العدد 46
«كانت تدور بيننا أحاديث جمّة، ومساجلات مستفيضة، حول ما أمضي به في مكابدة الحياة...
وكانت دائماً تلمس عمق اغترابي، وأنا في أهلي ووطني وشبابي..! فتحاورني في بعض وجهات نظري، وتحاول إقناعي بأنّ أبواب الغد السعيد، مفتوحة... تنتظر انطلاقي نحوها...
ومن عجبٍ، أن يكون حوارنا ذات ليلة وأنا نائم... وأن يطول... وأن أكون فيه المتكلم الوحيد..! أما هي، فكانت تعبر عن مرادها، بما ينطبع على قسمات وجهها من مشاعر... ثم بما لاح في عينيها من دموع... !
وهذا نقل شبه حرفي، لما قلته لها في رؤياي، سجَّلتُه فور يقظتي...
إنه ليس بشعر، ولكنه زاخر بالمشاعر...» :
أدركتْ... فبكتْ
لو تدركين يا أماه...
ما أعاني!
إنّ كل ذرة هباء...
تتراقص عبر شعاع ٍ
مِن أشعة الشمس...
في أية بقعة من الأرض...
كُتِب عليّ أن وُجدْتُ فيها...
لتثيرُ في جَنَبات نفسي...
أخيلة مريرة...
وتبعث في جَناني...
أمثلة من «حيوانية» البشر...
وانسلاخهم عن سمو «الإنسانية»!
أغمض عينيّ على مضض...
ضناً بالعزيمة في الحياة...
أن تهي...
وبالثقة في الناس...
أن تذوب...
ظاناً أنّ تلك الإغماضة الأسوانة
ستحجبُ عن ناظريّ...
جوانبَ من حياة «البشر»...
فضحها أمام عينيْ...
هباب الشمس المتماوج...
وإذ بي، حين أغمض...
لأسكن من نفسي
إلى ليل تهدأ فيه...
ينبعث من ثنيات فؤادي...
تيار من النور.. عجيب...
يتحول في السريرة...
إلى بصيرة...
ها أنا ذا أرى الآن...
بما في هذا النور...
من قوة نفوذ خارقة...
طوايا النفوس المخبوءة...
وتفاعلات الجسوم المستورة...
عارية... عارية...
فلا تلك الثياب الأنيقة...
ولا شذى الدهون والعطور...
يفوح من مفارق الشعور...
ولا هاتيك الابتسامة المنافقة...
وذيَاك الحنان الخادع...!
لا أرى... ويلاه...
غير صور بشعة...
تبرا منها إلى الله...
الحيوانات العجم...
فهذه مكائد البشر...
في طيات الأبخرة الكثيفة...
لجسومهم...
وهذه التماعات النهم...
مخبوءة في التفافات...
من النزوات.. والشهوات...
وهذه... وهذه...
هل تعجبين يا أماه...
إذا اشتدّ بي التقزز...
من الحياة!؟...
وعدْتُ لا أدري...
أيما الأمرين الأمرَّيْن...
أجدى وسيلة للنجاة...
من وخزات هذه المشاهدات...
أأن يختنق في جَنَبَات نفسي...
هذا الحس المرهف...
والوجدان الحي...
فأنقلب «حيواناً بشرياً»...
عاتياً... سعيداً...؟!
أم أن أعود عدماً...
بل تراباً مباركاً...
يغذو نبات الأرض...
وزهرَهُ العطر؟!...
وإذ أتذكر...
أنّ الحي خير من الميت...
والوجود أحجى من العدم...
يثور في أجزاء جبلـَتي وكياني...
عصيان.. وتعلق وفاء...
نحو حسي.. ووجداني..!
فأختار ما كتبه عليَّ القدر...
وأدركُ أنه لا بدَّ لي أن أعيش
مستوفياً أجلي...
ولكن...
لا عاتياً.. سعيداً...!
بل.. معذبا مجيداً...
ومجاهداً... شهيداً...!
ما هاتان... يا أماه...؟!
هل عبرتان مترددتان...
في عينيك الحادبتين؟؟!!
نعم...
لقد أدركتِ.. يا أماه...
ما أعاني...