العدد 50
يتألف هذا الديوان(1) من خمس وثلاثين قصيدة، ليست متتابعة تاريخيا، لأن الشاعر محمد التهامي كان يتابع في هذا الديوان أحداث مصر ومتغيراتها منذ نضال أحمد عرابي سنة 1882م حتى نهاية حكم الرئيس السادات.
ويمكن تقسيم ديوانه إلى قسمين: القسم الأول: من ص5 – 105، والقسم الثاني من ص106 -186، في القسم الأول يشيد بمصر وشهدائها، ويكثر في هذا القسم حديثه عن مقاومة المستعمر وتجلي بطولات المصريين: يقول في قصيدته "بطولة":
يا مصر قد سهرت عليك أسود |
|
أرواحهم حصن لديك عتيد |
وتكشف مفردات "حصن، وعتيد، وشهود"، ومثلها من المفردات عن توثق اتصال أسلوب التهامي في شعره بالقرآن الكريم، واقتراضه منه وذلك ملمح أسلوبي متميز رؤية وأداة.
وفي قصيدته الثورة يقول:
مدوا يديكم تلمسوا الأحلاما |
|
صدقت فكانت ثورة وسلاما |
ولعلنا نلمح هنا تجلي ملامح التراث الإسلامي وبراعة التهامي في توظيفه وهو يستحضر صورة جبريل، والملائكة، والنبي صلى الله عليه وسلم في قيادة المعارك وتحقيق النصر لها.
وهي أحداث تتابع حسب مناسباتها، ولدى مواجهة الشاعر لها، وانفعاله بها، مثلا خلال الاحتفال بإحدى ذكرياتها ،كقصيدته "وفاء النيل"(4) ، أو متابعة وقوعها، كالعدوان الثلاثي علي مصر، وقد تجلت بطولة بورسعيد التي خصها بثلاث قصائد(5)، ويوم العبور(6) وغيرها.
ويلاحظ أن قصائده في وصف المعارك ضد الأعداء قد تطول مثل "ذكرى العبور" التي تجاوزت الأربعين بيتا، وقصيدة كفر الدوار(7) التي تجاوزت مئة بيت، وفيها قدم للمعركة بوصف بعض ذكرياته، ثم أخذ يتحدث عن عرابي وقيادته للشباب ومواجهته للقصر والاستعمار.
لكن حديث شاعرنا في قصائد أخرى عن الشخصيات قد جاء مرتبا ترتيبا تاريخيا تقريبا فيما بينها، وهو ما يتمثل من ص106 إلى آخر الديوان ص186 وهو القسم الثاني، وقد تحدث فيه عن أحمد عرابي، ومحمد فريد، والبطل أحمد عبد العزيز، والبارودي، وشوقي، وعزيز أباظة، وطه حسين، والعقاد، وصلاح عبد الصبور، وجمال عبد الناصر، ثم أنور السادات، وهي شخصيات متباينة المكانة والمكان.
وتكشف طبيعة موضوعات قصائده عن اتساع أفق الشاعر محمد التهامي، واتصاله الوثيق بالحياة في مختلف مجالاتها وقضاياها المادية والمعنوية، ولا ننسى أنه كان مديرا لتحرير جريدة الجمهورية، ومديرا للإعلام، ومستشارا بالجامعة العربية، ورئيسا بمكتب الجامعة بمدريد، وهي مجالات متعددة تتطلب من صاحبها اتساع الأفق ورصد الأحداث داخليا وخارجيا ومتابعتها.
وهو غالبا ما يلتزم الشكل المحافظ في الإيقاع؛ بحور الخليل والتصريع، وقد كان هذا ديدنه في كل دواوينه، وهو توجه يعتز به الشاعر محمد التهامي، ويكشف عن أصالته، وقد اختلفنا معه في ذلك ،لكنه لم يتزحزح عن موقفه هذا.
وهو من هؤلاء الشعراء المطبوعين الذين استطاعوا أن يوظفوا الشكل المحافظ في التعبير عن كل موضوعات الحياة ومتغيراتها، فينساب شعره رقراقا معبرا، في إيقاع متدفق ثري، يذكرنا بثراء الإيقاع عند كبار شعرائنا في العصر الحديث، وذلك يتجلى في اختياره للكلمات السهلة في الوقت نفسه، وهو يحفظ هذا الشعر، ويستطيع إلقاءه في المناسبات المختلفة تلقائيا دون الرجوع إلي ديوانه، وبطريقة تلفت نظر المتلقين.
وربما يكون هذا سببا من أسباب اختياره عنوان ديوانه "أغنيات" فهي قصائد من السهل جدا أن تغنى، بالإضافة إلي طبيعتها الغنائية الذاتية، كما أن هذا قد يتناسب مع كونها "لعشاق الوطن" إذ يتجلى فيها هذا الجانب الوجداني أيضا كما يوضحه عنوان الديوان.
ويتمتع الشاعر محمد التهامي بموهبة متفردة ومقدرة عظيمة على التدفق الشعري الذي يصدر عن حماسة شديدة للقضية التي يقتنع بها، وهو متمكن من اللغة أيما تمكن، ومن ثم فحبه لمصر، وحق أبنائها في حياة حرة كريمة يجري في دمه، ويتجلى في قصائده مثل: يا مصر، وصيحة في وجه الاستعمار، وبطولة، ووثبة، ... وغيرها.
وهنا نجد توظيفه للغته المتميزة كاشفا عن هذا الولاء والحب لمصر وأبنائها، ففي قصيدته "يا مصر" التي قالها سنة 1951م، بعد إلغاء مصر معاهدة سنة 1936م وإعلان الجهاد يقول:
1) يا مصر قد سمع الورى فتكلمي |
|
فالحق أعلى ما يجيء على فم |
ويمكن تقسيمها إلي ثلاثة أقسام هي:
- الحق والدفاع عنه 1-5
- التضحية من أجل مصر 6-11
- وثبة الأمة من أجل الحق 12-17
في المقطع الأول يكرر نداءه لمصر ثلاث مرات في الأبيات الخمسة الأولى مدخلا لقصيدته، ثم يربط بين ذلك وبين كل الدنيا ليسمعها صوت الحق عاليا كالرعد، وقد أجاب شباب الأمة دعوة مصر إليه للنضال والدفاع عن الحمى، ومن ثم فقد كثرت الجمل الاسمية التي تفيد الثبوت والتأكيد، (الحق أغلى ما يجيء على الفم، إنا نريد الحق صوتا عاليا، إنني بالروح أدفع عن حماك وبالدم)، كما تتآزر الجمل الفعلية التي تفيد التجدد والاستمرار في التمسك بالحق والدفاع عنه (لم يخفت ولم يتكتم، أجاب بين تحفز وتقدم، حبست أنفاسي لتنعمي، أدفع عن حماك)، والعجيب أن يكرر الشاعر حرف الفاء العاطفة التي تفيد الترتيب والتعقيب
( فتكلمي، فالحق، فأجاب... ) لتربط بين كل ما سبق، فيتمثل لنا شباب مصر متحفزا متقدما، لأداء واجبه في الدفاع عن حقه في الحرية والتمسك بوطنه.
وتكرير النفي لتأكيد الدعوة، إلى الحق: (لم يخفت، ولم يتكتم) ثم يقابل الشاعر بين موقف الطغاة الجائر، وموقف أبناء مصر المدافعين عنها بالروح والدم، وهكذا تتجلى حمية الأمة وشبابها في التمسك بالحق والدفاع عنه.
ويدعم ما سبق من تراكيب صور متآزرة مثل: سمع الورى، تكلمي يا مصر، الحق صوت عال كالرعد، كما ارتبط ذلك بتمنيات شباب مصر لها بالسعادة والنعيم الدائمين.
وقد تجسد ذلك خلال إيقاع قوي يوحي بقوة الحق والمدافعين عنه، خلال توظيف حروف المد: (سمع الورى، فتكلمي، صوتا عاليا، هأنذا الشباب، فأجاب)،
والكلمات المتوازنة: (لتسعدي، لتنعمي) يضاف إلى ذلك التصريع في (تكلمي وفم) الذي يؤازره روي الميم المكسورة، ليؤثر هذا الثراء النغمي بفكرة الحق والتمسك به والدفاع عنه في فكر المتلقى.
المقطع الثاني:
ولا يقل المقطع الثاني عن سابقه في حسن اختيار الوسائل التعبيرية الكاشفة عن الحق في الحرية والدفاع عن الوطن، وهي وسائل تركيبية وتصويرية وإيقاعية متعددة، وما يزال الشاعر يتحدث إلى حبيبته الغالية مصر: وهو يوظف هنا وسيلة تعبيرية أخرى تتخذ شكلها من الإيقاع وجوابه، أو النغمة وقرارها، ويتمثل الإيقاع في أسلوب الشرط أو الجمل الخبرية ،بينما يتمثل الجواب في: جواب الشرط أحيانا أو الجمل الإنشائية في أحيان أخرى.
وهكذا يتمثل الارتباط الوثيق بين الحق والجهاد والشهادة لتسلم البلاد وتعيش للمجد.
أما المقطع الثالث:
وتمتد فيه الفكرة السابقة خلال حوار يكشف فيه الشاعر عن أثرها في تجلي المجاهد المحارب المسالم فنال حقوقه، ويقترن ذلك بالرفض للتسليم والاستكانة، ويجسد ذلك المفارقة التي يجليها لغويا الجناس بين المسالم القوي والمسلم الضعيف، والتقابل بين الحق القائم والحق المهضوم، وتحقيق العدل ومفارقة القيد، ومن ثم اشتعال النار في الطغاة والظالمين بوثبة الأمة.
وقد ساد هذا المقطع تنوع الأساليب بين الخبر والإنشاء لتقرير ما سبق، واستثارة المتلقي، حول الحق والجهاد والاستشهاد، وماتزال وسائل الشاعر الإيقاعية تحقق أهداف هذا النص وتجليها بتأثيرها في المتلقي بصور التمسك بالحرية والنضال من أجلها.
وهكذا يترابط النص دلاليا وبلاغيا ونحويا، وذلك رد علي من يتصورون أن الشعر المحافظ لا وحدة فيه ولا تصوير.
من ثم فكأني بالتهامي -رحمة الله عليه- يرد بشعره شكلا ومضمونا على من ينتقصون الشعر المحافظ اليوم وينتقدون أساليبه. ولا أتصور أن ذلك يعني الوقوف عند الشكل المحافظ ورفض ما عداه ، لأننا نرحب بالشعر الحر رغم اختلاف شكله الموسيقي.
ــــــــــــــــ
الهوامش
1- محمد التهامي: ديوان أغنيات لعشاق الوطن، الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1987م.
2- السابق ص 12.
3- السابق نفسه ص 30.
4- انظر السابق نفسه ص 92.
5- انظر السابق ص 60، 64، 68.
6- السابق نفسه ص 50.
7- انظر قصيدة من حكاية عرابي، السابق نفسه ص 108.
8- السابق نفسه ص 8.