بغداد.. التاريخ.. الواقع.. الحلم في شعر محمد التهامي
كتب   ▪ بتاريخ 13/08/2015 15:03 ▪ تعليقات (1) ▪ طباعة  أرسل لصديق  أرسل لصديق 

العدد 50

 

يأتي شعر محمد التهامي في بغداد ضمن موضوعٍ كبير من أهم موضوعات شعره وأروعها وأصدقها، وهو شعره في العروبة؛ لذلك كان من المهم أن نشير إليه في وجازة.

ومصطلح (عروبة) بالمعنى الذي نستعمله اليوم ، وبالمعنى الذي تفهمه الجماهير العربية الواعية مصطلح حديث ، فليس في قواميس اللغة العربية لهذا اللفظ معنى على غرار ما نفهمه نحن اليوم ، لقد ورد لفظ (عرَوبة) أو يوم العَروبة يراد به يوم الجمعة ، أما هذه الصيغة التي نستعملها بإيجاز مقام (القومية العربية) فلفظ مستحدث ([1]).

والنظرة الموضوعية للفكر والعلم تنفي أي تناقض في المحيط العربي بين الملامح القومية والشخصية العربية ، وبين الإسلام كدين للبشرية ، ومن يزعم أن هناك عداء بين العروبة والإسلام ، هو في حقيقة الأمر لم يعن فهم ما تعنيه العروبة ، وأخطأ التفسير للمنطلقات الإسلامية ... إن الخلاف بين العروبة والإسلام هو خلاف مفتعل ، فقد انصهرت وامتزجت العروق العربية في ظل الإسلام مع بقية الأعراق والجماعات الإسلامية على مدى زمني طويل من التاريخ ، وما شهده تاريخنا من تناقض في هذا الصدد إنما هو وليد افتعال نسجته الأغراض السياسية المرهونة ([2]) .

والتهامي شاعر يؤمن بالعروبة والوحدة حتى لكأنما تستحيل تلك الوحدة عنده عقيدة وشريعة قومية ينبغي أن تنضوي شعوب العرب المعاصرة تحت لوائها ، شريعة بثها فيهم من قديم الدين الحنيف ([3]).

إن وحدة العرب هي مطلب شاعرنا ، الذي يأمل أن يتحقق وهو يرسل شعره مناديًا أبناء أمته أن يتحدوا ، وهذا أحد النقاد يلحظ اهتمام شاعرنا بالوحدة العربية ، فيقول بعد أن يتحدث عن أهمية الوحدة ([4]): "ويحس ذلك إحساساً عميقاً الشاعر النابه: محمد التهامي فيمسك ببوق تلك الوحدة العربية ، وينفخ فيه بكل ما أوتي من قوة ، ينفخ فيه بأشعار تتميز بالحرارة والحماسة الملتهبة ، وكأنما هذا الديوان : "أشواق عربية" تعبير حار عن أمانيه في قيام تلك الوحدة المنشودة ، وهو ينفثها حمماً متقدة أملاً أن تعود إلى الأمة العربية تلك الوحدة" .

ويقول ناقد آخر ([5]): "إذا كان الشعر مرآة حقيقية للشاعر ، وصورة صادقة لأعماق نفسه ، فإن الشاعر محمد التهامي في ديوانه "أشواق عربية" يغني للوحدة ، ويدور حول قضاياها المختلفة ، ويناشد الإنسان العربي ، ويثير وجدانه لهذه الوحدة التي هي حلم الشاعر ومبتغاه

يقول التهامي ([6]): "رضعت إيماني بالقومية العربية من ثدي أمي ، ومما فطرني عليه الله ... ولما أنهيت دراستي الجامعية في كلية الحقوق عرفني (عبدالرحمن عزام) ، وأغراني بالعمل في الجامعة العربية على أمل قيام الدولة العربية الواحدة في عشر سنوات ، كما كان يقول ويؤمن ويعمل ، وفي رحاب الجامعة التقيت بالعرب السياسيين والعرب الشعوب ، ومارست القضايا والصراعات بكل تفاصيلها الرهيبة ... وكانت نتيجة ذلك ما صغته شعرًا حول القضية العربية بأبعادها المترامية ومراحلها المتعددة" ؛ ولأن إيمانه بالعروبة كما قال ، كانت من أغراضه الأصيلة ، ومما نظم فيه أول شعره ، كقوله إبّان دراسته الثانوية ([7]):

وهاكَ الشرق يرجوكم كرامًا
فبغدادُ تميس بكم وتزهو

 

وفوق النجمِ مجدكم يُقامُ
وتفتخر الحجازُ بكم وشامُ

ولعلك تلاحظ أنه بدأ ببغداد مما يدل على ارتباطه بها، وامتلائه بمجدها منذ نعومة أظفاره.

أما نظمه في العروبة على امتداد عمره الشعري فحسبك دليلًا على كثرته أنه يبلغ ديوانين مطبوعين هما (أشواق عربية ، ودماء العروبة على جدران الكويت) ، وهو في هذا النظم عربي معتز بعروبته ، وبكل ما يتصل بها على ما يبدو في قوله ([8]):

عربي .. عربي

فدمي عربي .. وفمي عربي

وكتابُ المجد به نسبي

عربي .. عربي

الله حبانا بالكتبِ

ومشى بحمانا كل نبي

ما كان المرسل بالكذب

فتعالى الله عن الريب

فالحق إذا يعلو .. عربي

والخير إذا ينمو .. عربي

والحبُّ إذا يسمو .. عربي

والمجدُ إذا يعلو .. عربي

والحلم الذي طالما راوده هو الوحدة العربية التي يقول عنها ([9]): "والأمر الذي لا شك فيه ، أنه لا يختلف مفكر واحد عربي أو أجنبي على أن الوحدة العربية هي طوق النجاة لكل العرب ، وهي طريقهم الوحيد إلى الدخول في المعترك العالمي الذي لا يرحم الصغار ، ولا يعترف إلا بالكيانات الكبيرة " وهو يدعو للوحدة ، ويصر عليها حين يقول([10]):

ندعو الجميع إلى اللقاء لوحدةٍ
الحبُّ واللغة العريقة بعضهـا

 

بيضاءَ من نورِ العروبة تنظمُ
والصالحُ المرجو فيها والدَمُ

ويرى أن العرب كالجسد الواحد ، وأن ما يحدث بينهم من خلافات إنما هي خلافات عارضة يجب طرحها ، حتى يواجهوا المتغيرات التي تحدث في العالم حين يقول([11]):

أوطاننا هذه ذاتٌ قد اتصلت
فلو تأذى بها ظفرٌ لا نملةٍ

 

أعضاؤها ثم عزَّت وهي تنتسبُ
فالقلب والعين والأحشاء تضطربُ

وهو يبارك ويشجع كل تقارب يحدث بين الشعوب العربية ، كالوحدة التي قامت بين مصر وسوريا ، ويلوم ويعنف من يبتعد عن هذه الوحدة ، ويطلب بالإسراع إليها قبل أن تفوت الفرصة حين يقول ([12]):

قل للذي عن ظلال الأهل يبتعدُ
ومنهلُ الحبِّ في أعتابه عجَبٌ
تلقَ العروبة روحاً مسهم جسدًا

 

بابُ العروبةِ مفتوحٌ لمن يفِدُ
سل عنه سل عن حَميَّاهُ الألى وردوا
فأشرقت بالحياةِ الروحُ والجسدُ

وما يزال شاعرنا يحلم بتلك الوحدة المأمولة ، وما يزال يتشوق إلى تحقيقها ملتاعًا([13])، بل لا يكاد يترك بلدًا عربيًّا إلا ويزوره ، ويدعوه للوحدة ، إذ نراه يدعو لها الجزائر([14])، وتونس([15]) ، والمغرب([16]) ، والسودان([17]) ، وسوريا([18])، ولبنان([19])، واليمن([20])، والأردن([21])، والكويت([22])، والسعودية([23])، والعراق([24])، ويمتاز شعره في تلك الدول بعدة سمات منها:

1 ـ الحديث عن حرارة اللقاء ، وما يكون فيه من مصافحة وعناق وحسن استقبال ، كما يبدو في قوله ([25]):

عانقته وارتحتُ في أحضانِهِ
فأجابني عنه بريقُ عيونِه

 

وسألته عنه وعن سودانِه
ثم انهمارُ الدمع من أجفانهِ

2 ـ التنويه بكفاح تلك الدول وقتالها المعتدين ، كما يبدو من قوله لبطل الجزائر([26]):

في الهول في لهبِ المجازِرْ
ألقاك مرفوع الجبيـ  

 

ألقاك يا بطل الجزائرْ
ـن مخضَّبَ الجنبين هادرْ

3 ـ التنويه بالنصر الذي تحقق ، وبالحرية التي تمت ، وبالنهضة التي بدأت، كما يقول في انتصار شعب اليمن ([27]):

أسمعتمُ ما هزّني أسمعتمُ
ورأيت شعباً ماردًا في قمقمٍ

 

إنِّي رأيتُ سلاسلًا تتحطَّمُ
يصحو فيحطمُ في يديهِ القمقمُ


4 ـ التذكير بمقومات الوحدة ، لعلنا نحققها فنصير إلى ما نحب ، كما في قوله([28]):

فالدارُ دارُ بكلِّ العربِ شامخةٌ
يسعى الكبارُ إليها فهي نِدهمُ

 

كِيانها كالجبال الشمِّ منتصبُ
وعندها ما بنى أبناؤها النجُبُ

5 ـ تشخيص المدن العربية ، وبث الشكوى إليها ، أو السماع لشكواها، أو عتابها على تأخر أبناء الأمة عن الركب ، كما يبدو من قوله ([29]):

إنِّي ظمِئْتُ فجئتُ ساحة "جِلقِ"
ما بالها ضنَّت بحلو رضابها

 

ووقفتُ في وسطِ الزِّحامِ لأستَقِي
واستأثرت بحنانِها المتدَفِّقِ

  لقد كانت المدينة العربية، وحيًا لإبداع الشاعر ورافدًا من روافد إلهامه . وليس المقصود بالمدينة الأرض و المعالم والناس فقط , وإنما المقصود بها ـ أيضًا ـ التاريخ و الرمز و الرباط العاطفي المقدس. إن المدينة العربية تستحيل عند التهامي معشوقة يحبها، ويسرها بالآمه وآماله , ويبثها عواطفه و أحلامه و كوامن نفسه وهواجس خلجاته , كما أنه يتخذها حينًا معبرًا للحديث عن الماضي و تذكر الأيام الخوالى و الحوادث والأشخاص.

  وبغداد عند شعرائنا العرب تحتل مكانة خاصة وتستأثر باهتمام عظيم , ربما لأنها تذكرهم بالمجد العربي في أزهي عصوره أيام العباسيين , حيث العلوم والآداب و الأشعار و الفتوح و الفنون و الفتون , وحيث الحضارة الزاهرة و القصور العامرة و الليالى الرائعة الساحرة.

وربما أيضا لأنها تذكرهم بانكسار ذلك المجد و أفواله بعد استيلاء التتار عليها ونهبهه لها وقتلهم الكثير من أهلها.

وبغداد عروس شعر"محمد التهامي" , وفتاة أحلامه التي يعشقها ويهيم بها هيامًا . وحبه القديم , ولعله وهو يعيش إيمانه بالعروبة , وحلمه بالوحدة وعمله بالجامعة العربية , أدرك أن الشعب العربي في العراق شأنه شأن الشعب العربي في مصر , يحملان في أعناقهما بذور اللقاء الحضاري علي ضفاف الأنهار وفى ظل العروبة والإسلام وثم التقى حبه لبغداد بنت الحضارة العربية الزاهرة بإيمانه بأهمية الالتقاء المصرى العراقى للوحدة الشاملة ليتشكل رافداً من روافد الإلهام الشعري لديه .

لقد زار التهامي عاصمة الرشيد عدة مرات فكانت كل زيارة له عيدًا ، شعريًّا لا ينقطع صداه عدة شهور , ولا غرور فقد جمع إلى عذوبة البيان جمال الديباجة و جهارة الصوت و حسن الأداء و روعة الإلقاء.

أما ما نالته بغداد من نظمه فكان اثنتي عشر قصيدة من درر شعره وجواهر إبداعه , أي أنها استأثرت بما لم تستأثر به مدينة أخرى , وفي هذه القصائد ملك التعبير عن الخواطر المكظومة و الهواجس الدفينة , وصور الآمال و الآلآم و الأفراح و الأتراح و الطموحات و الأحلام , ووصف الماضي و الحاضر و استشرف المستقبل ,وكان شعره غناء العربي في كل مكان ,وكانت قيثارته ـ دائمًا ـ تجيد عزف اللحن العربي الأصيل , وتعبر بصدق عن مشاعر العربي و هواجسه.

وقد شهد مهرجان الشعر , الذي أقيم بالإسكندرية سنة1958م , ميلاد أول قصيدة للتهامي في بغداد صور فيها عظمتها , وتاريخها الأشم , وصمودها الرائع أمام الطغاة المستبدين: ([30])

بغداد مهما تلاقى أنت بغداد

لابد يوماً لك الأيام تنقادُ

كم عشت في قمة التاريخ سيدة

يعنو لجاهك أحرار وأسيادُ

أغرمت بالمجد حينًا وانفردت به

لم يبق حولك للباقيين أمجادُ

حتى إذا جاء عهد القيد ما انخفضت

فيك الجباه و لم يهزمك أوغادُ

 وفي القصيدة نفسها بارك الشاعر ثورة الشعب سنة 1958 وأشاد برجالها , الذين اعطوا الحكم للشعب بعد أن كان في يد فرد مستبد.

ففي البلاد جمعيا ثورة وثبت

وللملايين ابراقٌ وارعادُ

وللذئاب الالى خانوا جزاءهمُ

من بعض ما أثموا ظلماً وما كادوا

وزلزل العرش تحت الفرد منحطمًا

ما عاد يمتلك الأوطان أفرادُ

   ولم يجن الشعب العراقي ثمار الثورة فقد انقلب بعض قوادها إلى ظالمين جلادين , لا يهمهم إلا الاستئثار بالحكم و التخلص من المجاهدين الشرفاء . فاعدموا "الشوَّاف"و "الطبجلي"و زملاءهما من قوادها في أم الطبول سنة 1959 وكانت فجيعة كبرى و كارثة عظيمة .

 ولأن التهامي يصدر في شعره عن المواقف و ينطلق من إيمانه بالعروبة و حلمه بالوحدة وحرصه على المصالح العربية المشتركة لا من علاقته بالحكام كانت قصيدته الثانية التي وصف فيها بغداد بعد تلك المذبحة: ([31])

ضجت شوارعها وغطاها الدمُ

وتلفتت جدرانها تسترحمُ

وبكى التراب بها وجن جنونه

وانهال يحتضن الرمال ويلثم

وتصايحت جنابتها في ثورة

ما هكذا الأبطال يثأر منهمُ

بغداد رق بها الجماد وما ارعوى

عن غيِّه متألهٌ يتحكم

ويحيد عن كل الشرائع حكمه

حتى ليأباه البهيم الأعجم

ويبدو في الأبيات حزن الشاعر وتأثره بالفجيعة وألفاظه توحي بالحزن و الفجيعة والألم , وتدل على جلل المصاب , تأمل المفردات(ضجت ـ غطاها ـ الدم ـ بكى ـ جن جنونه ـ الدماء) وصور تنقل الموقف بدقة وبراعة , فقد جعل الشوارع تضج وهي تترفل بالدم , والجدران تتلفت و تسترحم , أما التراب فأخذ يبكي وينهالُ على الدماء الذكية يحتضنها و يلثمها بشوق وحرارة وجنون. ثم كانت الثورة العاتية و الصيحة المدوية "ما هكذا الأبطال يثأر منهم" إن الجمال قد رق لحال أولئكم الشهداء , وما ارعوى الحاكم الظالم المستبد عن ظلمه , بل حاد عن كل الشرائع حتى ليأباه البهيم الأعجم.

 وفي القصيدة يستنطق التهامي التاريخ و يشبه هؤلاء الظالمين الذين قتلوا أخوانهم بمن قتلوا "الحسين بل إهم لأضل منهم في الوجود و أظلمُ

قد صير النصر الكبير مآتمًا

يبكي بها الشعب الشهيد ويلطُمُ

وأعاد من قتلوا الحسين وإنه

لأضل منهم في الوجود و أظلمُ

وكان أول لقاء الشاعر بمحبوبته الأثيرة عام 1966م بمهرجان الشعر السادس حيث ألقى قصيدة رائعة صور فيها العلاقة بين الشعب العربي في مصر و العراق وذوب في النيل حب الفرات: ([32])

هذا الجمال عرفته وألفته

ورأيت أكثره بمصر وذقته

لو لم أزر هذا الحمى وسألتني

عما حواه من الجمال وصفته

أوجئ لي يوماً ببعض ترابه

وأنا البعيد شممته فعرفته

لو لم يقولوا أنت فيه, لهزنى

رغم البعاد أريجة فلثمته

"بغداد"ما طول الطريق وفي دمي

شيء بمغناك الحبيب وجدته

وحاول حزب البعث منع الشاعر من حضور مهرجان الشعر التاسع في بغداد سنة1969 ولكن يأبي الله إلا أن يحضر المهرجان و يلمح بمحاولة منعه: ([33])

قطع الطريق على من يتجبر

وأقام دونك حائلًا لا يعبر

واشتد يا بغداد فى تفريقنا

فإذا بقربى من عيونك أكثر

ظنوا الكبيرة فى الطريقة تردنى

لكن ما بينى وبينك أكبر

جهل العداة جميعهم أن الذى

بينى وبينك فوق ما يتصور

قدر يشد اليك كل خواطرى

فأنا أمام هواك لا أتخير

و الملاحظ أن الشاعر يستخدم لغة الغزل في حواره مع بغداد , وكأنه يخاطب محبوبة إنسية , مما يدل على مكانة بغداد في نفسه ومنزلتها في قلبه لكنه لم يلبث أن يتحول إلى أسلوب حماسي حينما يتحدث في القصيدة عن أمجاد العربي ,وينوه ببطولته ويشيد بشجاعته , فهو لا يخاف الوغي و لا يرهب الردى, بل إنه يعتز بأثر الجراح الناتجة عن القتال في جسمه و يفخر:

إن قيل هذي الحرب, قلت: عرفتها

وليسألوا العربى كيف تُسَعَّرُ

كانت هوايته وشغل حياته

لو مات فى غير الوغى يتحسر

ويعد من أثر الجراح بجسمه

وشماً تدل به الرجال و تفخر

وعن الوفاء صدر الشاعر فى رثاء للرئيس العراقى عبد السلام عارف بقصيدتين الأولى ألقاها في بغداد .وفي ذكراه الأولى عدد فيها مآثره و أشاد بمناقبه و لم يفته أن يندد بالمستعمر و يحلم بالوحدة: ([34])

نداؤك لا يغيب له دوىُّ

لأنك بعد ما دفنوك حيُّ

وما دفنوا سوى جسد كريم

وما أجسادنا فى الذكر شي

إذا قالوا لقد مضت الليالى

نقول: ولا يجوز لك المضىُّ

ولقد حلقَّت عملاقًا كبيرا

وما لضخامة العملاق طىُ

و الثانية قالها في ذكراه الثانية: ذكر فيه أيامه الخوالى و أياديه البيض على شعب العراق

سل ذلك الثاوى لدى محرابه

وسحائب الرضوان فى أعتابه

هل جاء يسأل ما بنا ويقيننا

أن يسأل المشتاق عن أحبابه

أنا يعذبنا النوى وقد انطوى

عامان لم يفتر لهيب عذابه([35])

وشاعرنا يشارك بغداد في شدائدها و يقف معها في كرياتها , ويبارك انتصارات شعبها التى أعادت إلى الأذهان الانتصارات الإسلامية الأولى فهو يقول في بشائر نصر العراق على إيران: ([36])

و القادسية يا بغداد قائمة

وفيك منها سراديب وأنفاقُ

وابن الوليد وسعد فى مضاربنا

تشدنا فى التحام المجد أعراقُ

و كفنا كفنا فى الروع واحدة

سيان للسيف أو للنار إطلاقُ

ولما تم النصر على إيران و كانت الفرحة الغامرة, راح الشاعر يشيد بالانتصار الكبير و ينوه بالكفاح و البطولة: ([37])

لم يبق فى الفاو فى أحضانها حجر

إلا ويحيا لدى أعماقه بشر

هذى هي الفاو أن هلت شواهدها

أو طاب منها على سمع الورى خبرُ

لولا جلالة إيمان نقدسه

حجَّ الجميع لأرض الفاو واعتمروا

و حملوا  من ثراها الحر و اكتنزوا

حرصًا عليه فإن التبر يُدَّخَرُ

 وبعد النصر كان استيلاء حاكم العراق على دولة الكويت! ولأن التهامي يصدر في شعره عن المواقف و ينطلق من إيمانه بالعروبة , وحلمه بالوحدة , وحرصه على المصالح العربية المشتركة لا من علاقته بالحكام ـ كما قلنا ـ لأنه كذلك ـ كانت مناشدته لصدام أن يترك الكويت لأهلها و هذا هو موقف جُل العرب آنذاك: ([38])

انا نناشد صدامًا على أمل

من قبل ما ينتهى ما عنده هدرا

إنا نناشده من عمق لهفتنا

ونحن أهلوه لا نرضى له الضررا

إن مسه الجرح فالآلآم فى دمنا

تسرى و نشعر منها فوق ما شعرا

ثم كان تنديده بصدام ومناصرته لشعب الكويت في قضيته في الدفاع عن وطنه و أرضه , ولأن حاكم العراق بفعلته ذلك باعد بين الشاعر وبين حلمه الذي عاش من أجله , وطالما غني له, وهو الوحدة العربية, وهو في هذا وذاك صادق كل الصدق, ولعلك صديقي القارئ تشعر معى بالصدق أيضاُ في قوله: ([39])

أقدم أشعارى وما ملكت يدى

وأرخص في ساح الفداء دمائيا

أخوض تباريح الحياة بمبدأ

نسيت لديه ما على وماليا

أحث خطا الأيام حتى أعيشها

على صهوات المجد بعض حياتيا

وما نلت مالًا أو ربحت تجارة

وما كنت يومًا في الغناء مرائيا

ومهما يكن فشعر التهامي في بغداد يتميز بقوة العاطفة و صدقها , وصفاء الديباجة و رونقها , وجمال الصياغة و روعتها , ويشي بثقافته التاريخية  عندما يشير إلى الحوادث السالفة ويسقطها على عصرنا , وهو يدل على مدى حب التهامي لبغداد بل عشقه لها وصدقه هذا الصدق الذي تجلي في تصوير بغداد.. التاريخ الواقع الحلم.

 

 



([1] ) دفاع عن العروبة، للدكتور : عبدالرحمن البزار (ص79)، كتاب العربي ، العدد الرابع ، مارس 1955م ، مطبعة حكومة الكويت .

([2] ) آراء ودراسات في الفكر القومي ، للدكتور: محمد الرميحي (ص6)، كتاب العربي، العدد الثامن، 15 يوليو 1985م ، مطبعة حكومة الكويت .

([3] ) من مقال : (أشواق عربية للشاعر محمد التهامي)، للدكتور : شوقي ضيف بجريدة الأخبار 15/2/1989م.

([4] ) من مقال (أشواق عربية للشاعر محمد التهامي) ، للدكتور: شوقي ضيف، بجريدة الأخبار 15/2/1989م .

([5] ) قراءة في ديوان أشواق عربية ، مقال للدكتور: محمد عبدالمنعم خفاجي ، بجريدة الأخبار 9/6/1989م .

([6] ) حديث مع الشاعر نشر بجريدة القبس الكويتية 27/3/1990م .

([7] ) من قصيدة (صرخة الوطن) التي طبعتها مدرسة طنطا الثانوية سنة 1939م .

([8] ) من (نشيد القومية العربية) بديوانه أشواق عربية (ص275)، وانظر أيضاً : قصيدة (كرامة العرب) بالديوان نفسه (ص276) .

([9] ) مقدمة ديوانه : أشواق عربية (ص11) .

([10] ) قصيدة (أم الطبول) بديوانه : أشواق عربية (ص48) .

([11] ) قصيدة (كأحضان الأهل) بديوانه : أشواق عربية (ص17-20) .

([12] ) قصيدة (على باب العروبة) ، بديوانه : أشواق عربية (ص133) .

([13] ) (أشواق عربية للشاعر محمد التهامي) ، مقال للدكتور : شوقي ضيف، بجريدة الأخبار 15/2/1989م .

([14] ) انظر : قصائد (بطل الجزائر) ، و(جميلة) ، و(فرحة النصر) ، و(أوراس) بديوانه: أشواق عربية : (ص161، 165، 168، 173) .

تعليقات القراء
May 12, 2021
لماذا لم يذكر اسم كاتب المقال؟

علق برجاء التدقيق اللغوي لما يكتب