العدد 46
أحمد بن سلطان الحارثي - السعودية
روي عن الأصمعي أنه قال: (طريق الشعر إذا أدخلته في باب الخير لان).
ويقول: (طريق الشعر هو طريق الفحول مثل امرئ القيس وزهير والنابغة من صفات للديار والرحل والهجاء والمديح والتشبيب بالنساء وصفة الخمر والخيل والحروب والافتخار ، فإذا أدخلته في باب الخير لان).
وروي عنه كذلك أنه قال: (الشعر نكد لا يقوى إلا في الشر ويسهل، فإذا دخل في الخير ضعف ولان).
ويقول أيضاً: (هذا حسان فحل من فحول الشعراء، في الجاهلية فلما جاء الإسلام سقط شعره).
ويرى البعض أن أقوال الأصمعي متضاربة، ويلاحظ أن هذا ناتج عن ضعف الفهم وسقم الإدراك، لأنه حينما قال له أبو حاتم تعقيباً على قوله: (حسان بن ثابت أحد فحول الشعراء)، قال أبو حاتم: (تأتي له أشعار لينة)؛ فرد الأصمعي بقوله: (تنسب إليه أشياء لا تصح عنه).
وجدير بالذكر أن يُنبّه إلى الفرق بين ضعف الشعر في عصر صدر الإسلام وبين ضعف الشعر في أي عصر إذا دخل في أغراض الإسلام وباب الخير.
وشبيه ذلك قول القاضي علي بن عبدالعزيز الجرجاني: (والدين بمعزلٍ عن الشعر).
بعد التأمل في كل ما سبق، قلت مستعيناً بالله:
أولاً: لقد حدد الأصمعي المجالات والأغراض التي يرى أنها هي مقياس الفحولة عندما قال: (من صفات للديار والرحل والهجاء والمديح... إلخ.) وذكر بعض أسماء الفحول على سبيل التمثيل.
ويلاحظ أن الأغراض التي ذكرها الأصمعي تشكل أرضاً خصبة للإبداع عند الشاعر القديم، فهي خالية من الحدود والقيود.
ثانياً: عندما يقول الأصمعي: (لان) و(الشر، الخير) و(نكد) و(يقوى، يسهل، يضعف) و (سقط شعره)؛ فهو يعني ما يقول!.
إن مجيء الأصمعي بهذه الأضداد (الخير والشر، والقوة والضعف) يدحض شبهة من قال: إن اللين الذي أراده الأصمعي هو الرقة والسهولة، نقيض الجزالة والحماسة. وكيف يكون معنى اللين الرقة في حين ذكر الشر والضعف!؟ حتى لو افترضنا أن المراد بذم الرقة: عندما تستخدم في مقام لا يليق بالرقة!. والبرهان الأقوى من كل هذا هو استخدام الأصمعي لتعبير (سقط شعره)؛ فهل يصح أن يفسر السقوط بالرقة؟ أم أن التفسير الذي يتآخى مع السقوط هو الضعف الذي يخرج الشاعر من ملة الفحولة! فلا داعي إذن للتخريجات البعيدة.
ثالثاً: يقول بعض النقاد: إن الأصمعي يتحدث عن الشاعر حسان بن ثابت تحديداً، فلا يجوز تعميم الحكم.
قلت: إن الأصمعي يذكر حسان على سبيل التمثيل، وهذا واضح في تعبيره: (هذا حسان) فكأنه يقول: هذا واحد، وغيره كثير!.
رابعاً: يرى بعضهم أن الأصمعي متناقض، عندما قال له أبو حاتم السجستاني: (تأتي له أشعار لينة) يعني حسان، فقال له الأصمعي: (تنسب إليه أشياء لا تصح عنه)، وكان الأصمعي قد حكم له بالفحولة! في الوقت الذي قال فيه بسقوط شعره!.
قلت: عندما حكم الأصمعي بفحولة حسان أراد حسان الجاهلي، وعندما قال بسقوط شعره أراد حسان المسلم. وبالتالي: فإن كلام أبي حاتم متعلق بحسان الجاهلي قطعاً، إذ ليس من العقل أن يناقش أبو حاتم الأصمعي في شعر حسان بعد الإسلام (في قضية اللين)، لأن الأصمعي مُقِر بلين شعر حسان بعد الإسلام أصلاً.
خامساً: قد لا يلوح للقارئ أي شبه بين مقولات الأصمعي، ومقولة القاضي الجرجاني. ولكني أوردتها لشبه غير مباشر، هو: أن الجرجاني يعول في نقده على الجانب الفني عندما عزل الدين عن الشعر، بينما عول الأصمعي على عامل الدين عندما قال: (فلما جاء الإسلام...)، لأن العامل الديني له أثر بالغ على الجانب الفني.
أخيراً: لقد استخلصت من كل ما سبق أسباباً تمثل رأيي الشخصي، في قضية ضعف الشعر إذا دخل في باب الخير، وهذه الأسباب تنطبق على الشعر القديم والشعر الإسلامي المعاصر على حد سواء.
1- الحدود والقيود والخطوط الحمراء التي يفرضها باب الخير.
2- الخوف من الأوزار المترتبة على بعض التعابير.
3- عدم التعويل على النية من قبل الأديب.
4- كثيراً ما يكون الشعر الإسلامي (تحصيل حاصل).
5- جدير بالشاعر الإسلامي أن يقع في شرك التكرار.
6- الشاعر الإسلامي محروم من الكذب.
7- رتابة الواقعية تأخذ بتلابيب الشعر الإسلامي.
8- الشعر الإسلامي يدور في حدود ضيقة.
9- الشعر الإسلامي غير قابل للتطور بحكم موضوعاته.
10- الشعر الإسلامي لا يستخف الحليم!.