العدد 50
لمْ تخلُ حقيبتي المدرسية يوماً من قصائده، بلْ كنتُ أردد أشعاره في صحوي ونومي!
بلْ كنتُ أقلِّب الصحف كلها؛ علِّي أجد له قصيدةً جديدة! وكنتُ أسهر مع أثير الاذاعة لعلِّي أحظى بسماع شِعره، أوْ سماع من يتحدث عن قصائده العذبة!
وكنتُ أقول: يا إلهي! متى أرى هذا الشَّاعر؟ وكيف السبيل إليه؟!
وعندما سمعتُ عن مشاركته في ندوة أدبية ... لمْ أتمالك نفسي من شدة الفرح!
في اليوم المحدد؛ توجهتُ إلى هناك ... مشتاقاً لرؤيته؛ كاشتياق الصائم لصوت المؤذن!
وكنتُ أسأل الناس بلهفة: أين الشَّاعر؟ متى يأتي الشَّاعر الكبير؟!
عندما أقبل المساء بسكينته؛ فإذا بمن يناديني: هذا هو الشَّاعر الذي تسأل عنه!
فانطلقتُ نحوه كالسهم، ومددتُ يدي لأصافحه، وأفصح له عن إعجابي بأدبه، ومدى تعلُّقي بفنه، وحفظي لديوانه عن ظهر قلب ... إلخ.
فإذا به يتجهمني، ويذمّ شفتيْه، ويمضي بعيداً بعيدا ...!
بعد قليل؛ رقَّ قلبه، وسلَّمَ عليَّ بأطراف أصابعه -بعد استغفار تلو استغفار- ثمَّ أدار ظهره، ومضى سريعاً، وكأنه ندمَ على مصافحتي!
عندئذٍ؛ تحسَّرتُ على شبابي الذي أضعته في قراءة الشِّعر .. فانطلقتُ نحو المنزل؛ لأحرق جميع قصائده!
بعد أيام؛ التقيتُ الأديب الكبير الدكتور/ أحمد هيكل- وسألني: ما لي أراك قلقاً مهموماً؟
قلتُ له بغيظ: أنا كرهتُ الأدب وأهله، وأحرقتُ كل دواوين الشعراء، الأحياء منهم والأموات!
فجذبني بقوة، وقال: ماذا تقول .. ماذا حدث لك ...؟
فقصصتُ عليه ما جرى ... فهزَّ رأسه، ثمَّ قال بصوتٍ حزين: آهــــــ ..لا بأس عليك!
ليست المشكلة عندك، بلْ عند هؤلاء المجانين .. قاتلهم الله!
ثمَّ قال بصوتٍ خفيُض: اعلم –يا ولدي- أنَّ الشعراء مرضى .. وعزَّ دواؤهم!
يا ولدي؛ الشاعر إنسان غريب غريب، لا يستطيع التصالح مع نفسه، ولا مع الآخرين!
ثمَّ وضع يده الحانية على كتفي، وقال: أوصيكَ وأبناء جيلك: ألاَّ تتوقفوا عن قراءة الشِّعر، والمداومة على مدارسته وحفظه ... لكن؛ لا تلتقوا بالشعراء أنفسهم، فهؤلاء كالنحل ..!
* * *
بعد مرور سنوات على هذه الحادثة؛ وبينما كنتُ أعمل في مجلة "رسالة الإسلام"؛ فوجئتُ بأنَّ الشَّاعر –الذي أحرقتُ قصائده- اختير رئيساً للتحرير ... ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله!
وقد كلَّفني في -أول لقاء- بإجراء حوار مع الشيخ/ محمد الغزالـــــــــي-بمناسبة حصوله على جائزة فيصل العالمية، وقال لي: اذهب إليه فوراً، واسأله عن كذا، وكذا ... إلخ!
في اليوم التالي؛ شكرني، وقرر صرف مكافأة كبيرة على ذلك الحوار الرائع!
الأعجب من ذلك؛ أنه ظلَّ يبدي إعجابه بأسلوبي .. حتى اختارني نائباً له!
توثقتْ علاقتنا بعد ذلك، إلى الحد الذي كان لا يحتمل أنْ يمر يوم واحد دون أنْ يراني!
وقد حدث أنْ مرضتُ؛ فسأل عن عنواني ... وزارني عند منتصف الليل!
بمجرد أنْ فتحتُ الباب؛ فإذا به يصيح: لماذا غِبتَ عني هذه الأيام .. ولماذا تعذّبني كل هذا العذاب .. ثمَّ أهداني سلَّة مملوءة بالطعام والفاكهة، وقال: أنا خادمٌ لك يا قُوصِـــي!!
* * *
ذات مرة؛ عرضتُ عليه قصيدةً لي، كتجربة شِعرية أولى ... فمزقها على الفور، وصرخ قائلاً: لماذا .. لماذا تعذِّب نفسك مثلنا!
وفي إحدى المرات؛ تأخرتُ عن موعدٍ كان بيننا ... وبمجرد أنْ رآني؛ نظر في ساعته؛ وقال ساخراً: وتعبدون الله!!
لكن؛ لنْ أنسى عندما دخلتُ عليه مكتبه في الصباح الباكر، فإذا به واجمٌ أشدّ الوجوم! وألقيتُ عليه السلام مراراً، فلم يجب! اقتربتُ أكثر، وقلتُ: لا أحزنَ الله شاعرنا الكبير!
فزجرني قائلاً: كيف لا أحزن في ظل هذه المصائب ... ثمَّ أعطاني الصحيفة، وقال: اقرأ هذا الخبر: (قائد جيش البوسنة يستنجد بالعالَم الاسلامي)!
وظلَّ يستغفر ويحوقل، ثمَّ تحامل عليَّ، وقال: اذهب بي إلى مقهى باب اللوق ... وهناك جلس بعيداً، ثمَّ أخرج ورقةً، كتب فيها قصيدته النارية: (وا معتصمــــــاه) يقول فيها:
فضحتنا حين ضاقت بك السبلُ |
|
فصِحتَ بالأهل تدعوهم وتبتهلُ |
إنَّه الشَّاعر الكبير (محمد التهامـــــي) آخر المقاتلين دفاعاً عن الأصالة، وأزهد من عرفتُ من المبدعين عن الشهرة والضجيج الإعلامي ... وقد تجاهله النقاد –عمداً- لأنه لمْ يصالح، ولمْ يحابي، ولم يجامل أحداً ... وفي ذلك يقول –بحزنٍ شديد: (أحسُّ بمرارة تجاهل النقاد نحوي، وإنْ كان يعزِّيني أن الحركة النقدية بشكل عام، لم تستطع اللحاق بمسيرة الإبداع المعاصرة، ولا أرى في النقد سوى أنه نوع من الترويج أو الشهرة بالنسبة للأديب، وهو يحتاج إلى نوعية من الاهتمام لا تتوافر لديّ؛ لأني أرفضها، فهذا الاهتمام يتطلب إهداء دواوين للنقاد الممارسين لعملية النقد، وقد يتطلب زيارات خاصة إليهم، ومكالمات هاتفية، وغير ذلك مما لا أستسيغه، كما أن الامتناع عن طلب الشهرة؛ صيانة للنفس ورياضة لها، والأديب الحق في حاجة إلى هذا ليواصل رحلته الأدبية إلى أبعاد غير عادية في حياة البشر، لأن البحث عن الشهرة قد يؤدى بالضرورة إلى فقدان التركيز على معاني الحياة وأبعادها ورسالتها الإنسانية).
الحقَّ أقـــــــول: مَن قال: إنَّ "التهامـــــي" تسلَّل من طبقات ابن سلام، أوْ شعراء ابن قتيبة، أوْ يتيمة الثعالبي؛ فما تجاوز الحقيقة .... ولِمَ لا؟
لقد تجلَّى ذلك خلال رحلته الشِّعرية التي امتدتْ قرابة قرنٍ من الزمان، بدأها بـــــ: (أغنيات لعشاق الوطن، وأشواق عربية، وأنا مسلم، مروراً بـــــــ: دماء العروبة على جدران الكويت، ويا إلهي، وقطرات من رحيق العمر، وختمها بــــــــ: أغاني العاشقين، قصائد مختارة)!
إنه الشَّاعر الوحيد الذي كان يحفظ شِعره كله؛ لأنه شِعر حقيقي!
وهو الشَّاعر الوحيد الذي تُدرَّس قصائده من الخليج إلى المحيط؛ لأنه شِعر حقيقي!
وهو الشَّاعر الوحيد الذي تُرجِمتْ قصائده إلى مختلف اللغات الإسلامية؛ لأنه شِعر حقيقي!
وهو الشَّاعر الوحيد الذي كرَّمته الشعوب والحكومات، ونال كثيراً من الجوائز والنياشين والأوسمة، وجنى ثمرة نبوغه وهو على قيد الحياة!
مات "التهامـــــــي" عاشق العروبة؛ التي منحها رحيق إبداعه، وخلاصة أشعاره، وخصَّها بديوان كامل "أغنيات لعشَّاق الوطن" فضلاً عن ديوان "دماء العروبة على جدران الكويت" الذي قال عنه النقَّاد: (إنه أفضل ديوان شِعر صاغ ملحمة الكويت في مراحل الانكسار والانتصار)!
وإنْ شِئتَ استمع إليه، في قصيدته "وطنـــــي الكويــــــت"، إذْ يقول:
دار "الكويت" لديها سِرُّ عزتها |
|
إنْ هان كلُّ عصيِّ الأرضِ لمْ تهنِ |
بلْ كشف شاعرنا "التهامي" عن مرارة الأزمة، وهول المصيبة، أثناء فاجعة الغزو العراقي للكويت، قبل ربع قرنٍ من الزمان، ففي قصيدته "الكويت صارت .. وكانت" يقول:
أهل الكويت استراحوا في مآمنهم |
|
كأنهم لدواعي أمنهم ضمنوا |
لقد كان "التهامي" من "الصنف الأول" الذي وصفه الخليل: بأنه يدري، ويدري أنه يدري! فكان يعلم مكانته الأدبية، ومنزلته الشِّعرية، ولا يستجديها من باحث، ولا يتسولها من ناقدٍ مهما كان قدره! حسبنا أنْ نستمع إليه وهو يرثي نفسه في قصيدة بعنوان (رحيل شاعر) إذْ يقول:
أيها الشَّاعِرُ ماذا رَوَّعَكْ |
|
فاحْترَقْتَ الصَّمْتَ كَيْلا نَسمَعَكْ؟ |
رضي عن الله عن شاعر العروبة والإسلام/ محمد التهامي (1920- 2015م) الذي كان سبباً في صحبتي لنفرٍ من الأعلام؛ كالشيخ/ جاد الحق، وأحمد بهجت، وحسين مؤنس، وعبد الودود شلبي، وخالد محمد خالد، وشوقي ضيف، وغيرهم ممن رضيَ الله عنهم ورضوا عنه!