلك جماعة          إذا لم يكن فيها تدبر عالم

فحرية الأفكار في رأس جاهل       طريق لرد الناس مثل البهائم

والحرية شرط الإبداع وهو ما يسميه إقبال الإلهام، فللحر رؤيته الخاصة التي تحفزه على القول والفعل([23]):

إن للحر ملهماً نظرات              تحفز القولَ والفعلَ بنارِ

حر أنفاسه يشيع بروض           فترى الروض مزهراً من شرارِ

والتجديد هو جوهر الذات، وعلامة من علامات الحرية، حين يجهر الأديب أو العالم بالحق أو يقف في وجه الاستبداد والتقليد.

 2ـ الحب:

عاطفة الحب أو العشق في فلسفة شعره أقوى من كل شيء، به يرق القلب، وتسمو الروح، وتسعى نحو العزة والكرامة والقوة، يقول إقبال:

هو الحبّ ينسيك وقع الجرا         ح.. وتفضحُ سرّك آثارهُ

وما الحبّ إن لم تمتْ عزة.. وما العيش جلله عارهُ؟!

وقوة الذات بالمحبة والعشق([24]):

نسيم العشق في الجنات جارِي      وينمي العشق أزهار البرارِي

ويخترق البحارَ له شعاعٌ           فيهدي العشق حيتان البحارِ

ويخاطب ذاته الولهى بحب المصطفى الممهد للحب الأعظم([25]):

امض كالرومي شمعاً يشتعل        وارم من تبريز في الروم الشعل

إن في قلبك معشوقا ثوى           أَقْبلَنْ أُنْبِئك عن هذا الجوى

عشقه في القلب نور أسفرا         للثّرياّ يرتقي منه الثرى

فالشاعر يستغور قلبه لينبئ عما يحتويه من عشق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيوظف لذلك عاطفته الجياشة من جهة، ويستدعي مرجعياته في الطريق كجلال الدين الرومي وشمس التبريزي ليقدم صوراً مفعمة بالحياة، مغموسة بعمق الرؤيا وألق التخييل الشاعري.

 ويقول محمد إقبال([26]):

كم يريك العشقُ من صهبائه        فترى التقليد من أسمائــه

أحكم العشق بتقليد الحبيب         لتنال القرب من ربٍّ مجيب

في حراء القلب فاقعد خاليا         وإلى الحق فهاجــر راضيــــــــا

اقْويَنْ بالحقّ ثم ارجع إليك         واحطمنَّ اللات والعزّى لديك

اقْويَنْ بالعشق في سلطانه          وابتغ الجلــوة في فارانه

تظفرن بالقرب يا ذا السائل         وتكن تفسير إني جاعل

إن شعرية هذه الأبيات تقوم على تحقق الذات ونفيها، بما يخرج القصيدة من خطابيتها المباشرة إلى فسحة التلميح والترميز. فتتجلى أشكال مختلفة للعشق، منها التقليد. وإذا كان التقليد مذموماً في كثير من الأحيان، فهو هنا في عرف المحبة محمود ومطلوب، لأنه تقليد الحبيب المصطفى، لغاية كبرى هي القرب من الله عز وجل. ثم تتوالى الصور الداعية إلى الغوص في الذات وإخراج ما فيها من جاهلية، وتقويتها بعنصرين أساسيين من أجل الظفر بالقرب والتحقيق الفعلي لقوله تعالى: [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً](البقرة،30) وهما الحق والعشق. فباقترانهما معاً تنفتح عوالم تجربة شاملة للوجود تغري القارئ لتذوق جمالياتها ولطائفها.

وهذه القوة التي تنبع من الذات وتتجلى مظاهرها في الحياة والكون وتسيطر عليه لا يقف أمامها أي عائق، لأن المحبة فجرت ينابيعها يقول في مطلع قصيدة:

أمرها في الكون طرّاً يحكمُ          حين الذات بعشق تُحكمُ

يدها من قوة الحقّ أثرْ             فإذا ما أومأتْ شُقَّ القمرْ

إن العشق عند شاعرنا إقبال: "وقود يثير الحركة والتدفق والتدافع، ويشعل الحماس ويؤجج العاطفة.. وهو الطاقة التي إذا انطلقت لم تعقها السدود ولا القيود؛ لأن الذات العاشقة فوق الزمان والمكان، وهي القدرة وهي القضاء فاستمع إلى إقبال وهو يتحدث عن معراج الرسول: "إن الذرة الضئيلة الهزيلة إذا سرى في كيانها الشوق لاقت الصقر القوي الجسور، ساخرة منه هازئة بقوته، فيفر من أمامها، ولا عجب في ذلك، فإن الحماس قد قلب أنفاسها الوادعة إلى شرر متقد. وهكذا المسلم الحق إذا اعتصم بالشوق والعشق، وكانت له غايات ومقاصد أصبح كالسهم المنطلق الذي تسمو غايته عن التوافه والصغائر، فهي غاية لا شبيه لها غير الكواكب في علوها. وفي المعراج أسرار هذا العشق، ومغزى قوة الروح العاشقة:

وذرة طار الشوق فيها صاعدة             تغير في عرصات الشمس والقمر

يا رفقة المرج، تلقى الصقر مقدمة        دراجة تملأ الأنفاس من شرر

المسلم السهم والأفلاك غايته              سرائر الروح في المعراج فادكر([27])".

ويعقد إقبال مقارنة بين الجانب العاطفي للذات والجانب العقلي فيرى أن العشق يمثل الجانب الأول بينما يمثل العلم الجانب الثاني. وكما أن إقبال يعطي الصدارة للعشق ويرفعه إلى أسمى مكانة فإنه لا يغمط العلم حقه؛ فقال في ذلك([28]):

قال لي العلم غروراً:         "إنما العشق جنون"

قال لي العشق مجيباً:       "إنما العلم ضنين"

لا تكن سوس كتاب         يا أسيراً للظنون

فمن العشق شهود

ومن العلم حجاب

ومن لهيب العشق ثارت     ثورة في الكائناتْ

وشهود الذات للعشـ         ــق، وللعلم صفاتْ

ومن العشق ثبات           وحياة ومماتْ

علمنا سؤال جلي

عشقنا خافي الجواب

إن الذات التي هي جوهر فكر إقبال ولبّ رؤيته الشعرية تحضر في ثنايا شعره، فتغترف من دلالات الحب والعشق، رغم تشبعها بصنوف من المعرفة والعلم والفكر، كما تعتز بنفسها، وبما قدمته من منافع وأفكار نافعة، يقول في مطلع إحدى قصائده الذاتية، معربا عن ثقته بنفسه وتأثير كلامه([29]):

قطع الصبح على الليل السفرْ      فهمى دمعي على خد الزهرْ

غسل الدمع سبات النرجسِ         وصحا العشب بمسرى نفَسِي

جرب الغارس قولي موقدَا           مصرعاً ألقى وسيفاً حصدَا

إنه حَبّ دموعي زرعَا              نسج الروض وأنّاتي معَا

إنني شمس قريب المولدِ           حُبُكَاً في فلكٍ لم أعهدِ

ومهما علا العلم أو الفكر أو الفلسفة عنده إلا أنه إذا لم يمارس بقلب محب عاشق لا يؤثر، "وقد يتأمل فيلسوف ويعطي كل ما لديه من فكر لكن دون حب لا يضمن السكر والنشوة، ولا تشع نظرته كالشرر الصادر من القلب الذي يكتشف الأشياء ويبدد السحب([30]):

تأمُّلُ فيلسوفٍ كلُّ ما أعطانيَ الفكر، ولولا الحب ما أدركت ما يضَّمَّن السكر.

ونظرتُه هي الشرر المشع بمحفل القلب بلا دنٍّ ولا خمر تدور كؤوسُها جنبي،

وينطلق من ذاته في هذا الأمر فيعلن([31]):

مضى إقبال في دروب الفكر واجتازا        ولما جاء دربَ الحب مال وانحازا

وتحكيم قيمة الحب في الذات من أجل تربيتها والارتقاء بها يشكل بعداً أساساً في شعر محمد إقبال يرتبط بنسيج المطلق من جهة، فتطوي الذات المسافات حيث الصفاء والنقاء في رحاب لذة القرب من الله عز وجل، ومن جهة أخرى يشتبك الحب مع خيوط الواقع ليصير العالم أقل قسوة، ينصاع لرؤيتنا له وعلاقتنا به ومواقفنا منه. الأمر الذي يعني أن إقبال يؤمن بقوة الذات المقترنة بالحب([32]):

قلبك الشمسُ فاقبِسِ النور منه            كل ما ترتجيه نفسُك عندك

كل شيء سواك أنت سراب                شهد الله أنك الحقُّ وحدَك

وقيمتا التحرر والحب يشكلان السّدى في لحمة شعر محمد إقبال، غزل بمعانيهما وشساعة دلالاتهما صوره الفنية، فأتت غاية في الجمال والرقة والإبداع، تحدث لدى المتلقي قدراً هائلاً من الإدهاش والتأثر.

 



([1]) شعرية محمد بنيس، الذاتية والكتابة، عز الدين الشنتوف، دار توبقال للنشر، ط1، 2014، ص24.

[2])) مجموعة رسائل ابن عربي، محيي الدين بن عربي، ج1، دار المحجة البيضاء، ط1، بيروت، 2000، ص125.

[3])) انظر: الذات والحضور، بحث في مبادئ الوجود التاريخي، ناصيف نصار، دار الطليعة، 2008.

[4]) ) سورة الرعد، آية11.

[5])) ديوان محمد إقبال، إعداد سيد عبد الماجد الغوري، الجزء الأول، دار ابن كثير(دمشق/بيروت)، ط3، 2007 ص15-16.

([6]) نقله إلى العربية شعراً عبد الوهاب عزام.

[7])) ديوان محمد إقبال، ص135.

[8])) ديوان الأسرار والرموز، محمد إقبال، ترجمة عبد الوهاب عزام، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013، ص16.

[9])) ديوان الأسرار والرموز، ص41.

[10])) محمد إقبال فيلسوف الذاتية، حسن حنفي، دار المدار الإسلامي، 2009، ص23.

[11])) ديوان محمد إقبال، ص122.

[12])) إقبال الشاعر الثائر، نجيب الكيلاني، مؤسسة الرسالة، ط4، 1988، ص71.

[13])) الأسرار والرموز، ص42.

[14])) ديوان الأسرار والرموز، ص43.


علق برجاء التدقيق اللغوي لما يكتب