العدد 46
سبحان الذي خلق الإنسان، علَّمه البيان، كيف يفكر، يجسد ويشخص المجرَّد من وجدانه في قوالب لغوية تكشف عنه أمام العيون الرائية. اللغة وعاء حامل للفكر، وللشعور، ولأنها كذلك فقد قيل عنها: إنها كائن حي. لماذا؟ لأنها انعكاس لهوية الإنسان، فما هذا المخلوق إلا عقل وقلب، أي فكر وعاطفة؛ لذا كان من البَدَهي أن يعلق نبينا صلى الله عليه وسلم على قصيدة كعب بن زهير التي جاء يعتذر له فيها عن سلوك كان في حقبة الكفر التي قدر الله لها أن تتبدد بنور الهدى والإيمان؛ لقد قال صلى الله عليه وسلم قولة شهيرة ما تزال تمنح للكلمة الشاعرة المربية قيمة تحيا بها عبر الزمن: " إن من البيان لسحرا" و"إن من الشعر لحكمة". فإذا كان الناس يكبون على مناخيرهم في النار بحصائد ألسنتهم؛ إذًا يمكن القول: إن الكلم الطيب الذي تدفعه نية يرضى عنها الله، يورد صاحبه موارد النجاة ومراتب السعادة.
وكعب بن زهير شاعر مخضرم عاش الجاهلية بقوانينها، فإذا ما جاء الإسلام كانت له كبوة جعلت من مكوثه على الكفر حالا سلبيا بقي عليه سنين حتى بعد أن فتح الله لنبيه مكة، وخرج بعدها إلى الطائف غازيا، لم يتحرك قلبه لنور الإسلام إلا بعد أن خاطبه أخوه بجير بن زهير يدعوه إلى الإسلام. والاثنان: الأخ المسلم، والثاني الذي لم يشأ الله له إيمانا بعد ولدا الشاعر الفحل زهير بن أبي سلمى، من قبيلة مزينة، وقد علمهما كيف يقرضان الشعر؛ فكانت النتيجة شهرة تُرضي غرور المبدع الباحث عن الحضور والانتشار والمكانة، لكن هذا الانتشار بالكلمة الشاعرة كان عند كعب ذا وجهين:
الأول: جاهلي ظهر واضحا بعد خروج دعوة الإسلام إلى النور بقصائد يعلن فيها الحرب بالكلمة على الدين ومتبعيه.
الثاني: مسلم يتجلى نوره ساطعا في قصيدته التي جاء بها معتذرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بعد الفتح في العام الثامن للهجرة.
والرحلة في بانت سعاد تكشف عن أمور عديدة:
الأول: كونها تقوم على غرض شعري تقليدي معروف منذ النابغة الذبياني في عصر ما قبل الإسلام، ألا وهو غرض الاعتذار.
الثاني: ارتباطها الوثيق بكثير من قوانين القصيدة العربية التي جرت مجراها منذ القديم، ومن ذلك بدايتها الطللية:
بانت سعادُ فقلبي اليوم متبولُ == متيَّمٌ إِثْرَها لمْ يُفد مكبولُ
الثالث: هذا اللقاء بالتاريخ الذي يقيمه كعب في داخل عالمه الشعري، يبدو ذلك في تقاطع "بانت سعاد" مع محطات مرت على النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة بعثته ودعوته وهجرته، إنها تلتقي مع سيرته صلى الله عليه وسلم بطريقة تعتمد ما يسمى في علم السرديات (الاسترجاع/Flashback)؛ ولأن الشعر بوصفه فناً فإن معانقته لما هو تاريخي لا تأتي على وفق الترتيب الزمني له كما جرى في عالم الحقيقة والواقع، إنما تأتي عبر منطق تداخلي ينسجم وروح الشعر عموما المؤسسة على آلية التداعي بناءً على حوار الذات الشاعرة مع نفسها، وما يمليه عليها خاطرها، وترتضيه اللغة التي تتشكل في القصيدة.
ففي رحلة النبي صلى الله عليه وسلم مع الدعوة والنبوة: البعث، والهجرة، ونصرة الأنصار، والغزوات، وهزيمة الشرك وأهله.
إننا أمام خطاب من "أنا" متكلمة إلى مخاطب مستمع، هو النبي صلى الله عليه وسلم، اتساقا مع الحال القائم خارج القصيدة؛ لقد جاء كعب إليه صلى الله عليه وسلم ليظهر الإيمان ومعه الاعتذار وجها لوجه؛ ومن ثم فإن حضور ضمير الخطاب في داخل نص القصيدة يبدو مبررًا إلى حد كبير بالنظر إلى التجربة الشعورية، وسيرة الشاعر والمرحلة التي شهدت ظهور مُنتجه الشعري إلى النور؛ إذًا يمكن القول: إن الاعتذار؛ بوصفه غرضا ومعنى هو بمثابة رحم حاضن لما هو تاريخي يتعلق بالسيرة النبوية؛ لذا نقف عند هذا البيت ثم ننطلق منه:
أُنْبِئْتُ أن رسولَ الله أوْعدني == والعفوُ عند رسولِ الله مأمولُ
فمن هذا القريب زمنا، أي وعيد النبي صلى الله عليه وسلم ونية كعب في الاعتراف بالخطأ بالاعتذار نتوقف عند بعثته عليه الصلاة والسلام ونبوته وتكذيب قومه له:
إن الرسولَ لنورٌ يُسْتَضَاءُ به == مُهَنَّدٌ مِنْ سيوفِ اللهِ مَسْلُولُ
إننا هاهنا أمام مزية تمنح لعالم الفن خصوصيته؛ إنه يختزل المفصل الواقعي على اتساعه في أقل عدد ممكن من الكلمات في تكثيف يدفع الوعي المتلقي إلى الرحيل خارجه للبحث عن التفصيلات المتصلة بهذا المجمل الفني؛ ففي هذا البيت علامات لغوية على جوانب تاريخية عديدة: البعث، النبوة، الغزوات التي يكشف عنها قوله "مهند من سيوف الله مسلول".
ثم يأخذنا كعب في بيتٍ تالٍ إلى دعوته صلى الله عليه وسلم في الحقبة المكية، وتكذيب قريش له الذي انتهى به إلى حدث الهجرة:
في عُصبةٍ من قُريْشٍ قال قائلهم == ببطن مكةَ لمَّا أسلموا زولوا
إن هذا المشهد يأخذنا إلى حدث مفصلي في تاريخ الدعوة الإسلامية بصفة عامة، ألا وهو حدث الهجرة الذي من خلاله هيأ الله لدينه ولنبيه وللعصبة المؤمنة معه أنفاس حياة فوق أرض جديدة مستعدة ومرحبة بهذا الدين وأهله ترى فيه لها شرفا وتمكينا وقربى إلى ربها، وهذا مشهد تاريخي صاغه كعب شعرًا وأسكنه قصيدته:
يمشونَ مشيَ الجَمالِ الزُّهْرِ يعْصمُهُم == ضرْبٌ إذا عرَّدَ السُّوْدُ التنابيلُ
إنه هاهنا في معرض الحديث عن المهاجرين مادحًا إياهم مفتخرًا بشجاعتهم وقوتهم، ومنهم ينتقل بعدسته الشاعرة إلى الجناح الثاني في طائر هذا الدين، في قصيدة أخرى:
من سرَّه كرم الحياة فلا يزلْ == في مِقْنَبٍ من صالحي الأنصارِ
الباذلين نفوسهم لنبيهم == يوم الهَيَاجِ وسطوة الجبَّار
يتطهَّرون كأنه نُسُكٌ لهم == بدماء من علِقُوا من الكفَّارِ
إن هذا اللقاء بين ما هو تاريخي وما هو فني عبر قصيدة كعب يرحل بنا إلى مرحلة ما بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، حيث يخط الدين لنفسه صفحات جديدة، فيها الاستقرار، وفيها الغزو بدفع الشرك، والسعي إلى إخماد ناره المشتعلة التي يحاول بها عبثا القضاء على الدعوة ومنتسبيها؛ لذا فنحن في هذا المشهد والذي سبق أمام مكونين، أو لو شئنا قلنا: عمودين، قامت عليهما عمارة الدين في عهدها الأول؛ إنهما المهاجرون والأنصار الذين بهما تحقق لهذا الدين عزه ومجده ونصره على القوم الكافرين، والفضل في ذلك لما أراد الله له أن يكون يعود إلى محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء عليه وعلى آله وصحبه الكرام أفضل الصلاة والسلام الذي آخى بين هذين الفريقين تطبيقاً لهذا القانون الذي نزل في قرآن يُتلى إلى يوم القيامة "إنَّما المؤْمِنونَ إخوةٌ"، من الآية العاشرة في سورة الحجرات.
إذًا فنحن في هذه النماذج من "بانت سعاد" أمام ما يمكن تسميته إجمال فني يأتي بعد تفصيل تاريخي واقعي له أسبقية الحدوث من حيث الزمن؛ كأننا مع كعب أمام عرض بانورامي سريع لحدث جلل هز شبه جزيرة العرب ومعه العالم كله، هو حدث خروج نبي آخر الزمان الذي أرسله ربه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وما كان ذلك ليحدث لولا المرور على امتحانات الابتلاء للتمحيص وتثبيت الإيمان، وتأكيد فضيلة الصبر التي يجب أن يتحلى بها الداعي إلى الله، التي لولاها ما كان كعب ولا غيره مؤمنين ينعمون بنعمة الإسلام، نلمح ذلك في قوله تعالى في الآية الثانية من سورة العنكبوت: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُوْن"". لقد صبر عليه النبي، وعفا عنه، فكان نتاج ذلك روحا مؤمنة جديدة تنضاف إلى بنيان هذه الأمة لتكون وقودا مضافا إلى طاقتها في العمل وفي الحركة. ولعل أمارات هذا الامتحان نجدها تاريخيا في الإيذاء الذي تعرض له مسلمو مكة قبل الهجرة، وفي محنة الطرد والبعد عن الأوطان وفي الغزو.
إن القتال فُرِض على المؤمنين وهو كرهٌ لهم كما قال ربنا في الآية السادسة عشرة بعد المئة الثانية من البقرة: "كُتِبَ عليْكم القتالُ وهو كرْهٌ لكم" .
أما عن العلامات النصية في شعر كعب الدالة على ذلك فنجدها في ألفاظ وتراكيب، مثل: "قريش/لما أسلموا زولوا/ في مِقْنَب من صالحي الأنصار/ الباذلين نفوسهم لنبيهم."
إن المقنب هاهنا الذي يأخذنا إلى الحقل الدلالي الخاص بالخيل والفرسان يفتح عدسة الرؤية واسعة على واقع حركي يشير إلى أن انتقال هذا الدين من مرحلة الضعف والامتهان إلى مرحلة النصر والتمكين لم تأت إلا بتضحيات تم بذلها، لتكون النتيجة كما عبر عنها كعب مجملةً في قوله:
صَدَمُوا عليَّا يوم بدْرٍ صدْمَةً == دانتْ لوَقْعَتِها جميعُ نزارِ
إن علي بن مسعود المقصود هاهنا في البيت بمثابة شخصية مفتاحية تأخذنا إلى جماعة الشرك على اتساعها، فمن علي بن مسعود الذي كان يناصب نبينا صلى الله عليه وسلم العداء، إلى بني كنانة، إلى حزب الكفر ومن ينضوي تحته، كل هؤلاء جاؤوا في موقع المصدوم الخاسر بالنظر إلى منطوق كعب الشعري.
يأتي في مقابلها فتح من الله للفئة المؤمنة ظل يتمدد ويقوى وتتسع رقعته أفقيا حتى وصل الأمر إلى الفتح المبين في العام الثامن للهجرة؛ لذا يمكن القول: إن كلمة "جميع" هاهنا في بيت كعب تنطوي على دلالة قلقة لا تنغلق عند معناها الظاهر المحدود البادي في النص "جميع نزار"، بل تشجع على الخروج إلى ما هو تاريخي تمثله السيرة النبوية عند من كتب فيها، كابن هشام والواقدي في كتابه المغازي.. وغيرهما؛ ويفسر هذه الهزيمة لآل الكفر، في مقابل اتساع رقعة أهل الإيمان قوله تعالى في الآية الحادية والأربعين في سورة الرعد "أوَلَمْ يَرَوا أنَّا نأْتي الأرضَ نَنْقُصُها من أطرافها والله يحْكُمُ لا مُعَقِّب لحُكْمِهِ".
ويبدو أن إيقاع المعنى في داخل اعتذارية كعب كان يسير وفق نسق يقوم على التنوع بالانتقال مما هو تاريخي إلى ما هو إنساني عام، إنها الحِكَم التي تضمنتها قصيدته التي بها يخاطب قارئا غير محدد الزمان ولا معلوم المكان؛ انسجامًا ليس فقط مع طبيعة القصيدة العربية منذ عصر الجاهلية التي كانت تحفل بهذه الحكم، ولكن اتساقًا كذلك مع عالمية هذا الدين؛ فهو بما فيه من قيم وفضائل ليس حكرًا على العرب دون غيرهم، ولا على شبه جزيرة العرب دون باقي أجزاء الأرض؛ إن نبينا صلى الله عليه وسلم جاء لينذر أم القرى ومن حولها، جاء رحمة للعالمين وليس لقومه وحدهم في زمان ظهوره؛ لذا يمكن القول: إن الحكمة في اعتذارية كعب على وجه الخصوص يلتقي عندها ما هو فني يشير إلى قانون القصيدة العربية كما رأينا عند زهير بن أبي سلمى وابنه وغيرهما ممن أسكنوا قصائدهم شعر الحكمة، وما هو متصل بعمومية رسالة الإسلام، وكونها للناس كافة وليس للعرب خاصة، ونموذجها في بانت سعاد قوله:
وقلْتُ خلُّوا طريقِي لا أبا لكم== فكلُّ ما قدَّر الرحمنُ مفْعُوْلُ
كلُّ ابنٍ أنْثَى وإن طالت سلامته== يومًا على آلة حدباءِ محمولُ
وبناء على ما سبق يمكن القول: إننا بصدد ما يشبه السرد بالشعر لشيء من السيرة النبوية، يلتقي فيه الواقعي مع المتخيل الفني في علاقة بين الاثنين تقوم على التكثيف والإجمال الفني بإزاء تفصيل لما هو تاريخي، وقد جاء كل ذلك تحت عباءة دلالية وثيقة الصلة بتجربة الشاعر الشعورية وبحياته، ألا وهي عباءة الاعتذار، وقد أتت النتيجة المنتظرة متوقعة مع شخصية نبي عُرف عنه الحلم والعفو؛ إذ أمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعفا عنه، وأضحى مؤمنا صحابيا جليلا رضي الله عنه وعن كل الصحب الكرام.