العدد 50
د.طه مصطفى- مصر
في مقدمة هذا الديوان يُطالعنا الشاعر الكبيرُ بهذه الكلمات التي هي كأنها بنت اليوم، في ظلِّ ما تعيشه الأمةُ العربية والإسلامية من أحداث.
يقول الشاعر: "والأمر الذي لا شكَّ فيه أنه لا يَختلف مفكِّرٌ عربيٌّ واحد أو أجنبي على أنَّ الوحدة العربية هي طوقُ النّجاة لكلِّ العرب، وهي طريقُهم الوحيد إلى الدُّخول في المعترَكِ العالَمِيِّ الذي لا يَرحم الصِّغار، ولا يعترف إلا بالكيانات الكبيرة، الكثيرون يؤمنون بذلك، ويَحلمون بتحقيقه، ولكن كيف؟ هذا هو السؤال الذي سيُجِيب عنه الزّمن؛ طال أو قَصُر".
ومِن وَحْيِ هذه المقدمة، ومن وحي ما يَمُرُّ بالأمة العربية من أحداثٍ جِسام، كانت لنا هذه الوقفة مع قصيدةٍ من قصائد هذا الديوان، ومع أنها قصيدةٌ يَرجع تاريخُ نظمِها إلى سنة 1998م، إلا أنها تبدو وكأنها قيلت اليوم؛ نظرًا لما فيها من تَماثُل البواعث التي كانت من وراء نَظْمِها، ولما يجب أن يُقال أيضًا: لو أنَّ صاحبها صاغها في ظلِّ الأحداث التي تعيشها الأمّة العربية الآن.
أمّا هذه القصيدة، فهي التي جاءت في الديوان تحت عنوان "بغداد"، وقد جاءت في افتتاحها هذه الأبيات:
بَغْدَادُ، مَهْمَا تُلاَقِِي أَنْتِ بَغْدَادُ لاَ بُدّ يَوْمًا لَكِ الأَيَّامُ تَنْقَادُ كَمْ عِشْتِ فِي قِمّةِ التَّارِيخِ سَيِّدَةً يَعْنُو لِجَاهِكِ أَحْرَارٌ وَأَسْيَادُ أُغْرِمْتِ بِالمَجْدِ حِينًا وَانْفَرَدْتِ بِهِ لَمْ يَبْقَ حَوْلَكِ لِلبَاقِينَ أَمْجَادُ |
ومن غير شكٍّ فإنّ هذا المَطلع يَفرض نفسه فرضًا على لسان كلِّ عربي، فضلاً عن كلِّ مُسلم، وهو يرى بعينه الآن ما نزل بعاصمة الرّشيد.
إنّ الخِطاب هنا ليس دعوةً للوقوف على الأطلال، وبُكاءِ الدِّيار، وإنّما هو الدّعوة الصادقة إلى تضميد الجِراح، وإلى الارتفاع فوقَ مُستوى الآلام - على قسوتِها وشِدّتِها - مِمّا يُمَثِّل الصُّمود النّفسي والإيمانِيّ أمام الحدَثِ الجَلل، ويبدو لنا هذا الصُّمود من خلال هذا النِّداء، وما يَحمله في حروفه من كلِّ معاني العِزّة والكرامة، والإجلال والإكبار:
بَغْدَادُ مَهْمَا تُلاَقِي أَنْتِ بَغْدَادُ
ذلك لأنّ ذاكرة التاريخ لا يُمكن أن تنسى تاريخَ بغداد، وكيف تنسى؟ والماضي كلُّه ماضي أمجادٍ وانتصارات، وقدرةٍ على مواجهة الأحداث، وعلى النُّهوض القويِّ من كل كبوة ألَمّت بِها، ومِن كلِّ خطر داهَمَها، والتاريخ خيْرُ شاهدٍ، فهو خبَرٌ مسطور، وخبَرٌ مقروء، وخبَرٌ موثّق، يعرف ذلك القاصي والدّاني، والقريبُ والبعيد، والعدوُّ والصديق.
واستِنادًا إلى هذا الماضي المجيد، واحتكامًا إلى حقائق التاريخ؛ جاء هذا التَّأكيد، العالي الصَّوت، الواثق النَّبْرة:
لاَ بُدّ يَوْمًا لَكِ الأَيّامُ تَنْقَادُ
نعم، لا بدّ، وإن طال الأمَد، وإن توالت الأحداث، وإن تباطأت الخُطى، وإن ادْلَهمَّت الظُّلمات، وإن تكاثر الأعداء، وإن تَحالفت قُوَى الظُّلم والطغيان، لا بُدّ أن تعود إليها السِّيادة، ولا بدّ أن يعود إليها زِمامُ أمرِها؛ ليكون في يدها، وطوع تصرُّفِها، لا بد أن تنكشف الظُّلمات، وتعودَ الأضواء، لا بُدّ أن تعود قوى البَغي على أعقابِها خاسئةً مدحورة، ومخذولةً مهزومة، لا بُدّ أن يصحو الإيمان، وترسخ جذوره في قلوب المؤمنين الصّادقين؛ فالله - تعالى - غالِبٌ على أمره، وهو - سبحانه - الذي وعَد، ووَعْدُه الحقُّ: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ (الروم: 47).
إنَّ هذا الماضي الشّاهد، الذي يعطي الدَّليل كلَّ الدليل على الثِّقة في المستقبل، وعلى التغيُّر من حالٍ إلى حال، هو ما يُخْبِرنا عنه الشَّاعر في قوله الواثق:
كَمْ عِشْتِ فِي قِمَّةِ التَّارِيخِ سَيِّدَةً يَعْنُو لِجَاهِكِ أَحْرَارٌ وَأَسْيَادُ أُغْرِمْتِ بِالْمَجْدِ حِينًا وَانْفَرَدْتِ بِهِ لَمْ يَبْقَ حَوْلَكِ لِلْبَاقِينَ أَمْجَادُ |
فبغدادُ لم تعش على هامش التاريخ، ولم تَعِش على مستوى متساوٍ مع بقية العواصم، وإنَّما عاشت - على مرِّ التاريخ، في كثيرٍ من الأوقات – على (قمَّة التاريخ سيِّدةً)، وكذلك فإنَّها حين خضع لها الآخرون فإنَّ هؤلاء الآخَرين ليسوا ضعافَ الناس ولا العبيد، فما في ذلك فضلٌ يُذْكَر، ولا مَجد يُؤْثَر، وإنَّما هم في حقيقتهم (أحرارٌ وأسياد).
وكذلك فإنَّ التاريخ حين سجَّل وقائع المجد لعاصمة الرشيد، فإنَّ هذا المجد لم يكن أمرًا عارِضًا، ولم يكن شيئًا عابِرًا طارئًا؛ وإنَّما أصبح المَجْدُ لديها معشوقًا، والعشق لا يكون عشقًا إلا مع الثَّبات والدَّوام الذي يشغل كلَّ الأوقات، والعشق ليس للآخرين نصيبٌ منه (لَم يبق حولَكِ للباقين أَمْجاد).
وإذا كانت الدُّنيا تأتي بالخير أحيانًا، فإنَّها في أحيانٍ أخرى تأتي بالشَّر، وأعني بذلك أنَّه قد يطرأ على المَجد والفخار ما لا يتَّفِق مع بريق المَجد ولمعان الفخار، وذلك أمرٌ يُعَدُّ سُنَّة من سنن الكون، وهي سُنَّة تُمَثِّل حقيقةً من الحقائق الَّتي أكَّدها القرآنُ الكريم في قول الله - عزَّ وجلَّ: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ (آل عمران: 140)، لكن ليس معنى التسليم بالحقيقة التسليمَ بِها أمرًا واقِعًا، ترضى به النَّفس، ويطمئنُّ إليه القلب، وتعنو له الجِباه، لكنَّه التسليم الذي يعني الاعترافَ بوجوده الذي يوجب الوقوف ضدَّه، والعملَ من أجل إزالته ومَحْوِه، مع ما يصحب ذلك من جهادٍ بالنَّفْس والنفيس، وبالمُهَج والأرواح، وهذا ما سجَّله الشاعر بالنسبة لعاصمة الرشيد (بغداد) عندما قُدِّر لها أن تقع أسيرةَ السجن، وأن تُغَلَّ بالقيود يومًا ما، فلقد كان لها مع القيود شأنٌ، وكان لها مع الأَسْر أمر، وهو شأن له ما بَعْدَه، وأمر كان من بعده الفجرُ الجديد، ذلك الفجر الذي تحطَّمَت معه القيود، وفُكَّ معه ما كان من أَسْر، وفتح معه ما كان موجودًا من سجون.
ويُطالعنا حول هذه الحقائقِ قولُ الشاعر:
حَتَّى إِذَا جَاءَ عَهْدُ القَيْدِ مَا انْخَفَضَتْ فِيكِ الْجِبَاهُ وَلَمْ يَهْزِمْكِ أَوْغَادُ بَلْ عِشْتِ فِي زَحْمَةِ الأَغْلاَلِ شَامِخَةً لاَ السِّجْنُ سِجْنٌ وَلاَ الأَصْفَادُ أَصْفَادُ فَالتِّبْرُ فِي القَبْرِ تِبْرٌ عَزَّ مَعْدِنُهُ وَالأُسْدُ فِي ظُلْمَةِ الأَقْفَاصِ آسَادُ |
فالشاعر يسجل موقِفَ (بغداد) مع الأحداث الطَّارئة، وهذه الأحداث تُمَثِّلها الكلمات (القيد - أوغاد - الأغلال - الأصفاد - القَبْر - ظلمة – الأقفاص)، وهي كلماتٌ تُلقي بظلالِها وإيحاءاتِها على الجوِّ المُحيط بها، وكلُّنا يعرف مأساةَ مَن تكون في يده القيود، ومن تكون في عنُقِه الأغلال، ومن تكون في قدَمَيه الأصفاد، ومن يُحبس في قَبْوٍ أشبه بالقَبْر، ومن تُحيط به ظلماتٌ لا يُبْصِر فيها شيئًا، ومن يسجن داخل أقفاصٍ من حديد يُحال بها بينه وبين حرِّية الحياة، ومع ذلك فماذا كان من بغداد مع كلِّ هذا؟
لم يكن إلا ما تقوله هذه الجمل: (ما انخفضَتْ فيك الجِباه - لَم يَهْزمك أوغادٌ - عِشْت في زحمة الأغلال شامخةً)، لقد عاشَت مع الأحداث عالية الرَّأس، موفورة الكرامة، ولم تنحنِ ذلاً وخنوعًا، ولم تنهزم روحًا ونفْسًا، ولم تضعف عزيمةً ولا إرادة، وعاشت في شموخٍ وسُموٍّ كما كانت تعيش من قبل دائمًا؛ لأنَّ الجوهر الخالص لا يتغيَّر أبدًا حيثما كان، وحيثما وُضِع، وهل يتغيَّر الذَّهَب إذا نُقِل من مكان نظيفٍ برَّاق إلى مكان كلُّه ترابٌ في تراب؟ وهل يزول عن الأسد جوهَرُ الأسد ومعناه إذا نُقِل من الغاب حيث مَملكَتُه، إلى داخل أقفاصٍ من حديد، يكون خلالَها مسلاةً للمتفرِّجين؟ لا، سوف يظَلُّ الذَّهب ذهبًا كما كان، وسوف يبقى الأسد أسدًا، كما كان من قَبل، ومن هنا جاء هذا القياس الذي جاء به الشَّاعر تأكيدًا لهذه الحقيقة:
فَالتِّبْرُ فِي القَبْرِ تِبْرٌ عَزَّ مَعْدِنُهُ وَالأُسْدُ فِي ظُلْمَةِ الأَقْفَاصِ آسَادُ |
وهو تأكيدٌ لتلك الحقيقة الخاصة بعاصمة الرشيد (بغداد):
بَلْ عِشْتِ فِي زَحْمَةِ الأَغْلاَلِ شَامِخَةً لاَ السِّجْنُ سِجْنٌ وَلاَ الأَصْفَادُ أَصْفَادُ |
ثم يقدِّم الشاعر بعد ذلك تفصيلاً لِمُفردات الموقف الأدبي الذي كان من (بغداد) في مواجهة الأحداث الجِسَام، وهو تفصيلٌ يقدِّم أمثلةً من البطولة، وأمثلةً من الجهاد، وأمثلة من قوة الصُّمود، مع ما كان من وراء ذلك من تكاليفَ باهظة، ومن خسائر فادحة، ومن أعباء ثِقَال، لكن ذلك كُله يهون في سبيل استرداد الحُرِّية، وفي سبيل إعادة العِزَّة والكرامة، وفي سبيل قهر ورَدِّ المعتدين الجبابرة، وعن تفصيل هذا الموقف يقول الشاعر:
وَالكُلُّ يَعْرِفُ كَمْ حَاوَلْتِ صَادِقَةً دَكَّ السُّجُونِ وَكَمْ هَدَّمْتِ مَا شَادُوا لَمْ يَثْنِ عَزْمَكِ أَعْدَاءٌ جَبَابِرَةٌ وَلَمْ يَرُدَّ خُطَى الأَحْرَارِ جَلاَّدُ وَلَمْ يَعُدَّ الضَّحَايَا وَهْيَ مَاضِيَةٌ كَالْمَوْجِ فِي مِهْرَجَانِ المَوْتِ عَدَّادُ وَكَمْ دَفَنْتِ شَبَابًا نَاضِرًا أَلِقًا أَيَّامُهُ البِيضُ أَحْلاَمٌ وَأَعْيَادُ وَخُضْتِ فِي الدَّمِ كَالطُّوفَانِ تَنْزِفُهُ مِنْ شَعْبِكِ الحُرِّ أَشْلاَءٌ وَأَكْبَادُ وَعِشْتِ فَوْقَ حِيَاضِ المَوْتِ مُزْهِرَةً كَأَنَّمَا المَوْتُ فِي دُنْيَاكِ مِيلاَدُ |
فإذا جئنا هنا إلى بيان تفاصيل ذلك الموقف الجهادي الأبِيِّ، فإنَّنا نشير إلى اختيار الشَّاعر لهذه الكلمات التي تُنْبِئ عمَّا وراءها من معانٍ كبيرة وعظيمة، وتلك الكلمات هي (دك - هدمت - الضَّحايا - مهرجان الموت - دفنت شبابًا - خضت في الدَّم - أشلاء - أكباد - حياض الموت)، وكلُّنا يعرف قوة من يدكُّ ويهدم، ويعرف جودَ وسخاء من يضحِّي بروحه، ويعرف إيثار من يُقدِّم زهرة الشباب فداءً للحرية، ويعرف شجاعة من يخوض في الدِّماء التي يَنْزفها دون رهب ولا وجل، مهما كان هناك من أشلاء ممزَّقة ومُبَعثرة، ومهما كان من أكبادٍ مقطَّعة ومفتَّتة، وكذلك يعرف كلُّنا مقدار إقدام وجرأة من يتَّخِذ من حياض الموت مورِدًا عذبًا يمدُّه بالحياة؛ تحقيقًا للمبدأ القائل: "اطلب الموت توهَبْ لك الحياة".
وفوق هذه الكلمات التي تُخْبِرنا عن الموقف الجهاديِّ الصادر ضد الأعداء، فإنَّ هناك من الكلمات والعبارات ما يُخْبِرنا عن الموقف الجهاديِّ إزاءَ ما يأتي من هؤلاء الأعداء، وقد اختار الشاعر من الكلمات ما ينبئ عن قوَّة وبأسِ هؤلاء الأعداء، حتَّى يكون النصرُ عليهم موضِعَ اعتزازٍ وافتخار، ومن هذه الكلمات (جبابرة – جلاد)، وكلُّنا يعرف صفة التجبُّر وما توحي به مِن صلَف وقسوة، وغلظة وجفاء، وبُعْدٍ عن الرحمة والرأفة، ويعرف كذلك معنى كلمة الجلاد، وما يؤدِّيه الجلاد من وظيفة الجلد بالسِّياط التي تُلْهِب الجلود، وتشوي الظُّهور، وتستدعي العويل والصُّراخ، ومع كل ما توحي به الكلماتُ هنا وهنا، فإنَّ موقف (بغداد) إزاءَ ذلك هو الموقفُ ذاته؛ لا خضوعَ ولا خنوع، ولا ضعف ولا انهزام، كما تعبِّر عن ذلك هذه الجمل:
لَمْ يَثْنِ عَزْمَكِ أَعْدَاءٌ جَبَابِرَةٌ وَلَمْ يَرُدَّ خُطَى الأَحْرَارِ جَلادُ |
ثُمَّ كان من وراء ذلك كلِّه هنا وهناك تلك الحياةُ الحيَّة المُزْهِرة، الناضرة المورقة، التي تعطي لِمَظاهر الموت معنًى آخَر غَيْرَ الذي يعرفه الناس، إنَّ هذا المعنى هو ميلاد الحياة، وهو بدايتها الحقيقية:
كَأَنَّمَا الْمَوْتُ فِي دُنْيَاكِ مِيلاَدُ
ومن الجوانب التفصيلية لكفاح (بغداد) وجهادها ضدَّ الطغاة الذين كان لهم شأنٌ فيها يومًا من الأيام - ما يعبِّر عنه الشاعر في قوله مخاطِبًا إيَّاها:
وَكَمْ سَخِرْتِ مِنَ الطَّاغِينَ فِي يَدِهِمْ حَوْلَ المَشَانِقِ أَحْبَالٌ وَأَعْوَادُ وَعَاشَ فَوْقَ لَظَى البُرْكَانِ حُكْمُهُمُ مَا قَرَّ يَوْمًا وَلَمْ تُثْبِتْهُ أَوْتَادُ حَتَّى تَحَرَّكَ فِي البُرْكَانِ ثَائِرُهُ فَزَلْزَلَ الحُكْمَ لَمْ تَنْفَعْهُ أَسْنَادُ |
هذا هو حال (بغداد) مع الطُّغاة؛ لا مُهادنة ولا استسلام، مهما كان لدى هؤلاء الطُّغاة من مشانق وأحبال وأعواد، إنَّها كانت معهم بركانًا ثائرًا فائرًا، لا يقرُّ لأحد فوقه ومعه قرارٌ، ولا تثبت له أوصالٌ وأقدام، ومن ثَمَّ فإنَّ مآلَ كلِّ طاغية إلى الزَّوال وإن طال الأمَد، وكيف يبقى فوق نارٍ مُوقَدة؟ أو كيف يستقر هادئًا مع رجفة الزِّلزال؟ إنه لا بقاء ولا استقرار؛ لأنَّه إذْ (زلزل الحُكْم لَم تنفَعْه أسناد).
ألاَ ما أشبه الليلة بالبارحة! وما أشبه اليومَ بالأمس البعيد! ما أشبه ما نراه اليومَ في بغداد بِما حدث في التاريخ البعيد! وقد أريدَ لها أن يعيش فيها غير أهلها، وأن يدير شأنَها الغُرباء الأجانب عنها! إنَّ الشاعر في أمسه البعيدِ يتناول هذا الأمرَ، ويَذكر أنَّه أمر مرفوضٌ ومستحيل، وكأنه في أمْسِه يتحدَّثُ عن (بغداد) في يومها الحاضر، ويذكر أنَّ مآلَ مثل هذا الأمر إلى إحداث فِتَن وإفسادٍ في البلاد، وسوف يظَلُّ الأمر سِجالاً بين الشَّعب وغُزَاته الغرباء.. وعن هذا الماضي الذي هو عين الحاضر يقول الشاعر:
إِنْ قَامَ حُكْمٌ لِغَيْرِ الشَّعْبِ مُسْتَنِدٌ هَيْهَاتَ تُفْنِيهِ أَحْلاَفٌ وَأَجْنَادُ وَكُلُّ حُكْمٍ لِغَيْرِ الشَّعْبِ مَرْجِعُهُ فَمُنْتَهَى أَمْرِهِ ظُلْمٌ وَإِفْسَادُ وَعَاشَ مَنْ حُكِمُوا فِيهِ وَمَنْ حَكَمُوا مَا عَاشَ تَحْتَ الدُّجَى صَيْدٌ وَصَيَّادُ |
إنَّ الحُكم من خلال الأجنبِيِّ حُكم قصيرُ الأجل، ضعيف البنيان، فمهما كان حولَه من حماية الأحلاف فإنَّه (هيهات تفيه أحلافٌ وأجناد)، ومهما كان من ادِّعاء الإصلاح والحكم بين الناس بالعَدل، فإنَّ النقيض من ذلك هو الواقع المنتظَر الذي تُثْبِته الأحداث؛ لأنَّ (منتهى أمره ظلمٌ وإفساد)، لماذا؟ لأنَّ العلاقة بين الشعب - حينئذٍ - وهؤلاء الحكام الذين يُفرَضون على الشعب فرضًا، هي علاقة الصّيد بالصّائد في الظّلام، فالصائد يتربّص بالصيد، وسوف يناله بالشرِّ إن وجَدَ إلى ذلك سبيلاً، والصيد من جانبِه سوف يكون على حذَر؛ بحيث لا يتمكّن منه الصائد، فأنّى تكون علاقة الرِّضا والوئام؟ إنَّ هذا هو المستحيلُ بعينه، كما قال الشاعر:
وَعَاشَ مَنْ حُكِمُوا فِيهِ وَمَنْ حَكَمُوا مَا عَاشَ تَحْتَ الدُّجَى صَيْدٌ وَصَيّادُ |
وفي ختام القصيدة يُشِيد الشَّاعر بأولئك الذين عَمِلوا على أن تعود لبغداد أَمْجادُها السالفة، وهي إشادةٌ يُمكن أن تكون أيضًا لأولئك الذين يعشون الآنَ أَجِنّة في بطون الحاضر والمستقبل، تلك الأجِنّة التي سوف تُولَد كاملة قبل ميلادها، والتي سوف يرسلها الله - عزّ وجلّ - لتردّ كيدَ العائثين في الأرض فسادًا، والذين يريدون أن يغيِّروا ويبدِّلوا في الحياة على الوجه الذي يريدون، وليس على النّحو الذي عليه أهل البلاد معتقِدون ويدينون، إنّ هذه الإشادةَ الماضية هي التي نرجو أن تَزِنَ إشادةً حاضرة بمن هو جديرٌ بِها في مستقبل الأيام:
وَجَاءَ قَصْرَكِ لَمّا ثَارَ فِي شَمَمٍ مِنْ شَعْبِكِ الْحُرِّ أَجْنَادٌ وَقُوّادُ فَكُّوا القُيُودَ فَهَبّ الشّعْبُ مُنْتَفِضًا لَهُ مِنَ البَحْرِ إِرْغَاءٌ وَإِزْبَادُ فَفِي البِلاَدِ جَمِيعًا ثَوْرَةٌ وَثَبَتْ وَلِلْمَلاَيِينَ إِبْرَاقٌ وَإِرْعَادُ وَلِلذِّئَابِ الأُلَى خَانُوا جَزَاؤُهُمُ مِنْ بَعْضِ مَا أَثِمُوا ظُلْمًا وَمَا كَادُوا |
فإنْ كان هذا عن الماضي الذي كان، فإنَّ غدًا لناظرِه قريب، وفي هذا الغد القريبِ موعِدٌ مع الأحرار من الأجناد والقواعد، وموعدٌ مع الشّعب الثائر المنتفِض، وموعد مع كلِّ شبر من الأرض، وقد نبَت بثورة الثّائرين، التي سوف تكون نارًا ذات (إبراقٍ وإرعاد)، وحينئذٍ ﴿ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ (الروم: 4 – 6).
ـــــــــــــــــــــ
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/34594/#ixzz3TDVaazKs