العدد 46
د.خالد فهمي
منذ زمان بعيد موغل في القدم، والخيل رمز شديد التعقيد، مُحمَّل بمعانٍ متراكبةٍ كثيرةٍ في كتاب الثقافة العربية، جاء الإسلام فزاد من نضارته، بما جعله مخزنًا يُكنز في جانبيه الخير المركَّز!
وهو منذ ذلك الزمان البعيد واحدٌ من أبطال القصيدة العربية، ومجلى هموم شعرائها، ومجلى انتصاراتهم وانكساراتهم وهمومهم معًا، ولم يكن قط - ولا في القراءات العابرة المسكينة- مجرد مركب النجاة.
واستمر الجواد بطلاً لا يغيب، يطلُّ من شرفة القصيدة العربية على امتداد التاريخ، فيكسوها بمعان كثيرة، ويمنحها بعضًا من جلال ومهابة وكبرياء وأنفة، صارت مع الزمان من لوازم دلالات معجم الخيل في الثقافة العربية.
وها هو ذا يعود من جديد في واحدة من القصائد المتميزة؛ ليكون شخص البطل فيها، على الرغم مما سكنه من رهق الرحلة، وكدِّ المسير، ويقف بنا الشاعر: محمد حافظ أمام صورة إنسانية يكسوها شيء من جلال تجمع عبر مسيرة العمر الطويل، وأنت تسمع أنين السنين يصنعه (وقع خطواته المتعبة)، ويعود بك إلى واحد من صناع ذلك الجلال، وهو صوت التاريخ تلمسه في هذه الرحلة الطويلة وأنت تلحظ: مر المدائن، وإثر المدائن بما خلفته وراءها من رؤى طيبة، وهو الأمر الذي سوف يفجِّر عما قليل
سؤال القصيدة: وأي شيء يكون ذلك الجواد المتعب؟! ربما يتراءى من خلف انسياب الوجوه من المدن المتكاثرة على امتداد الخريطة العامرة، وبما تراكم على جدار الزمان من بصمات الفوارس، وصيحات الضمائر، وصولات الفرسان، ودروب الهزائم، بعد ساحات الانتصار، ومن سؤالات الطرق، وبساتينها ورباها وعذابات المآذن خلال الزمن وهي ترنو إلى أحزان القرى المجدبة.
لقد صار الجواد غريبًا في زمان غريب، يفتش عن ماضيه الرطيب، عن (هلال توضأ) فزاد بهاءً وألقًاً، وعن سنا لا ينقطع تمده الشمس حينًا، وتواصل الكواكب إمداده بالضياء حينًا، وهو في زحام من نور لا يغيب! إن نجاح هذه القصيدة راجعٌ إلى مجموعة عوامل سكنت بنيتها، واستقرَّت في رحمها، وأظهرت نتائجها على صفحة أبياتها.
في القصيدة فكرة جليلة تفجر سؤالاتها عن سر هذا الوجود المتعب، وعن ماهيته وكنهه، وعما يرمز به في القصيدة ويمثله ويقف معادلاً موضوعيًّا كاشفًا عنه.
الجواد في القصيدة رمز مثقل بالمعاني، مكتنز بالدلالات، يراه القارئ مرةً في ذلك التاريخ الماجد الذي يزيِّن جسد هذه الأمة العريقة، وقد يدعم هذا الكشف معجم ممتد من حبات المدائن إثر المدائن، ومن ابتداء المسير من الشام حتى رُبى قرطبة، ومن بصمات جدران الزمن، وصيحان ضمائر الفضاء المتأرجحة من المشرق والمغرب، ومن امتداد أنوار الشمس وأنوار الكواكب، ومن أصوات المآذن المطلَّة على أحزان القرى المجدبة.
الجواد في القصيدة رمز مثقل بالمعاني، مكتنز بالدلالات، قد يراه قارئ القصيدة مرةً أخرى في حكمة هذه الأمة التي ترفض الغياب، ويؤرِّقها الهوان الذي يرين على جنبات الجغرافيا على امتداد الخريطة العربية، والحكمة معادل موضوعي لهذا الجواد المتعب الذي يتخفى خلف روح المآذن الصابرة والصامدة، وخلف هذا الهدى الذي يترقى مرتبةً من بعد مرتبة، وخلف هذا الطهر المتساقط من وضوء الهلال، ومن السنا الذي يضوِّي الآفاق بلا حجب مانعة، ومن خلف هذا الرفض الهادر للتكاسل الذي لم يكن يومًا من شيم أبناء هذه الأمة، والذي كان نقيضه هو المؤسس لعز الزمان.
الجواد في القصيدة جبل في المعاني، يرنو نحو النطق بكل جلال شعب عريق، حاز المفاخر، ويقف الزمان اليوم ينعى تراجعه، ويرقُّ لحاله، ويرثي لوهنه، ويتوق لانعتاقه من انكساراته وأوجاعه وآلامه.
في قصيدة "الجواد المتعب" لمحمد حافظ، شاعرية متدفقة متحققة من ملامح العصرية التي أتيحت للقصيدة عبر معجم جليل، شيَّع أجواء من الحزن الجليل، لا يبعث على اليأس بقدر ما يبعث على استنهاض الهمم، ونفض غبار الكسل، عودًا على بدء الأمجاد القديمة.
وقارئ القصيدة يلمح هذا المعنى من خلف القوائم المؤسسة لمعجم القصيدة كما يظهر في مفردات معجم النور، معجم الطبيعة النوعية التي انتشر في أرضها زهر البساتين والزيتون، وكما يظهر في معجم العراقة التاريخية التي تعانق عراقة الجغرافيا، وكما تعكسها ألفاظ روح الجلال المستمدّ من نوع الثقافة المنتشر في جسم القصيدة في (تسبح باسم الذي أنجبه)، وفي (موردك العذب يشكو ابتعادً)، وفي قول الشاعر: وصوت المآذن ما عاد يسرى يلملم حزن القرى المجدبة
وفي قوله: وأذكر حيث ابتداء المسير من الشام حتى ربى قرطبة
وفي قوله: وأمضي أسأل عن ساحة قطفنا لديها المنى المذهبة
بها بصمة في جدار الزما ن يزاحم منكبها منكبه
بها صيحة في ضمير الفضا ء أعادت لمشرقه مغربه
في قصيدة محمد حافظ "الجواد المتعب" صوت شاعر مبدع، يتقدم بالقصيدة الإسلامية إلى مدى واسع جدًّا يستحق التقدير والإشادة.
ـــــــــــــ
(*) (لها أو لاين 3/6/ 1435 هـ،الموافق 4/4/ 2014م)، وانظر القصيدة كاملة في قسم الشعر في هذا العدد 46.