تكوين الناقد المتميز
كتب  د.مصطفى عطية جمعة. ▪ بتاريخ 16/04/2015 09:01 ▪ تعليقات (0) ▪ طباعة  أرسل لصديق  أرسل لصديق 

العدد 46

       بداية، لابد من التأكيد على أن النقد موهبة، شأنها شأن الإبداع ذاته، والناقد الموهوب هو القادر على تذوق النص، ومن ثم سبر أغواره، حيث يرى بحاسته النقدية ما لا يراه المبدعون وإن تعددوا، ولا المتلقون وإن علت ذائقتهم.

     و"الناقد المتميز" يكون متعدد التكوين والروافد، نعني به الناقد الذي يجمع ما بين التخصص في الأدب، والتخصص في مجال آخر، مثل علم النفس، علم الاجتماع، علم الحضارات، الأنثروبولوجيا، الفلسفة، التاريخ وغير ذلك. وربما يتعجب البعض من هذه الدعوة، إلا أننا نؤكد على أهميتها لاعتبارات عديدة:

أولها: إن الأدب تعبير عن الحياة والعديد من العلوم والفنون والمجالات، وكما أن هناك مداخل ومناهج عديدة لدراسة الأدب، مثل المنهج النفسي، المنهج الاجتماعي، المنهج الحضاري..، فإننا نحتاج إلى ناقد يجمع بين التخصصين، مثل: الأدب وعلوم الحضارات ليدرس التفسير الحضاري للأدب، والأدب والفلسفة ليدرس قضايا فلسفة الجمال في الأدب، وهكذا.

    ثانيها: إن هذه الظاهرة كانت ولازالت موجودة، وكثير من النقاد المتميزين جمعوا بين أكثر من مجال، وبرعوا فيها معا، ومن أبرزهم: مصري حنورة، في دراسات علم نفس الأدب، وعبد الوهاب المسيري الذي تخصص في الاجتماع والفلسفة، ناهيك عن تمكنه في مناهج نقدية كثيرة وعديدة، بجانب بحوثه الفكرية القيمة، وأيضا أسامة أبو طالب، الذي قدّم أطروحته في الدكتوراه عن المسرح وفق علم الأنثروبولوجي، بعدما تخصص فيه.

    وقد جاءت مختلف الدراسات التي أبدعها مثل هؤلاء جامعة ما بين التمكن العلمي في التخصصين، والعمق البحثي، مما جعل هذه الأبحاث ذات إضافة علمية وإبداعية في وقت واحد.

ثالثها: إن هناك علوما موجودة بالفعل، تمثل مشتركات بين الأدب وبين علوم أخرى مثل: فلسفة الجمال في الأدب والفنون، علم اجتماع الأدب، وعلم نفس الأدب، والمنهج الحضاري في الأدب، بالإضافة إلى مناهج نقدية راسخة مثل: المنهج التاريخي، المنهج الاجتماعي، المنهج الأسطوري.

    وتكون القضية الآن في إيجاد هؤلاء النقاد المتخصصين، الذين يبدعون ضمن هذه العلوم، فلا يكفي أن نستعرضها، وإنما لابد من وجود دراسات جادة في إطارها

رابعها: إن المشكلة الكبرى عندما يتصدى ناقد أو باحث أدبي مستعينا بأحد العلوم الأخرى في تفسير الأدب ونقده، فإنه يكون مفتقدا للتكوين العلمي والمعرفي في العلم الآخر، فيظهر لديه قصور بحثي وتفسيري ومنهجي خلال تطبيقاته، وتكون الدراسة أقرب إلى الأدب منها إلى العلم المشترك بين الأدب وغيره.

خامسها: تتيح هذه العلوم البينية، بين الأدب والعلوم الأخرى، أوجها جديدة في استكشاف مناطق جديدة في الآداب. فمثلا: التفسير الحضاري للأدب، يتيح قراءة الأدب بشكل كلي أو جزئي ضمن البنية الحضارية للمجتمع الذي أنتجه. كما يتيح لنا المنهج التاريخي أن نقارن بين الأحداث أو الشخصيات التاريخية الحقيقية في كتب المؤرخين , وكيف تناولها الأدباء في أعمالهم الإبداعية.

    وسنتناول بشكل أكثر تفصيلا منهجين في هذا الشأن، وهما المنهج النفسي والنقد الاجتماعي.

النقد النفسي: على الرغم من كثرة الدراسات النقدية المتخصصة، إلا أن هناك ندرة في الدراسات النقدية المرتكزة على المدخل النفسي، وربما يعود هذا إلى احتياج هذا المنهج إلى باحث ذي خلفية متينة في علوم النفس، وأيضا على دراية معمقة بالأدب.

  ويعد المنهج النفسي أحد المناهج المهمة في البحث النقدي المعاصر، ولا غنى عن طروحاته ولا نتائجه، وهو يتمحور في ثلاثة أبعاد: الأول: الجوانب النفسية في النص من مشاعر وأحاسيس وصدق فني، وما يتصل بها من صراعات في الشخصيات في الدراما والقص. الثاني: علاقة الأديب بنصه، وانعكاس الحياة الشخصية للمبدع على إبداعه. الثالث: المراحل النفسية لتشكل النص الإبداعي حتى اكتماله.

   والناظر لهذه الأبعاد، يجد أننا في حاجة لها، وتسد نقصا في قراءة النصوص، فلا يمكن فهم شعر أبي العلاء المعري ولا المتنبي بمعزل عن شخصياتهم وعصرهم وتقلبات حياتهم، ونفس الأمر في الدراسة النفسية للروايات والمسرح، فلها أكبر الأثر في فهم دلالتها، وكذلك في الشعر، فإن الوجدان حاضر في تكوين النص وفي فهم تراكيبه ودلالات أخيلته ومفرداته.

    وفي هذا الإطار، فإننا لا نريد دراسات تغرقنا في المصطلحات النفسية، بقدر ما نستخدم علم النفس وأبعاده في تفسير العمل الأدبي، إضاءة الجوانب النفسية للشخصيات والأحداث، فالخطاب المتولد في النهاية هو خطاب نقدي، أي يعنى بالتفسير النفسي للأدب، وليس خطابا ضمن دائرة علم النفس المجرد. لذا، تأتي أهمية الجمع بين دراسة العلمين، والتخصص فيهما: الأدب وعلم النفس، ليكون التأسيس العلمي للباحث / الناقد قويا، وفاعلا، دون أن يطغى علم على آخر، على أن يضع الباحث في حسبانه أنه باحث أدبي تخصص في النقد النفسي.

النقد الاجتماعي:

    يشكل النقد الاجتماعي منهجا نقديا مهما، لأن الأدب انعكاس للحياة، والحياة منعكسة على الأدب، لذا، فإن تعبير " الأدب مرآة للمجتمع " في محله. وهذا الأمر يثير قضية مهمة، راجت في الكتابات الحداثية، وفهمها بعض المبدعين بشكل خاطئ، وهي أن الأديب يرتفع عن مجتمعه المحلي، ويحلّق في آفاق العالمية والإنسانية الرحبة، دون أن يتقيد ببيئة ما، أي الكتابة في المطلق. فرأينا نصوصا ممعنة في النخبوية، متشابهة رغم اختلاف مبدعيها، مكررة المعاني والأفكار، وضاعت في سبيل ذلك خصوصية المجتمع وماعت الثقافات.

    ويفجر النقد الاجتماعي الكثير من القضايا الاجتماعية والمجتمعية التي عبر عنها الأدب، في العصر الحاضر أو في العصور السابقة، بل يعدّ الأدب سجلا اجتماعيا حافلا بالكثير على مر تاريخه. ومن هنا، يقدم الأدب نماذج اجتماعية، قد لا يعرضها المؤرخون ولا علماء الاجتماع بشكل معمق، لأن الأدب – في كافة أشكاله – يكون معنيا بالتركيز على الشخصيات والأحداث الاجتماعية، وهذه ما يشير إليها المؤرخ لماما، ولا يتناولها عالم الاجتماع تفصيلا.

فيجب على الناقد أن يدرس المجتمع المعَبَّر عنه، ثقافيا واجتماعيا، وهو يدرس النص الإبداعي نفسه، فلا يمكن مثلا فهم النصوص الإبداعية للخوارج أو المرجئة أو الدروز أو الأكراد أو الأمازيغ، دون درس مجتمعهم بعناية، كي يستطيع إضاءة الكثير من النقاط والأمور في النصوص المدروسة، وإلا كانت الدراسة جوفاء.

     مما يعيدنا إلى الطرح الأساسي الذي تقدم، عن أهمية الناقد متعدد التكوين في أكثر من علم، حتى لا يصبح الأمر بالنسبة إليه مجرد بحث لهاوٍ وليس لمتخصص جمع العلمين، وطمح إلى الإضافة المعرفية من خلال هذا المزج العلمي.

    كما أنه يعمق ما ننادي به دائما، من دائرية المعرفة، والنقد والأدب معا يعبران عن هذه الدائرية خير تعبير، فالأدب منتوج لعلوم عديدة، مثلما أن النقد التقاء لعلوم كثيرة، وما بين هذا وذاك، فإن الأديب والناقد – كليهما – مطالبان بهذه الدائرية، على مستوى التكوين والتثاقف والإنتاج الإبداعي والنقدي.

    فقد سئمنا كثيرا من ظاهرة "الناقد الطوّاف"، أي الذي يطوف بمناهج عديدة، يعرضها، ويروّج لها، وينادي بها، ونكتشف أن الأمر في نهايته ما هو إلا صيحة لشهرة أكثر من كونها سبيلا لعرض مناهج جديدة، لأن الناقد يكتفي بالنقل والاقتباس والترجمة لما يعرضه، وعندما يطالب بالتطبيق، فإن دراساته تكون هزيلة، خصوصا إذا كان ينادي بعلم من العلوم البينية.

     وفي الجامعات الغربية، فإن من يريد التصدي للبحث في علم بيني، يكون لزاما عليه أن يحصل على شهادات في العلم المراد، أي ينتظم في الدراسة، ويتلقى العلم فيها، وتكون الشهادة المتحصل عليها جزءا من أوراق اعتماده لاستكمال طروحته الأكاديمية. فحري بنا أن نكون مثلهم، وحري بنا أن نحرص على التكوين الدقيق والعميق والمتعدد للناقد الأدبي، ولدينا مثال حي على ذلك وهو الناقد الألمعي محمد مندور، الذي تحصل على شهادات عديدة خلال دراسته في فرنسا، ساهمت في تشكيل شخصيته البحثية والنقدية، مما جعله من أفضل النقاد العرب في العصر الحديث، والأمر نفسه مع إداورد سعيد، الذي دخل إلى مجالات معرفية جديدة، من بوابة النقد الأدبي، فقد أحدث ثورة في المنهجية التاريخية عبر كتابه الشهير "الاستشراق"، وأسس فيه لميدان بحثي في العلوم الإنسانية، سُمّي بالتاريخانية الجديدة، وله دراسات قيمة في ميادين الفكر والسياسة والفلسفة. وهو ما نجده عند إيهاب حسن، الناقد الأمريكي، المصري الأصل، الذي خاض غمار الفلسفة، من بوابة النقد، خصوصا في فلسفة ما بعد الحداثة.

التكوين الصلب للناقد:

     إن القضية في النهاية قضية التكوين الصلب للناقد، في مواجهة التكوين المتعجل أو عدم اكتمال التكوين من أساسه والذي يلقي بظلاله على ساحتنا الثقافية، وهي ليست ظلالا بقدر ما هي آثار وخيمة في آثارها ونتائجها.

   ونعني بالتكوين الصلب الروافد والعلوم التي درسها الناقد، قبل أن يخوض غمار النقد، وأساسها: العلوم اللغوية، والبلاغة، وكتب التراث، وتاريخ الأدب، والعلوم الشرعية بوصفها المكون الأساسي للثقافة العربية، وهذه نسميها "العلوم المؤسسة"، وهناك "العلوم المنهجية" وهي المتصلة بالمناهج النقدية المختلفة، الأصولية والحداثية وما بعد الحداثية، وبالطبع لا يمكن أن يجيدها الناقد كلها، وإنما الإلمام بها مهم، والإحاطة بطرائقها أهم، على أن يرتكز على منهجين أو ثلاثة، يختبر عبرهما – في قراءاته النصية – فرضياتها، ومن ثم يذهب إلى غيرها من المناهج، فلا معنى أن يظل يقرأ النصوص بنفس الأدوات التي ابتدأ بها حياته النقدية، ويتجمد عندها، ومن ثم يهاجم الجديد الذي لم يستوعبه.

     فلا معنى لناقد يتحدث دون منهجية، مستندا على قدرته الحوارية وطلاقته اللغوية، مثلما لا معنى لناقد لم يتأسس علميا و لغويا وأدبيا وبلاغيا.

    وهناك أيضا "العلوم المؤطرة" أي تكون أطرا تحيط بثقافة الناقد، وأعني بها الفلسفات والتاريخ والأفكار وتاريخ الأفكار، والعلوم السياسية والاجتماعية، وهي علوم عامة، يتم تحصيلها من باب الثقافة العامة، وتكون خلفية مرجعية للناقد، عند قراءاته النقدية، فالأدب معبر عن الحياة بكل أفكارها وتفاعلاتها وتاريخها وحضاراتها وأساطيرها ودياناتها.

   وأخيرا، لاشك أن النقاد يتفاوتون في تكوينهم، مثلما يتفاوتون في طروحاتهم وقراءاتهم، وعندما نتحدث، فإننا نتحدث عن الناقد النموذج، وهذا لا ينفي ولا يقلل من جهود ولا شخصيات النقاد المنتشرين على قلّتهم. 

 

تعليقات القراء
لاتوجد تعليقات على هذا المقال الى اﻷن

علق برجاء التدقيق اللغوي لما يكتب