العدد 46
إذا ذكر الأدب المهجري بصدق تجربته وحرارة المعاناة ورقة المشاعر فإن الأم تشغل مساحة واسعة منه إلى جانب الوطن. هذه الأم التي فارقها أولادها على مرأى من عينيها، تبصر فلذات أكبادها يركبْنَ المجهول وراء طموحات لم تكنْ تدركها. لقد بقيتْ صورتها معلَّقةً في أذهان الشعراء المغتربين. ولا يخلو ديوان شاعر من قصائد لها، إن لم يخصَّها بالقصيدة، فإنك تراها في كلِّ موضوع من موضوعات القصيدة. والحديث عن الأم ومكانتها ليس بحاجة لإثبات أو دليل. فالأقلام تعجز عن الوفاء لها، وكذلك القلب واللسان يعجزان عن إعطائها حقَّها ولو قليلاً من فضلها. فلا غرابة أن يتعلَّق بها الإنسان وخاصة في الظروف القاسية والأيام العصيبة، حيث يجد المرء نفسه بحاجة لمن يواسيه في شدته ويؤانسه في غربته. عندها تُسْتَحْضَرُ كلماتها ونصائحها، وترتسم تلويحة يديها ومساكب دموعها. فالحنين إلى الأم والوطن عامل مشترك بين أدباء المهجر على مختلف ميولهم وتجاربهم قدَّموه لنا عن قرب وعن معاناة. فالشاعر إلياس فرحات ينسج اليأس وهو يحادث أمَّه في قصيدته يا أمي : قطع البريدُ عليَّ حلمَ لقاكِ ونفى السرورَ إليَّ حين نعاك وارحمتا لبنيك حوَّلتِ النوى أهدابَ أعينهمْ إلى أشواك إلى أن يقولَ لها متحسِّراً متألِّماً: لهفي عليه مضى بداءِ حنينه وبقيتِ صابرةً على بلواك إن كان أهلكه الفراقُ فإنَّما أملُ اللقاءِ هو الذي أبقاكِ أنفقتِ عمرَكِ ترقبين رجوعَنا وتجوسُ كلَّ سفينةٍ عيناكِ أماه ! ليس على الغريب ملامةٌ بعض الذي يدهى الغريب دهاكِ في الأبيات لوعة ووفاء دفين وألم متأجِّجٌ، وهذا أمرٌ طبيعي. فالقروي له قصيدة رائعة بعنوان "حضن الأم " وهي نجوى عميقة من شاعرٍ عُرِفَ بحنينه المتوقِّدِ للوطن ولم يستطع فراقه، فقد عاد إليه ليموت، وهو القائل: بنتَ العروبةِ هيِّئي كفني أنا عائد لأموت في وطني في قصيدةِ حضن الأم يخاطب أمه، بل وطنه: أتـيتُكِ راجيَا نقلي لحضنِ أحبُّ إليَّ من نفسي وأكرم لحضنٍ طالما قد نمتُ فيه قريرَ العين بين الضمِّ والشَّمِّ أما ألقَيْتَ رأسَك فوق صدرٍ حنونٍ خافقٍ بمحبَّةِ الأمِّ فـدعني من نعيم الخلد إنِّي نعيمي بين ذاك الصدرِ والفمِ في كلِّ نفخةٍ شعريةٍ معاناة ومكابدة، وفي كلِّ قصيدة صورة مرَّةٌ مغموسة بالأسى والخيبة. ونبقى بصحبة القروي ملخصاً مرارة التجربة وحرقة اللوعة: ولو عصفَتْ رياحُ الهمِّ عصفا ولو قصفَتْ رعودُ الموتِ قصفا ففي أذنيَّ عند النزعِ صوتٌ يحوِّلُ لي عزيف الجنِّ عزفا فيطربني وذلك صوت أمي تكاد الموضوعات تكون واحدة. وهذا أمرٌ عاديٌّ لأن التجربة من مصدر واحد ومنهلٍ واحد. ولكن لكلِّ شاعر أسلوبه الخاص و فنِّيَّاته التي يستخدمها. ولكن المنهل الشعوريَّ واحد وهو الصدق. فرياض معلوف أحد ثلاثة أشقاء شعراء مغتربين، وكانوا سعداء الحال، ولكن منغِّصَات الغربة تكوي فؤادهم: قـدَّسْتُ اِسمكِ إيهِ أمي يا مَنْ حمَلْتِ العمرَ همِّي كلَّ العواطفِ دون عطـــــفكِ كلّها وهمُ بوهمِ إلا عـواطفك النبيـــــــلةُ نزِّهتْ عن كلِّ ذمِّ وإذا تـعلَّمْتُ الحقيقة بالــــحقيقة منكِ عـلمي إنه العرفان بالجميل، والإقرار بالفضل لمن وفت وأعطت. إنها الموازنة التي تطفو فيها كفة الأم، وترجح على كلِّ الموازين. وأذكر تلك القصيدة المؤثرة للشاعر "عقل الله الجر" في الأم. هذا الشاعر الذي استحضر لحظات الطفولة بدقة متناهية وبحساسية شفافة، تلامِسُ شغاف قلوبنا بكلِّ تفصيلاتها: ذكرْتُ ولكنْ كحلمِ الكرى أموراً تقضَّتْ زمان الصغرْ غداةَ أدبُّ دبيبَ النمال وحولي تدبُّ ظروف القدر أتعتِعُ لا مفصحاً كلمةً فتحسبُ أمِّي كلامي دُرَرْ وأبكي فيضجر بي والدي وليس يلمُّ بأمِّي الضجرْ فتُلْهِبُ خدِّي مِنْ لثمها وتمسَحُ من أدمعي ما انحدرْ بهذه البساطة والعفوية يستحضر الشاعر ذكرياته، ثمَّ يعرِّجُ بنا على الحاضر بعد أن كبر وازدادت همومه: ودار الزمان بأحداثِهِ ومرَّ على عقدنا فانتثرْ وجرَّدَ أميَ مني كما تجرِّدُ كفُّ الخريف الشجر ومنهم من لاحظ دموعها الحزينة يغسل بها ويعقِّمُ غربته القاسية. تصوَّر دموعها عن بعد وهي تسهر الليالي، تخاطب النجوم وترعاها. كما يقول الشاعر إلياس عبد الله طعمة: وأقتل ما ألقى من البينِ أنَّ لي هنالك أمّا ضائعاً ومعُها الغالي أمام نجوم الليل تقرَعُ صدرها وللموج في الظلماءِ رنَّةُ إعوالِ أتبكي لأجلي بنت أشرف قومها وتضحك مني في النوى نبتُ زبَّالِ كان طيف الأم يلاحقهم في كلِّ خطواتهم وكلِّ مجالسهم. وإنَّ حبَّهم الفطريَّ وحياتهم العفوية وطبيعتهم الشرقية جعلتهم يتصوَّرون أمهاتهم ساهرات راعيات للنجومِ، ومراقبات للسفن لعلَّها تحمل شيئاً من رائحة الأولاد. فلا غرابَة من مناجاتهم القمر والنسيم، فالشاعر أمين مشرق الذي تغرَّب في "الأكوادور" يلامِسُ مشاعرنا بهذه الأبيات الحالمة: يا نسمة الصبحِ لامسيها وبرِّدي قلبي الحزين يا نسمة الصبحِ قبِّليها في الخدِّ عني وفي الجبين أماه بالله ما دهاك وما دهى إخوتي الصغار هل أوقعتهم يدُ الهلاك ما بين نارٍ وبين عار وكثيراً ما تمثَّل الشعراء لحظة الوداع والسفر بقسوتها ومرارتها، وكثيراً ما خاطبوا المراكب التي نقلتهم عساها تردهم إلى أمهاتهم؟ فشفيق معلوف يقول: شراعٌ مدَّ فوق الموج عنقا وراح يرود خلف الأفق أفقا يقلُّ فتى تبدَّى الشطُّ جهماً له فأشاحَ عنه الوجه طلقا وغادر عند صخر الشطِّ أمّاً كأنَّ لعينها في البحرِ عرقا فما نضبتْ لمقلتها دموعٌ تذوبُ إليه تحنانا وشوقا ترى هلْ آبَ من سفرٍ شراعٌ ولم تشبعه تقبيلاً ونشقا لا يمكن أن يلامسَ هذه اللحظة إلا محترقٌ وشاعر معا. وربما هذا الاحتراق يجعل من صاحبه شاعراً، كما يبدو لنا في الأبيات السابقة. وفي البال تلك القصيدة التي رثى فيها الشاعر "عقل الجر" أخاه شكر الله، وقد أخفى عن أمِّهِ نبأ وفاته وهي ترقب عودته: ماذا أقولُ لقلب أمي الواله المتوجِّد ما انفكَّ طيفكَ نصبَ عينيها يروحُ ويغتدي وتكاد تسمع وشوشاتك في الصدى المتردِّدِ يا باذل الوعد السخيِّ لها بعودٍ أحمدِ والموتُ يضحك من وعودك خلف بابٍ موصدِ ما زلتُ أكذبها بأنَك في نعيم أرغدِ أمَّا إلياس فرحات فيعبِّرُ عن معاناة الأم التي تكابدُ الوحشة والانفراد: أشقى النساء على الثرى أمٌّ قضتْ أيَّامَها في وحدة النسَّاك أبناؤها ملؤوا البيوتَ وبيتها خالٍ من الحُدَّاث والضُّحَّاكِ حسبُ المهاجر لوعة أنَّ الأسى يقضي عليه ولا يرى مثواك. |
|
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(حلب، جريدة الجماهير، ثقافة، الأحد 20-3- 2011 م)
اين شرح القصيدة