العدد 20
ملف خاص
قصيدة: لماذا انحنيت؟!
للدكتور جابر قميحة - رحمه الله -
من وراء الغيب المجهول صاح طيف الأب المقبور، يتحدث إلى ابنه الذي أهدر ترِكةَ أبيه، ونقَضَ وصيَّتَه..
أَلمْ أُوصِكَ الأمْسَ قَبْلَ الممَاتِ ... فَأيْنَ وَصَاتِي الَّتِي مَا وَعَيْتْ؟
وَفِيهَا كَتبْتُ: "تَزُولُ الجِبَالُ ... ولا تَنْحنِي أَبَدًا" فَانْحَنَيْتْ
وَفِيهَا "سَتَعْصفُ هُوجُ الرِّيَاحِ ... فَكُنْ قِمَّةً صُلْبَةً" فَانْحَنَيْتْ
وَفِيهَا "سَيمتدُّ لَيلُ الأسَى .... فَلا تَبْتَئِسْ بالأسى" فَانْحَنَيْتْ
وَفِيهَا "يَكُونُ جَفَافٌ وَجُوعٌ .... فَمُتْ بِالطَّوَى شَامِخًا" فَانْحَنَيْتْ
وَفِيهَا "انتَصِرْ بِالثباتِ العَتِيِّ ... وَبِالصَّبْرِ فِي عِزَةٍ" فَانْحَنَيْتْ
وَقُلْتُ: تَجَنَّبْ مَخَازِيْ الطَّرِيقِ.. ولكنْ لخزيِ (الطَّريقِ) انتَهَيْتْ
وعَانقْتَ فيهِ الأَفاعيْ الكِبارَ ... ومِن سُمِّها – يا غبيُّ – ارتوَيْتْ
فَأين وَصَاةُ أبِيكَ الَّذي ... إلى دِفْءِ مُهجَتهِ قدْ أَوَيْتْ؟
وكَمْ سهِرَ اللَّيلَ يَحمِي حِماكَ وَيبكِي دِماءً إذَا ما بَكَيْتْ
ويَحملُ عنْكَ هُمومَ الحَياةِ ... ويَرْعَى الذي بعدَهُ مَا رَعَيْتْ
عَصيتَ وَصَاتِي التي صُغْتُها... بدمِّي، وللمُخزياتِ مَشيْتْ
وكُنْتُ أَظُنُّكَ نِعمَ الوَريثُ ... فكيفَ تَبيعُ الذي مَا اشتريْتْ؟
فبعْتَ جَوادِي الأصيلَ الكريمَ ...وأُمًّا، وأُخْتًا، وأَرْضًا، وبَيْتْ
وشعرِيَ بعْتَ، ونخْلِيَ بعْتَ ... وسيْفِي، ورُمْحِي، وسَرْجَ الكُمَيْتْ
وبعْتَ سريرِي الذي فَوقَهُ ... وُلِدْتَ، وكمْ نمْتَ.. حتى اسْتَوَيْتْ
لِلِصٍّ بَغِيٍّ، عُتُلٍّ، زَنِيمٍ ... على قدَمَيهِ – خَسئْتَ – ارتَميْتْ
لِتَلْثِمَ نعْلَيهِ في ذِلَّةٍ ... وتَلْعَقَ طِينهمَا.. مَا استَحَيتْ
فكيفَ تَبيعُ التُّراثَ العزيزَ ... بكِسْرَةِ خبزٍ ونقطةِ زَيتْ
وتاجٍ من الشوكِ يُدمِي الجبينَ .. ووَعْدٍ كذوبٍ، وكَيْتَ وكَيْتْ"؟!
وعرشٍ حقيرٍ، لهُ لمْعةٌ ... من البهرجاتِ.. إليهِ ارتقيْتْ؟
ولمْ تدْرِ أنَّكَ حين اعتليْتَ ... هَبَطْتَ بمَا أنْتَ فيهِ اعتلَيْتْ
وفي موكبِ الذُلِّ صرْتَ الأميرَ.. ذليلاً كسيحَ المسارِ مشيْتْ
فلا تمْلكُ الأمرَ إمَّا تَشَا ... ولا النهيَ تملكُ إمَّا نويْتْ
وتصدعُ بالأمرِ إمَّا أُمِرْتَ ... وينفذُ أمْرُ العِدا إن نَهيْتْ
فلمَّا سكرْتَ بخمرِ الخِداعِ ... ومالَتْ بكَ الخمرُ لما انتشيْتْ
غدَوْتَ لغيرِكَ أُضحوكةً فليسَ... سِوى الخُسْرِ ما قدْ جَنيْتْ
وقلْنَا: اكتفيْتَ بما قدْ جَمَعْتَ ... مِن العَارِ.. لكنَّما ما اكتَفيْتْ!
فعن قوسِ أعدائنا قد رَمَيْتَ ... فوا حسرتاهُ على من رَمَيْتْ!
بسهمكَ خرَّ عزيزٌ أَبِيُّ بجَمرِكَ ... قلبًا طهورًا كَوَيْتْ
أتحمِي حياةَ العدوِّ العَقورِ وأيضًا ...تُراثِي لهم قدْ حميْتْ؟!
أأَبكِي عليكَ؟ أأبكِي إليكَ؟ ... أأبكِي علينَا لِمَا قدْ جَنَيْتْ؟
ففي غدِكَ المُستباحِ الجريحِ ... ستَصرخُ: "ياليتَني ما انحنَيْتْ"
ويرتدُّ سَهمُكَ في مُقلَتيكَ ... ولَن يُنقِذَ البَيتَ آلافُ "لَيْتْ"
فليسَ لما قدْ كسَرْتَ انجِبارٌ ... بما قَد جرَرْتَ، وما قدْ غَوَيْتْ
وتُدْركُ بعدَ فَواتِ الأَوانِ ... بأنَّكَ لمَّا انْحَنَيْتَ.. انْتَهَيْتْ
ومَا دُمْتَ قدْ بِعْتَ حتَّى الحُطامَ ... ولَم تُبْقِ أُمًّا، وأرضًا وبَيْتْ
فإنِّيَ أخشَى غدًا أنْ تَبِيعَ ... عِظَامِيْ، وقبرًا بِهِ قدْ ثَوَيْتْ