أفول نجم شيخ الشعراء التهامى
كتب  د.محمد مبارك البنداري ▪ بتاريخ 13/08/2015 14:20 ▪ تعليقات (4) ▪ طباعة  أرسل لصديق  أرسل لصديق 

العدد 50

عاش الشاعر محمد التهامي في صمت ورحل في صمت، لا يعشق الأضواء، ولا الدخول في معارك لا طائل منها إلا الفرقة والتناحر لأبناء الأمّة الواحدة ، ظلّ طوال حياته منافحًا ومدافعًا بلسانه عن اللغةِ والوطنِ والإسلام، فاستطاع بتواضعهِ الجمّ ولغته الباسقة أنْ يسكنَ قلوب محبي الشعر الفصيح، وهو الذي سخّر حياته لكتابة الشعر الفصيح.  

في يوم الأربعاء  18 من فبراير 2015م، توفى  أكبر شعراء العرب والمصريين، الشاعر محمد التهامى، بعد أن أتم عامه الخامس والتسعين منذ عشرة أيام، وقد يكون قارئ اليوم في حاجة إلى ترجمة موجزة للشاعر الكبير؛ فالتّهامي الذي ولد في العاشر من فبراير 1920م في قرية الدلاتون بمحافظة المنوفية ، كتب الشعر في مرحلة مبكرة من حياته ، ونشر ديوانه الأول حين كان طالبا بالمرحلة الثانوية ، تخرج التهامي في كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية 1947 م، وعمل بالمحاماة، ثم اتّجه إلى الصحافة، فعمل في صحيفة "الجمهورية" اليومية منذ صدورها عام 1953م، ثم التحق بإدارة الإعلام بجامعة الدول العربية بين عامي 1958م و1974م. وترأس بعثة الجامعة العربية في إسبانيا بين عامي 1974م و1979م، وظل مستشارًا لجامعة الدول العربية حتى إحالته إلى التّقاعد، وكان عضوًا في لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، وعضوًا في المجالس القومية المتخصّصة ورئيسًا لجمعية الأدباء.  

وللشاعر محمد التهامي الذي حافظ على شكل القصيدة العربية الأصيلة ثمانية دواوين تقريبًا  تتراوح بين الشعر الوطني والديني والقومي:  أغاني العاشقين، أغنيات لعشّاق الوطن، أشواق عربية، دماء العروبة على جدرانِ الكويت، يا إلهي، قطرات من رحيق العمر، أنا مسلم، قصائد مختارة، وله مؤلفان هما: جامعة الشعوب العربية والإسلامية، الإمام النورسى، شارك في غالبية المؤتمرات والمهرجانات الأدبية والشعرية في البلاد العربية والخارج ، وله عدة قصائد تدرّس في الوطن العربي.

نال التهامي جوائز مصرية آخرها جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1990م، وقبلها الميدالية الذهبية لشعر معركة بور سعيد 1956م، ومن خارج مصر حصل على جائزة الملك الحسن الثاني ملك المغرب عام 1993 م، وجائزة شاعر مكة "محمد حسن فقي" عام 2004م، وحصل على وسام القائد الأعظم من دولة باكستان 1999م، ويحمل وسامًا بدرجة فارس من حكومة إسبانيا، وكرمته إثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجه بجدة، وكرمه النادى الأدبى بالمدينة المنورة،  كما كرمته السفارة اليمنية بالقاهرة في أغسطس آب 2010م. وله موقف مشرف في محاربة الفكر الإرهابي خارج الوطن العربي؛ حيث وجد في كتاب التاريخ للمرحلة الثانوية في قرطبة – إسبانيا أن قواعد الإسلام خمس ، لكن القاعدة الثانية هي الجهاد في سبيل الله، ووجد تلميذًا كتب في هامش الكتاب: "المسلم متربص بك فاقتله قبل أن يقتلك"، ففزع في سفراء العرب وكان آنذاك مستشارًا لجامعة الدول العربية في سبعينيات القرن الماضي، وقدم مقترحًا تم قبوله بعد أن عقد لقاء إسلاميًّا مسيحيًّا في قرطبة، وتم التوصية بتصويب الأخطاء في مناهج التدريس الأوربية. ظلّ الشاعر محمد  التهامي لا يعرفه كثير من الناس بسبب تجاهل النقاد لشعره، خاصة وأن غالبية الأقلام الناقدة والإعلاميّة على الساحة آنذاك من أصحاب الأقلام الماركسيّة والعلمانيّة ، حتى كاد الأمر في كثير من الأحيان – كما قال- أن يدفعني إلى الاكتئاب. وربما يعود السبب إلى تأخره في نشر دواوينه الشعرية ؛ لأنه كان ينشر في الصحف والمجلات والإذاعة ، بيد أن  كبار العلماء في مصر ممن يعرفون قيمة الشعر الأصيل من أمثال د. إبراهيم مدكور (ت: 1996م)، والدكتور زكي نجيب محمود (ت: 1993م)،  والدكتور حسين مؤنس (ت: 1996م)، والدكتورة بنت الشاطئ  (ت: 1998م) عرفوا قدره وأسهموا في ترشيحه لجائزة الدولة التقديرية، وكتب عنه – أيضا - د.شوقي ضيف  (ت: 2005م) في جريدة الأخبار عند صدور ديواني "أشواق عربية"، وتناوله بالنقد اللاذع د. شكري عياد في مجلة "الهلال" عند حصوله على جائزة الدولة التقديرية، وتناوله أحد الباحثين في أطروحته للتخصص "الماجستير" في جامعة الأزهر. فالشعر- في نظر الشاعر محمد التهامى - ديوان العرب والمترجم الحقيقي عن أعماق الإنسان العربي، وخاصة أن عنصر الموسيقا فيه يلعب دورًا رئيسًا، ويميزه عن غيره من الشعر الأجنبي، ومن وجهة نظره أن  تراجع تأثير الشعر العربي المعاصر في الوجدان العام ما هو إلا نتيجة تصارع المدارس الشعرية المختلفة، منذ بدء حركة التجديد في الأربعينيات، ولو انشغلت كل مدرسة بالإبداع في مجالها، ولم تتصادم مع المدارس الأخرى، وتركت إبداعها لجمهور المتلقين يحكم له أو عليه لكان ذلك هو الطريق الأصوب للتطور الشعري، ولكن الصدام العنيف بين المدارس، جعل كل مدرسة تحاول النيل من الأخرى، وتحمل على انتاجها، مما شوّه الشعر عامة – كل الشعر – في وجدان المتلقين، وكان أن انصرف الجمهور – أو كاد – عن الشعر، وزاد الطين بلة – كما قال التهامي - ما لجأت إليه المدارس الجديدة من الغموض والإبهام، وقصر الشعر على الدوائر الضيقة ممن يحاولون الشعر، ولهذا انعزل الشعر الحديث عن القاعدة العريضة من الجماهير، وكاد يفقد القيادة. كان الشاعر محمد التهامي يرى أن الأدب الهادف الذي يعبر عن الكون والحياة لا يقتصر على المسلم إذ يقول: "الأدب الذي يصور الحياة المثلى، ولا ينحرف عن الطريق المستقيم ويبدعه غير المسلم يعتبر أدبًا محايدًا  يجب احترامه، أما الإبداع الذي يدعو إلى ما يشبه الحياة ويحيد بالبشرية عن الطريق السويّ الذي رسمته الرسالات السماوية، فهو أدبٌ مرفوضٌ وإن كان كاتبه مسلمًا".

وقد تفاعل التهامى مع قضايا وطنه وأمته الاجتماعية والسياسية، يقول مثلا في قصيدته الرائعة "صوت من المخيم" يدافع عن فلسطين، وكأنه يصف الأحداث الحالية التي حلّت بالأمّة الإسلامية:

أصبح القتلُ في حياتي طريقًا       ورفيقًا على الطريق وغايهْ

صار اسمي إذا ذُكِرتُ بأرضٍ      عن قتيلٍ بغير ذنْبٍ كنايهْ

حلَّ ذَبْحِي لكل مَنْ كان حتى       بالغوا فيه حِرْفَةً وهِوايهْ

غار أهْلي من العدا فتَبَارَوْا          ثم صاروا أشدَّ منهم نِكايهْ

وزَّع القتلَ في المخيم رهطٌ   كان في وَهْمِنا رسولَ العنايهْ

يَفْجَعُ القتلُ إن رَمَتْهُ يمينٌ            كنت في حضنها نشدْتُ الرعايهْ

عربدَ الغولُ حين أُوهم أنَّا    قد فقدنا غِطاءنا والوِقايهْ

وتولَّى من راحتينا سلاحٌ             وزَّعتْه الرياحُ في كل غَايهْ

وغدونا لكل غاوٍ متاعًا              يبتغيه ويستَطِيبُ الغِوايهْ

فانبرى يزعم الولاية فينا       حاسبًا أن يُدِيَر فينا الوصايهْ

فإذا العزمُ شامخٌ في حمانا   وله وَحْدَه تعزُّ الولايهْ

ذلك الكائنُ العجيب لشعب           قد بنَتْهُ الخطوب أعْتَى بنايهْ

كل طفل وطفلة فيه صَخْرٌ          مَنْبِتٌ في ذُرا فلسطينَ رايهْ

 * * *

رُوِّعَ الغولُ حين أدرك فينا    لكثير من الأعاجيبِ آيهْ

نحن والقَتْل كالمحبين ذابَا           في غرام ولوعةٍ وشِكايهْ

قد تمادى لقاؤُنا فائتلفنا             لا عزولٌ يصدُّنا أو وِشايهْ

كم سَعَى بيننا سُعَاةٌ كِثَارٌ            ثم ولت ولم تُعَقِّبْ سِعايهْ

إن ضللنا لقاءنا بعض يَوْمٍ          عاودتنا فجمَّعَتنا الهِدايهْ

 * * *

فانظروا فالحياة والموت فينا واحد، واشهدوا، كفاكم عمايهْ

ليس من مات راحلاً بل مقيمًا       مثل من عاش يستحث النهايهْ

كائنٌ قد تحارُ فيه البَرايَا             صامدٌ خالد يعيد الحكايهْ

 قد أذهلَ الهَوْلَ أننا لا نراه          بل نرى فيه ما استحق الزرايهْ

 حَيَّر الغولَ أننا قد كشفنا           أن هذا العواء بعض الدعايهْ

 أنبتَ القهرُ مخلبًا في يدينا         وسقى الناب بالسموم سِقايهْ

 لنذيقَ البعيدَ عنا عذابًا             ونُرَبِّى القريبَ منا رِبَايهْ

 قد أكلنا لحومهم حين جعنا        عطَّلً الشَّرْعُ في المجاعات آيهْ

 وسحقنا عظامهم وحفظْنَا           ها لنلقى لَدَى الحصارِ الكفايهْ

 ذاك بَعضٌ من الذي قَدَّمُوه        فعَلَى مَنْ جَنَى نَرُدُّ الجِنايهْ

 ونعيشُ الحياةَ طولاً وعرضًا       ليتم الرجوعُ هَذي الروايهْ

 وشعر التهامي معظمه قرائح من الحقيقة والخيال، يرتفع الشاعر حينا في جو التطور فيصور ما يجلوه له الخيال، ويغوص في أعماق النفس حينًا، فيرى ما يشعر به حسه، وما يناجي به ربّه، ويدرج حينا في عالم الحقائق المجرّدة فيصف شؤون الحياة كما هي جميلة أو شوهاء، سعيدة أو مبتسمة، مفترة الثغر أو مقطبة الجبين، ولما كان شاعرنا خبيرًا بأساليبِ النُّظم والنَّظم معًا، عليمًا بأسرار القوافي؛ فإنّ التعبير يجيئه في هذه المواقف الثلاثة طيّعا ويليه مؤديًا لما يريد.

  ولا أرى أحسن من كلام الشاعر محمد التهامي في نفي تهمة قصور الشعر الموزون المقفى عن وصف الحياة المعاصرة واليومية؛ إذ يقول في حواره مع مجلة أدبيّة:

 "أنا أوافقك على تسمية الشعر الخليلي الأصيل بالشعر التقليدي، كما أنّ الشعر الأصيل الذي يكرر المعاني القديمة والموضوعات المتكررة ليس شعرًا معاصرًا، وأن الشعر المعاصر الملتزم بأصول الشعر، هو الذي يجاري العصر، ويستشرف المستقبل، ويعانق الحياة الحيّة النابضة، سريعة الإيقاع، بكل ما فيها، ولا يستطيع الشاعر إلا أن يكون كذلك، وحرصًا على الوقت، والحيز المتاح، لا أجد ردًا على سؤالك، إلا بإيراد نماذج من شعري. منها مثلاً من قصيدة "إلى ولدي":

 أنا قادم لك يا بني وحق (ربك) لا تنمْ

لا تحرمنَّ أباك من فمك الشهي إذا ابتسمْ

 حلواك تلك أضمها في لهفة بيديّ ضمْ

 أسعى إليك، وكل خافقةٍ بجنبي تضطرمْ

 فلعلني ألقى صياحك يملأ الدنيا نغمْ

 فأطير من فرحي وأنسى الهم.. أنسى كلَّ همْ

 ولكم تعبتُ.. وكم شقيتُ، وكم شبعت من الألمْ

 وعلى نداك الحلو ترتاح الجراح وتلتئمْ.

 ويقول في قصيدته "الهاتف المحمول":

 دق من لوعته عن هواه معلنا

فاسمعي دقته إنه قلبي أنا

 طار من لهفته وأتى مستأذنا

فافتحي الباب له تلتقي أفواهنا

تلتقي آذاننا تلتقي أرواحنا

في عناق واشرحي الأشواق إنا قد غدونا وحدنا

 ذلك الساحر قد ألقى ستارا حولنا  

أغلق الأذان عنا وأضل الأعينا

 بيننا الواشون لكن فاتهم ما بيننا

  واطمئني إنه الساحر أخفى سرنا

 لا تسميني وقولي للذي يسعى بيننا

  إنها إحدى الصديقات التي لم تنسنا.

 والحقّ أنّ التهامي الشاعر المجدّد والمتزن، وخُلُقَه العام لا يختلفُ عن انطباعهِ السلوكي في الحياةِ، فلا فارقَ نجده بين شعره وشخصيته على الإطلاق، وبهذا الاتزان العاقل، كان التهامي أثيرًا لدى المجدّدين والمحافظين معًا، فهو لا يختار من الشعر الجديد غير الشعر المأنوس، الذي لا يوغل في الإبهام والغموض، ولا يحاكى من شعر التراث إلا ما كان صادق العاطفة، قوي النبض.

وفي الختام أقول: لعلي بذلك أدعو بعض النقاد إلى الاهتمام بالتهامي الشاعر، ليظهر في وضعه الممتد في دوحة الشعر العربي، وهو جدير بهذا الاهتمام.

ــــــــــــــــــــ 

 (مدونة أحمد طوسون: 2015/02/24 م)
Copy and WIN : http://bit.ly/copynwin


تعليقات القراء
لاتوجد تعليقات على هذا المقال الى اﻷن

علق برجاء التدقيق اللغوي لما يكتب